بعد أن كانت لبوة سودانية "محظوظة" قبل حوالى أربعة أشهر، تصارع سكرات الموت، جوعاً وسقماً وهزالاً، لا تقوى حتى على الوقوف، وقد صارت مع رفقاء لها بمحبسها في حديقة القرشي للحيوانات وسط الخرطوم، بعض أجساد وعظام يكسوها الجلد، لكنها، وبسرعة تجاوب المنقذون، والتقطت بعض أنفاسها، ومن بين دفء رحم المعاناة، ووجع المأساة، انجبت مطلع الأسبوع الماضي أربعة أشبال أصحاء، بمستقرها الجديد في محمية الدندر الطبيعية السياحية على الحدود السودانية - الإثيوبية.
وخُصص للبوة، قفص بكامل الخدمات والرعاية الصحية البيطرية، لتتمكن بعد كثير من الرعاية والاهتمام، بالمحمية من استعادة عافيتها وحياتها الطبيعية، ثم لتجد شريكاً يقاسمها الحياة، تهزم معه شبح الموت وتهدي إرادة الحياة من جديد.
وتكشفت فصول المأساة الأولى، حينما زار الناشط السوداني عثمان صالح وبالصدفة، حديقة القرشي للحيوانات وسط الخرطوم، برفقة ابنه الصغير، ليتفاجأ بمشهد صادم "لأشباح" ستة أسود في حالة مزرية، من الجوع والمرض، شارفت على الهلاك، وفقد بعضها ثلثي وزنه، فوثق تلك المشاهد، وبثها عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وسرعان ما تحولت إلى حملة إلكترونية كاسحة، ووجدت تفاعلاً دولياً وإقليمياً ومحلياً واسعاً، ما أدى إلى تحرك عدد من الناشطين والمنظمات العالمية، حضر بعضها إلى الخرطوم لتقديم العون والمساعدة، وأسفرت الجهود عن نقل اللبوة المنكوبة إلى محمية الدندر الطبيعية.
الأمل والعناية
ووصف العميد بشرطة الحياة البرية محمد علي محمود، مدير الحظيرة ولادة اللبوة بعد كل الظروف المأساوية والمعاناة التي مرت بها، بأنه حدث يدعو إلى التفاؤل ويبعث على الأمل، وقال لـ "اندبندنت عربية"، "بعد أن يئس البعض من حياتها، ها هى بحمد الله تنجب أربعة أشبال في ظروف جيدة باستراحة حديقة الدندر القومية، بعد أن تم ترحيلها من حديقة القرشي، وخضوعها لبرنامج عناية بيطرية وصحية بجهود مشتركة كبيرة من رئاسة الإدارة العامة لحماية الحياة البرية، وولاية الخرطوم ومحمية الدندر القومية". أضاف "لا يسعني إلا أن أقول، سبحان من يحيي العظام وهي رميم، وما أجمل تلك اللحظات التي تشعر فيها بقيمة إنقاذ حياة مخلوق بريء، ما كان مبعثاً للرضا لولا التفاؤل لدى كل العاملين بالحظيرة، عن الأداء والمجهود الذي بذلوه، ما جعل الحياة تستمر بالأمل والعمل معاً".
وأكد محمود أن الأشبال الأربعة، ذكران وأنثيان، بصحة جيدة، ويمثلان إضافة إلى ثروة استراحة الحظيرة، لتصبح الآن، ثلاثة أسود وثلاث لبوات، معرباً عن شكره وتقديره لكل من أسهم في إنقاذ حياة اللبوة التي كانت على وشك الموت، وعاشت ظروفاً قاسية أنهكت صحتها، ما جعلها تحتاج إلى الدعم والتدخل الصحي والغذائي العاجل، ما حدا بإدارة الحظيرة إلى إسعافها بسرعة، ببعض العقاقير والمقويات والعلاجات نتيجة الهزال الذي أصابها، ووضعها تحت العناية الحثيثة، ونظام غذائي جيد، تحت إشراف المختصين بالحظيرة، بخبرتهم الكافية في التعامل مع الحيوانات البرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رحلة الآمل الجديد
وفي السياق، أوضح مسؤول القطاع البيطري بالحظيرة، الملازم أول طبيب بيطري خالد ميرغني التوم، الذي أشرف على ترحيل ورعاية اللبوة، لـ "اندبندنت عربية"، أنها كانت في حالة متردية، وتعاني من الضعف الشديد والجفاف بسبب الجوع والمرض، كما أنها سبق وأن أنجبت بحديقة القرشي، لكنها اضطرت إلى أن تأكل صغارها الأشبال.
أضاف "تم ترحيل اللبوة بواسطة شاحنة صغيرة مزودة بقفص مخصص لذلك، ولم يتم تخديرها نظراً لحالتها الصحية، لكن تم استدراجها بالطعام إلى داخل القفص، واستغرقت الرحلة زهاء ست ساعات، أبدت فيها اللبوة بعض الهياج والعصبية، ما دعا للسيطرة عليها بواسطة بخاخ مخصص للتهدئة".
وحول استقبالها وإدماجها في منظومة الحظيرة، قال المسؤول البيطري، "فور وصولها إلى الحظيرة، في الأسبوع الأخير من ديسمبر (كانون الأول) تم حجزها لمدة ثمانية أيام مع العناية الطبية، بالوجبات والماء الكافي وبعض الفيتامينات للتخلص من حالة الجفاف التي كانت تعتريها، ولغرض التعارف وإلى حين تحسن صحتها تم وضعها في قفص منفصل مجاور للأسد، وبعد شهر ظلت حوالى ثلاثة أيام في حالة عداء وتعدّ على الأسد، ولكن سرعان ما بدأت الأوضاع تتحسن، بالتعود والتعارف لتنشأ بينهما علاقة القفص الواحد، بعد حوالى 32 يوماً من وصولها إلى الحظيرة، وظلت هناك مراقبة ومتابعة إلى أن تأكد لنا أن التزاوج والحمل قد تم بالفعل، والذي غالباً ما يستغرق بين 109 و110 أيام".
وأعتبر التوم أن ولادة اللبوة، لأربعة أشبال بصحة تامة، بعد خروجها من حالتها الصحية المتردية، أمر غير معتاد وفوق المتوسط، إذ إن متوسط ولادة الأسود بين اثنين وثلاثة أشبال، وذلك بفضل العناية والتغذية الجيدة التي وجدتها اللبوة بالحظيرة.
أسود القرشي تتعافى تدريجاً
وفي زيارة "اندبندنت عربية" إلى حديقة القرشي بالخرطوم لتفقد بقية الأسود، شريكة اللبوة في مأساتها، وجدت أنها تتعافى بالفعل، لكن بوتيرة بطيئة، وقد نفقت إحدى اللبوات بالفعل، جراء مضاعفات الجوع والمرض، لتبقى بالحديقة الآن، ثلاثة من فصيلة الأسود "أسد ولبوتان"، بخلاف اللبوة المحظوظة التي تم نقلها إلى حظيرة الدندر القومية، وعلى الرغم من أنها ليست في أتم حال، لكنها أفضل بكثير مقارنة بوضعها السابق.
وتمت ملاحظة أن مشكلة الإطعام لا تزال ماثلة على نحو ما، إذ يوجد بالحديقة مبردان لحفظ اللحوم، وتفوح بعض الروائح الكريهة لفضلات الوجبات، كما أن الحديقة لم يبق فيها من الحيوانات بخلاف الأسود الثلاثة وضبع وبعض الطيور.
وعزا أحد حراس الحديقة، الذي تحدث لـ "اندبندنت عربية" عن ملابسات حدوث مأساة تلك الأسود، إلى التداخلات والتقاطعات الإدارية، بين المستثمر والإدارة، ما أدي إلى تشتت المسؤولية عن تغذية ومتابعة الأسود صحياً، مشيراً إلى أنه يجري الآن التفكير في صيغة جديدة لحديقة حيوان بشكل أوسع وملائم لإمكانية المعالجات الجديدة لوضع الحديقة.
حكاية المأساة
وبالعودة إلى أصل حكاية مأساة اللبوة، التي أنقذتها الصدفة، فقبل حوالى ستة أشهر، حين صُدِم المجتمع السوداني وبلغت أصداء الصدمة العالم الخارجي وجمعيات حقوق الرفق بالحيوان، وناشطين كثيرين، بعد تداول مقاطع فيديو تظهر أسوداً ولبوات، تكابد الجوع والمرض والإهمال، وانتقلت القضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من داخل أقفاص في حديقة القرشي بالخرطوم، إلى فضاءات العالم لتصبح قضية ضمير إنساني تشكل حولها رأي عام، ما أدى إلى بروز حملة واسعة تحت شعار "أنقذوا أسود القرشي"، تحضّ الجميع على المساعدة لإنقاذ تلك الأسود.
وحركت تلك المشاهد المؤلمة، الكثير من الضمائر الحية المهتمة بقضايا الرفق بالحيوان، وتدافع العديد من الجهات والمنظمات والأفراد المحلية والإقليمية والدولية، لتقديم العون لتلك الأسود وتبرع ناشطون ومنظمات مجتمع مدني ورجال أعمال سودانيون بوجبات من الخراف واللحوم الطازجة لتك الأسود، وأسفرت الحملة الإلكترونية، عن نتائج فورية بتدافع كبير من المواطنين نحو الحديقة.
وأبدى أطباء بيطريون استعدادهم لعلاجها بالمجان، ووصل إلى الخرطوم، فريق كامل مختص يضم أطباء بيطريين واختصاصيين في الحياة البرية، من مؤسسة "فور بور إنترناشونال"، لمتابعة وضع تغذية وعلاج ورعاية أسود حديقة القرشي للحيوانات، وبحسب الناشط عثمان صالح مطلق حملة الإنقاذ والاستغاثة، فإن فريق المنظمة سيعمل على إعادة تأهيل الحيوانات، ليس في حديقة القرشي فحسب، بل في المتنزهات الأخرى في السودان، إلى جانب استعداده لتدريب موظفي هيئة الحياة البرية وستبدأ في المتابعة لتنفيذها.
تدمير حدائق الحيوانات
وقبل 30 سنة، كان السودان يمتلك أكبر حديقة للحيوان بأفريقيا، يرجع تاريخها إلى عام 1902، إلا أن نظام الإسلاميين في عهد عمر البشير، عمد إلى تجفيفها كسائر منتجعات الترفيه، وقام ببيع أرضها، ليقام مكانها فندق كورونثيا الحالي الذي كان يطلق عليه الفاتح من سبتمبر (أيلول) قبل سقوط القذافي بوصفه أحد الاستثمارات الليبية، وتم توزيع الحيوانات التي كانت موجودة فيها على أماكن متفرقة، تفتقر إلى كثير من المقومات، وهي حديقة حلة كوكو، والحديقة الدولية، وحديقة القرشي، وتضم أعداداً وأنواعاً قليلة من الحيوانات.
وتعتبر حظيرة الدندر القومية، محمية طبيعية على الحدود السودانية - الإثيوبية، تأسست عام 1935، وتعتبر إحدى أكبر المحميات الطبيعية في أفريقيا، وتتميز بتنوع حيوي كبير، ووفقاً لتقديرات الاتحاد العالمي لحفظ الطبيعة، فقد صُنّف الأسد ضمن فئة الحيوانات المعرضة للانقراض، وتراجعت أعداده في أفريقيا بنسبة 43 في المئة بين 1993 و2014 ولم يبق منها سوى 20 ألفاً حالياً.
وتشير إحصاءات إلى أن الأسد يأكل يومياً حوالى 40 كيلوغراماً من اللحم، وينام ساعات طويلة قد تصل إلى 20 ساعة يومياً.