في مثل هذا الوقت من العام الماضي، متأملةً في نبتة "الويستارية" في متنزَّه "باترسي" اللندني، كنت أتحدّث إلى صديق حول التحدِّي الذي يطرحه تشجيع الطائفة الواسعة من البستانيِّين الجدد، الذين وقعوا في حبّ النباتات المنزليّة، على توسعة الزراعة الخارجية.
شهِد العقد الماضي زيادة غير متوقّعة في البستنة الداخلية. بحسب ما وجدت صحيفة "الإيكونوميست" في عام 2018، يُعزى ثلث مبيعات النباتات المنزليّة في الولايات المتحدة الأميركيّة إلى جيل الألفية. تناولتُ تلك الظاهرة ما إن تبدّت. أنا أيضاً بستانيّة مدينيّة من جيل الألفية، صودف أنّ لديها بضع نباتات منزليّة. مع ذلك، عملت جاهدةً بغية إيجاد سبيل لإرشاد الناس نحو حواف نوافذهم والمساحات المجتمعيّة الخضراء، كي يزرعوا ويهتمّوا بمزروعات أبعد من نطاق نباتات البيت الإستوائية.
ولكن لم يدرك أيّ منّا أن ذلك سيتطلّب وباءً عالمياً.
كان أحد الآثار الجانبية الأكثر بهجة التي خلّفها "كوفيد- 19"، والإغلاق على مستوى البلاد، الاهتمام المتجدِّد بالأشياء التي تنمو. ما إن لاح الإغلاق، حتى نفَدَت البذور والأسمدة لدى مراكز الحدائق، إذ اعتقد الناس أنّهم ربما سيزرعون غذاءهم خلاصاً من نقص المواد الغذائيّة.
في الأسبوع الماضي، بشَّر الافتتاح المؤقّت لمراكز الحدائق برجوع متثاقل الخطى إلى شكل من الحياة الطبيعيّة. ربما يكون "معرض تشيلسي للزهور" في لندن قد بُثَّ عبر الإنترنت، بيد أنّ الطبيعة استمرّت على أيّة حال. في نزهاتنا اليوميّة، انضمّت إلينا أزهار الورد والنرجس البريّ، وعلى نحو متزايد في المنزل لجأنا إلى الأرض حريصين على التواصل مع العالم الخارجيّ بآفاقنا المتقلِّصة الجديدة.
بالنسبة إلى أولئك الذين زرعوا الكثير سلفاً، حمل الإغلاق نعمة مستترة: جرعة على حين غرّة من الوقت في المنزل لزراعة البذور، والاعتناء بالنباتات التي عادة ما أخذتنا بعيداً عنها الحياة اليوميّة والاجتماعيّة.
ولكن كان باعثاً على النشاط أكثر أن نرى أولئك الأشخاص الذين لم يسبق لهم قط أن زاولوا البستنة يستفيدون إلى أقصى حدّ من أيّة مساحة خارجيّة لديهم: زراعة البذور في أكواب البيض وتركها على النوافذ، وتنظيف الحدائق الخلفيّة المشتركة، وتسجيل طلبات شراء لدى المشاتل، وتجربة الزراعة باستعمال الأسمدة العضويّة.
لمّا كنتُ بستانيةً علّمت نفسها بنفسها، كان من بالغ سروري حقاً أن أرى آخرين من سكان المدن ينشغلون بالبستنة. غالباً ما يتعرّض جيل الألفية للسخرية بسبب انجذابه إلى النباتات المنزلية؛ يعكف الناس على الازدراء من ذلك على اعتبار أنّها علامة على عجز عام يعترينا، مشيرين إلى أنّنا نهتمّ بالنباتات لأنّنا أخفقنا مثلاً في شراء منزل أو في تربية الأطفال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن لطالما قلت إنّنا نتوق إلى التواصل مع العالم الحيّ الذي ما كنّا قادرين البتة على رعايته. كانت التسعينيات من القرن العشرين حقبة من نظام التشغيل "ويندوز 95" وأرضيات تغطي العشب في الحدائق الخلفيّة؛ غدونا الجيل الأول الذي نشأ مع شبكة الإنترنت والجيل الأخير الذي أمضى طفولته من دونها. موجة شديدة من التقدّم التكنولوجيّ راقبتنا نمسي بارعين في التعامل مع الشاشة وذوي صبر محدود. لا عجب أنّنا وجدنا البهجة والتجديد في متعة متمهِّلة بعثتها فينا مشاهدة ورقة جديدة تتبدّى للعيان.
وفي الإغلاق، حينما يكون الوقت ماكراً ومتغيِّراً، وتتجلّى المخاوف بشدّة، تبدو الحاجة إلى التريّث والانخراط في شيء صغير وبسيط وواعد، وهو جوهر البستنة صدقاً، أقوى من أيّ وقت مضى.
ربما يبدو من العبث، إن لم يكن عديم الجدوى، أن تقوم في زمن المرض والوفيات غير المسبوقين بأمر يحتاج إلى بذل مجهود وتافه في الظاهر، على غرار زراعة البذور. لكن أن تزرع يعني أن توافق بقوة على أن يحدوك الأمل. في مقدور حفنة من تراب، وبذرة صغيرة، ورشة ماء، وضوء النهار أن تتشابك لتعطي ذلك الكائن الأكثر إلهاماً في مشاهد الحياة اليومية: برعم أخضر.
تزداد تلك البراعم الخضراء طولاً وعرضاً وتلوّناً. ومعها تتغيَّر بقية العالم. تُورِق أغصان الأشجار، ويغدو العشب طريّاً وضبابيّاً، وتطول النهارات.
ربما لن نخرج من الإغلاق، وقد لا نعرف ما يخبئه لنا المستقبل الأكبر. ولكن ندرك أنّ في زراعة بذرة تكمن فرصة لإحياء الأمل على حافة نافذتنا.
في زمن قد يبدو التطلّع نحو مستقبل الأمور تصورّاً بعيد المدى، يغدو ذلك الأمل بالنمو شيئاً قويِّاً للعيش من أجله.
("البذور من الصفر" لأليس فينسنت، متاح الآن في كتاب مسموع (عن دار النشر البريطانية "هودر وستوتون"). اشترِ الكتاب المسموع أو استمع إلى مقتطفات منه)
© The Independent