عندما تُذكَر دولة جنوب السودان، ترى ذكريات الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب التي استمرت أكثر من نصف قرن. وحين تظهر أسماء مناطق مثل واراب أو جونقلي وعاصمتها "بور" وكذلك مدينة "البييبور"، في أهازيج المحاربين من الجهتين وبلغتين مختلفتين، يدرك السامع أن هذه المنطقة هي مهد لحروب لم تنته فصولها، وإن تغيّر اللاعبون الأساسيون. فما إن انتهت الحرب الأولى حتى نشأت أخرى من بين ثغور الصراعات القبلية والعرقية المتجددة في بلدٍ تحمّل مشقة الإبحار في غياهب الانفصال، ليحصل على استقلاله قبل تسع سنواتٍ فقط. ومنذ الانفصال فُرضت عقوبات أميركية على قادة الدولة، بسبب تورط الحكومة والمتمردين في ارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان، في أثناء فترة الحرب التي امتدت سنوات، وشراء أسلحة في أثناء المجاعة.
شرارة البداية
تعدُّ أحداث العنف في ولاية واراب حلقة في سلسلة الصراع في دولة جنوب السودان، بدأت في عام 2013 بعد الانفصال بسنتين. وكان الصراع تحوّل من حرب أهلية "شمالية - جنوبية" بمحرِّكات أصولية دينية في ظل السودان الموحَّد، إلى حرب أهلية "جنوبية - جنوبية" بدوافع إثنية.
واندلعت أعمال العنف ابتداءً من العاصمة جوبا في عام 2013، بعد قيام نائب الرئيس السابق المُقال رياك مشار بمحاولة انقلابية، تحوّلت إلى صراع قبلي، ليصيب لهيبها هيكل الدولة الوليدة، ويتطاير شررها منذراً بزعزعة الأمن الإقليمي. وسرعان ما امتدت الحرب إلى أجزاء أخرى من البلاد، ومن ضمن المناطق التي تأثَّرت بأعمال العنف كانت ولاية جونقلي التي كثيراً ما واجهت خطر الاشتباكات العرقية. وتصاعد القتال بعدما أجبرت قوات متحدرة من قبيلة النوير، جنوداً موالين الرئيس سلفاكير ميارديت على الفرار من حامية في مدينة بور عاصمة الولاية.
ولهذه الولاية التي تُعد من أكبر ولايات جنوب السودان أهمية تاريخية، فهي تختزن ذكريات الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب. وطرَق اسم مدينة بور أسماع الجنوبيين والشماليين لزمن طويل، بوصفها مسرحاً للحرب، وكثيراً ما جاءت في برامج تؤرِّخ لذكريات الحرب.
صراع مركَّب
تسكن آثار الحرب الأهلية كيان دولة جنوب السودان، إضافة إلى طبيعة المجتمع الجنوبي المستعد للمواجهة. وقامت "الحركة الشعبية لتحرير السودان" في تأسيسها الثاني في ثمانينيات القرن الماضي بزعامة جون قرنق في مايو (أيار) 1983، بالاعتماد على القبيلة مكوّناً أساسيّاً، يمثلها زعيم الحركة نفسه الذي ينتمي إلى قبيلة الدينكا.
ولا تزال القبيلة العنصر الأهم في دوافع الصراعات والانشقاقات السياسية. وانشقت بعض المجموعات عن الحركة وجيشها، مثل الانشقاق الأكبر لـ"مجموعة الناصر" بقيادة رياك مشار المنتمي إلى قبيلة النوير ولام أكول من قبيلة "الشلك" عام 1991.
وترك ذلك الانشقاق شروخاً في العلاقة بين مجموعة العقيد جون قرنق ومجموعة "رياك مشار - لام أكول". وإذا كانت دولة الجنوب ما هي إلا النتاج الذي أفرزته سنين الحرب الأهلية المرعبة، فإنّ القبائل الجنوبية وعلى مدى تاريخ علاقاتها بالشمال، لم تكن سواسية في أدوارها وتمثيلها لشعب الجنوب في حالتَي الحرب والسلم، فكثيراً ما كان يُميَّز بين قادة الحركة بناءً على انتمائهم القبلي.
وحين وُقِّع اتفاق السلام الشامل في نيفاشا عام 2005 حظي أبناء بعض القبائل الكبرى بمقاعد في السلطة بالخرطوم ضمن "حكومة الشراكة"، وأُقصي البعض الآخر. وإضافة إلى النظام السياسي الهشّ الذي ورثته دولة جنوب السودان، فضلاً عن الاقتصاد الضعيف والتعقيدات الاجتماعية، كانت هناك قابلية كبيرة تحوّلت بموجبها الخلافات السياسية بين قادة الحزب الحاكم في الدولة إلى صراع قبلي.
وتأسست هذه القابلية على أرضية الولاءات العشائرية التي لم يترفّع عنها كيان الدولة الحديثة ومؤسسة الحكم المدعومة بهذه الانتماءات والتحالفات القبلية. يُضاف إلى ذلك أن شخصية الرئيس سلفاكير تفتقر إلى الكاريزما، واتهمته مجموعة "أولاد قرنق" بأنه تسبب بفقدان قيادة "الحركة الشعبية" روح الزعامة التي كان يتحلّى بها زعيمها الراحل جون قرنق.
حيازة الأرض
وانعكست هيمنة واستقواء القبائل الجنوبية على بعضها بعضاً، على أرض الدولة الجديدة في شكل صراعات من أجل البقاء في المناطق الخِصبة الصالحة للرعي، الذي يُعدُّ النشاط الاقتصادي الأول في الجنوب. وشكَّل الاستيلاء على الأراضي الخصبة والموارد رغم قِدمه في المنطقة وبدائيته أحد أسباب الصراع الدائر الآن.
وورثت دولة الجنوب إقليماً يسود فيه النظام القبلي الإقطاعي، فحيازة الأرض لا تخضع لقوانين معلومة، كي تتعامل مع ظروف تنقّل القبائل الرعوية، كما أنه للسبب ذاته لم يُتح لأي تعداد سكاني أن يكون بالدقة المطلوبة نسبة إلى الكثافة السكانية العالية والتنقلات تبعاً للتغييرات البيئية. والدولة الحديثة بميراثها لشعب تتعدد إثنياته ولهجاته وعقائده الروحانية، تضع كل السلطة في يد زعيم القبيلة التي تُعدُّ المكوِّن الأساس لمجموعة السكان.
والصراع حول المرعى في جنوب السودان قديم، لكنه تطوّر بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل حول ملكية الأرض وازدياد نفوذ القبائل واستقوائها على بعضها بعضاً نتيجة لعودة الجنوبيين من الشمال ومن خارج السودان. وتأثرت بذلك المناطق التي تعاني تلك الصراعات القبلية، مثل منطقة البحيرات، خصوصاً منطقتي جونقلي والبيبور، واللتان تُعتَبران بؤرتين ملتهبتين، إضافة إلى مناطق أعالي النيل. وازداد الوضع سوءاً نتيجة انعدام سبل الاستقرار مع فقدان البُنى التحتية بسبب عدم التفرغ لمشروعات التنمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معتقدات شعبية
من الأسباب التي تغذي الصراع أيضاً معتقدات شعبية سائدة، وأحدها أدّى إلى احتدام العنف القبلي المستمر لغاية الشهر الماضي في ولاية جونقلي، ويعود إلى رد قبيلة النوير (حاميون) على قيام قبيلة المورلي (حاميون نيليون) بخطف الأطفال من مضاربهم، وفقاً للاعتقاد بأن قبيلة "المورلي" تعاني لعنة العقم الجماعي، وهي تخطف لهذا السبب الأطفال والنساء للمحافظة على جنس "المورلي".
ووفقاً لهذه المعتقدات، لا تعدّ القبيلة خطف الأطفال والنساء جُرماً تُعاقَب عليه، بل تبرره كما تبرر سرقة الأبقار، وهي عادة منتشرة بين القبائل المتناحرة، وتدخل في خانة الشجاعة التي يتفاخرون بها. وتمثِّل الأبقار وعددها أحد معايير المكانة الاجتماعية لقبائل جنوب السودان، لذا فإن سرقتها دخلت عنصراً إضافياً في احتدام الصراع.
وردّاً على ذلك حرّكت قبيلة "النوير" قوات قوامها 8000 مقاتل، وشنّوا عمليات مشابهة لما قام به المورلي من حرق للقرى وسرقة الماشية وخطف الأطفال. هذا العنف الدموي تحوّل من عنف اجتماعي إلى سياسي، ما يعني مزيداً من الشقاق القبلي، فبينما زاد استقطاب المعارضة في الجنوب لأحد الطرفين على حساب الآخر، جرى مدّ "المورلي" بالسلاح لتغذية الصراع القائم أساساً على الموارد، وبطريقة تبدو وكأنها عمليات سلب ونهب وردود فعل انتقامية.
آثار الصراع
تواجه تحديات عدة حكومة جوبا، وتقعدها عن الإمساك بأطراف النزاعات الدائرة. ويوجد عجز يلازمها في التدخل لفض هذا النزاع الدائر في مناطق معزولة وأخرى ممتدة، فعلى الرغم من تعزيزات قوات السلام الدولية فإنها لم تتمكّن من فض الاشتباكات الدائرة. كما أن هناك تحديّاً آخر يكمن في انتشار السلاح وصعوبة جمعه من المواطنين بعد انتهاء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب. ويوجد اعتقادٌ سائد لدى النخبة الجنوبية الشريكة في الحكم في زمن وحدة السودان بأن "حكومة الإنقاذ" السابقة عملت على تجريد الجنوب من أي شأن استراتيجي وتسليح القبائل ودعم المتمردين على حكومة الجنوب، لتصعيد العنف القبلي وعدم استقرار الدولة.
وتواجه حكومة الجنوب تحدي الاستقرار السياسي والعسكري والاجتماعي، في دولة تعاني الصراعات المترسّخة، ما يجعلها في مواجهة أنواع عدة من العنف النابع من التوترات المحلية في إقليم خَبِر الصراعات وخبِرَته نتيجةً لانتشار التسلح، وتكاثر فصائله المكوَّنة على أساس إثني.
كما أن التوتر الأمني في البلد الفتيّ إضافة إلى وجود بؤر الصراع المفتوحة في منطقة القرن الأفريقي سيُلقيان بظلال كثيفة على أمن المنطقة بكاملها. وإذا كان النزاع في ولاية واراب، في وسط الدولة يخلخلها من الداخل، فإنّ الصراع المستمر في ولاية جونقلي المتاخمة للحدود الإثيوبية، سيفتح الباب لأديس أبابا، ويمكّنها من الاستثمار في الأزمة، وتقوية موقفها التفاوضي المتشدد في ما يتعلق بالنزاعات الحدودية، وفرض مطالبها المتعلقة بالحدود بين الدولتين.