حالة من الركود تضرب قطاع الإعمار ومستلزمات البناء في الأسواق السورية، زادها ضبابية دخول القانون الأميركي المتعلق بحماية المدنيين في سوريا "قيصر" حيّز التنفيذ، وأدخل معه البلاد وإعمارها بنفق مظلم.
وخفُت صخبُ آلة الإعمار بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، ولم يعد لضجيج العمل وحركة البناء حضوره اللافت في الشارع السوري كما السابق، إلا ما تبقى من أعمال صيانة أو ترميم وإعادة بناء لمنشآت حيوية، تنفذها الشركات الكبيرة على مضض.
ويأتي هذا بعد ارتفاع كبير في مواد البناء ومستلزماته، خلال يونيو (حزيران) المنصرم، لا سيما ما ترافق معه من انخفاضٍ شديد بقيمة الليرة أمام العملات الأجنبية، متأثراً بإعلان "قانون قيصر" في 17 يونيو، سبّب ارتفاعاً بفاتورة إعادة الإعمار وازديادها بشكل مضاعف.
من جهته، يربط الاتحاد الأوروبي حتى بعد مؤتمر "بروكسل 4" في 30 يونيو، إعادة إعمار المدن المدمرة والتي ستكلف مليارات إضافية من الدولارات، بالانتقال السلمي للسلطة والحل السياسي بعد أن قدمت الدول المساهمة 5.5 مليار دولار في عام 2020 ومنح 2.2 مليار دولار في عام 2021 وما بعده.
وسبق ذلك أن أشارت واشنطن على لسان المبعوث الأميركي الخاص لإيران براين هوك، بتصريح صحافي يوم 12 يونيو حول عدم إقدام بلاده والدول المانحة بدفع فلس واحد في إعمار سوريا، قبل خروج كامل الميليشيات الإيرانية منها.
الإعمار بالقطارة
في غضون ذلك، تشهد دمشق والمدن الواقعة تحت سيطرتها انعكاسات حتمية ومتتالية للقانون الأميركي، خصوصاً على القطاعات الاستراتيجية والحيوية ومنها النفط والغاز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأصاب البلاد شبه شلل في ورشات المقاولات وتحديداً الصغيرة والمتوسطة، وأرغمت شركات المقاولات على تعديل شروط التعاقد والتعهدات.
وكانت الأسواق شهدت ارتفاعاً هائلاً بأثمان (الحديد والإسمنت والحجارة) وغيرها من المواد، وتذبذب في حجم الطلب عدا عن رفع أجور الأيدي العاملة.
ويعبّر المقاول السوري طارق شيخ دبس عن قلقه المتزايد مما يحصل، وينبئ المقاول وشريك بإحدى الشركات الخاصة عن توقفها عن العمل واستمرار بعض المشاريع التي شارفت على الانتهاء.
مقابل ذلك، تتضافر جهود شركات المقاولات للاندماج والتعاون خصوصاً مع النضوب بمواد الإعمار المطلوبة لسد الحاجة الماسة من تلك المواد، بالتزامن مع عوائق الاستيراد إذا ما علمنا أن واشنطن عازمة على معاقبة كل من يتعامل مع النظام من دول ومؤسسات وأفراد.
وفي وقت يزداد الحصار حدة، تعكف ورشات البناء بالعمل في النَفَس الأخير بعد تضاؤل المستلزمات بين يديها وبما تبقى لها في الأسواق، بينما بعضها توقف عن التعاقد ريثما تستقر الأسواق. ويقول المقاول شيخ دبس "أيام قاسية نعيشها، لقد توقفت شركات عن العمل وأخرى تعاند للاستمرار مع زيادة التكلفة".
السباق مع الزمن
بدورها، تحاول دمشق على عجل تدارك هذه الفجوة عبر الدفع بصيانة معامل الحديد والصلب والإسمنت المتوقفة بسبب الحرب، لسد الحاجة وإغراق سوق العقارات المنكمش بسبب الزيادة المطردة بتكاليف إنتاجه. ويشكك الباحث الاقتصادي رضوان مبيض في حديث لـ "اندبندنت عربية"، في قدرة دمشق على إيجاد حل سريع في القضايا الشائكة بإعادة الإعمار، حتى وإن أوجدت الحلول البديلة لفقدان مواد البناء.
ويعتقد أن السلطة في سباق مع الزمن لإيجاد حلول إسعافية لاقتصادها المتهاوي بعد تأثير "قيصر" وهبوط الليرة إلى أدنى مستوياتها وبشكل غير مسبوق ومفاجئ (الدولار وصل إلى ثلاثة آلاف ليرة).
ويضيف "لا بد من صياغة جديدة في ملف إعادة الإعمار، وهو ما يكلف 400 مليار دولار بحسب الإحصاءات الرسمية، ولكن التكلفة ستتضاعف".
ويعتقد الباحث الاقتصادي أنه لن ينفع سوريا بعد اليوم أن تكون هي وحلفاؤها المتفردون في ساحات إعمار مدن كبرى دمرت منها مدينة حلب وحمص وريف دمشق، "أظن دمشق ستتجه بعد محاصرة الولايات المتحدة لها بقوة إلى الصين الشعبية".
ويتوقع ترحيب بكين بالمغامرة وبحذر لفتح إعادة الإعمار في السوق السورية المتعطشة للاستثمارات إلى جانب شركاء كالإيراني والروسي، بعد زيادة شدة النزاع المتصاعد بين بكين وواشنطن إبان تفشي جائحة كورونا.
العودة الصعبة
وعلى الرغم من التخوف الشديد مما يحدث والغموض الذي يلف واقع الإعمار، تسلم أوساط سياسية واقتصادية مراقبة للمشهد السوري، بتأثير قانون حماية المدنيين وتأثيره الواسع ومنها قطاع البناء، ما يدفع النظام إلى الجلوس على طاولة المفاوضات والانتقال إلى الحل السلمي.
وعلى المقلب الآخر، تراقب الأوساط المعارضة كل التطورات بعين الرضا مع تحفظها على تداعيات تطبيق القانون على المواطن السوري وانخفاض قوة شرائه ومستوى معيشته، إذ دخل 80 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، بحسب إحصاءات أممية.
وفي السياق ذاته، يظهر من الصعب وسط هذه التحديات المتلاحقة التي تواجه الداخل السوري نظاماً وشعباً وصبرهم على أوجاع الحصار، الاستمرار بالإعمار، ما سيترك تأثيراً سلبياً على السوريين في الخارج. ويرى الباحث الاقتصادي ذاته أن ذلك سيؤخر عودة اللاجئين، قائلاً "المساعي الأممية والدولية ستذهب أدراج الرياح في حال تأخرت عملية إعادة الإعمار، وهذا ما سينعكس على ستة ملايين سوري لاجئ في دول اللجوء المعروفة، جلّهم في تركيا ولبنان والأردن".