عُرفت فكرة الزراعة من دون تربة قديماً في حدائق بابل المعلقة وفي المكسيك والصين، ووصِفت في الكتابات المصرية القديمة ووثِقت على شكل رسومات اكتُشفت على جدران المعابد المصرية في محافظة الأقصر، إلا أن تجاربها في تاريخنا المعاصر بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، وطُبقت خلال السنوات الثلاثين الماضية على نطاق واسع في دول عدة مثل هولندا وكندا واليابان التي طورتها تقنياً واستثمرتها بشكل ملفت.
ويتوقع اليوم أن ينمو سوق هذه الزراعة في أميركا بشكل كبير لتصل قيمته إلى حوالى 724 مليون دولار تقريباً بحلول عام 2023. أما في الدول العربية فما زالت المحاولات فردية أو مدعومة جزئياً من منظمات تُعنى بالأغذية والزراعة، ولم تُستثمر رسمياً للاستفادة منها بمد السوق بالاحتياجات الغذائية اليومية بسعر أقل وجودة غذائية أعلى.
من دون تربة
طرح باحثو فيزيولوجيا النباتات فرضية أن النباتات تمتص العناصر المغذية في صورة أيونات غير عضوية ذائبة في الماء، أما التربة فتعمل كمستودع لهذه العناصر أي أن التربة نفسها غير ضرورية لنمو النبات، بالتالي من الممكن الاستغناء عنها بتوفير وسط بديل يمد النبات باحتياجاته الغذائية، فطُرحت فكرة الزراعة المائية كحل للمشكلات التي تواجه الزراعة التقليدية من تناقص الأراضي الصالحة للزراعة وعدم توفر المساحات والزحف العمراني وشح المياه وانخفاض جودة التربة وكثرة مشاكلها المتعلقة بالأمراض والأعشاب الضارة وزيادة الملوحة وغيرها.
وتقوم هذه التقنية على ثلاثية الماء والمغذيات والضوء لإنتاج النباتات في وسط بعيد عن التربة، حيث يستخدم فيها مزارع "لا أرضية" تُصمم وتوضع في أماكن توفر فترات تعرض للشمس لا تقل عن 4-5 ساعات يومياً، وتُروى بالمحاليل المغذية بدلاً من الماء العادي في نظام ري مغلق أو مفتوح.
وتُطبق هذه التقنية بطرق عدة تُصنَف بحسب وسط النمو إلى "الزراعة باستخدام البيئات البديلة للتربة"، ومنها البدائل العضوية مثل البيتموس (الطحالب) ونشارة الخشب، وغير العضوية مثل البيرلايت (الزجاج البركاني) والفيرميكولايت (معدن طبيعي) وحبيبات الرمل، و"الزراعة الهوائية"، و"الزراعة المائية" باستخدام ماء ومحلول مغذٍ.
وتُزرع في هذه الأنظمة الخضار والفواكه مثل الخيار والبندورة والكوسا والفريز، والنباتات الورقية مثل الخس والجرجير والبقدونس، والنباتات العطرية مثل النعناع والريحان والبردقوش، والنباتات الطبية مثل الكمون والروز ماري وحبة البركة والكركدية، وأشجار الفواكه المُقزمة مثل التفاح والليمون والمانغو.
الزراعة المائية Hydroponics
تُعد الزراعة المائية إحدى نظم الزراعة من دون تربة، أخذت تسميتها من المصطلح اليوناني مؤلف من كلمتين (Hydro) وتعني الماء و(Ponos) وتعني العمل، وهناك أنظمة عدة تؤسَس عليها المزارع المائية لكن أشهرها نظام الفيلم المغذي NFT الذي يعمل على التدفق المستمر لمحلول المغذيات بشكل مباشر إلى جذور النباتات، فتوضع أُصص النباتات (الوعاء الذي يحملها) بعد تثبيتها بمادة داعمة في دوائر علوية مخصصة لها على طول أنابيب "بي في سي" pvc. وتعمل تلك الأنابيب كحوامل للأُصص وكذلك تؤمّن معبراً لمرور المحلول إلى جذور النباتات. ويُرفع المحلول من خزان مخصص إلى الأنابيب بواسطة مضخة صغيرة غاطسة تدفع الماء عبر خراطيم ليمر عبر الأنابيب (التي تكون مائلة بمقدار معين) بالتتابع ثم يعود مرة أخرى إلى الخزان في دورة مغلقة، كما يُضبط وقت تشغيل المضخة آلياً بمعدل لا يتجاوز ربع الساعة كل ساعتين.
تُمَد النباتات في الزراعة التقليدية بالغذاء عن طريق العناصر الغذائية الموجودة في التربة الزراعية والأسمدة، أما في الزراعة من دون تربة، فيُستخدم مركب سائل يُخلط بالماء يحتوي على المواد المغذية الضرورية لحياة النبات بنسب مدروسة. وتُقسم العناصر المغذية إلى عناصر كبرى يحتاجها النبات بكميات كبيرة، وصغرى يحتاجها بنسب أقل. من أشهر أنواعه "محلول هوغلند" الذي يتكون من محلول A (كالسيوم وجزء من النتروجين والحديد المخلبي وغيره) ومحلول B (بقية العناصر الغذائية الأخرى الكبرى والصغرى).
ويُتابَع المحلول يومياً بمراقبة وقياس تركيزه من الأملاح ودرجة الحموضة والقلوية PH ونسبة الرطوبة ودرجة الحرارة وتضاد العناصر.
إيجابيات وسلبيات
توفر الزراعة المائية مقارنةً بالزراعة التقليدية ما يصل إلى حوالى 70 إلى 90 في المئة من المياه لأن نظام الري المغلق يقلل التبخر بشكل كبير، كما توفر حوالى 90 في المئة من الأسمدة و80 في المئة من الأيدي العاملة، وتنتج كمية محاصيل أكبر مع معدل نمو أسرع مرة تقريباً، فالخس الذي يتطلب نموه في التربة 50 يوماً ينمو في الزراعة المائية في حوالى 28 يوماً، بالإضافة إلى أنها تتطلب مساحة زراعة أصغر بكثير بسبب استخدام نُظم بناء شاقولية أو هرمية مع مسافة أقل بين النباتات، فكل 1 دونم زراعة مائية، يقابله 3 دونمات تقريباً في الزراعة التقليدية.
في الزراعة التقليدية تكافح النباتات للحصول على المواد المغذية من التربة مما يسبب بتوسع أفقي في الجذر على حساب النمو الشاقولي للنبتة، أما في الزراعة المائية فيصل المحلول المدعم إلى الجذور لتمتص منه حاجتها بالتالي نحصل على ثمار بفوائد غذائية أكبر، والأهم أنها صحية وبعيدة عن المبيدات والأدوية الكيماوية. لكن يتطلب إعداد المزرعة في المرة الأولى وقتاً طويلاً وتكلفة كبيرة نسبياً. ويحتاج المشروع إلى إدارة ومراقبة يومية للمحلول وتبدلاته، كما من الممكن أن يشكل انقطاع التيار الكهربائي عائقاً في بعض البلدان العربية لأن المشروع يعتمد بشكل أساسي على عمل المضخة التي قد يقتل توقفها عن العمل النباتات خلال ساعات، لأن وسط النمو البديل لا يخزن المياه كما تفعل التربة، والحل يكون غالباً باستخدام الألواح الشمسية لتوليد الكهرباء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تجربة محلية
ربما يبقى هذا الكلام نظرياً في أذهان البعض حتى يراه منفذاً بشكل فعّال ومُنتج على أرض الواقع، وهذا ما قام به المهندس السوري عبد الرحمن المصري الذي أسس على سطح منزله في مدينة بيت سحم في ريف دمشق منشأةً زراعية على طريقة الزراعة المائية بمساحة لا تتجاوز 65 متراً مربعاً وباستيعاب 1200 شتلة.
وكان يشكل البذور بدايةً على لوح من الفلين حتى تنبت، ثم ينقلها إلى أكواب بلاستيكية مثقبة من الأسفل، ويثبتها في الأكواب باستعمال مادة الخفان العديم التفاعل مع الماء، لتتابع بقية المراحل وصولاً إلى المراقبة اليومية للمحلول. تغلب عبد الرحمن على مشكلة انقطاع الكهرباء باستخدام بطارية ومحول Inverter لتزويد المضخة بالكهرباء، ويَتوقع أن تنتج كل شتلة من الخيار حوالى 8 إلى 12 كيلوغراماً تقريباً في كل موسم.
كما أن لعبد الرحمن المصري تجارب أخرى في إطار الزراعة المركبة باستخدام نظام (الأكوابونيكس Aquaponics) الذي يقوم على مبدأ التكافل الغذائي ويجمع بين الزراعة المائية وتربية الأحياء المائية، للاستفادة من مياه الأحياء المائية التي تحتوي على مخلفات غذائية أيضية وبقايا عضوية من الغذاء لري النباتات ضمن دورة مغلقة.