ثلاثة يمارسون سياسة الاغتيال: قوي متغطرس، ضعيف مستقوٍ وخائف متنمّر. وليس اغتيال الخبير العراقي هشام الهاشمي سوى حلقة من سلسلة الاغتيالات التي استهدفت أكثر من 700 في الحراك الشعبي منذ خريف العام الماضي. وإذا كان شعار الثلاثة هو قول ستالين "لا رجل لا مشكلة"، فإنّ التركيز في العراق كان على عنصرين: ناشط وعارف. الناشط مخيف لأنه قادر على تنظيم التظاهرات وتحديد الشعارات والمطالب. والعارف مخيف أكثر لأنه يكشف عَمّا يسمّيه الصينيون "التنّين في الضباب". وفي اغتيال الهاشمي بعد تهديده علناً، "رسالة" إلى أكثر من عنوان. لكن العنوان الأبرز هو رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي يلعب دور الناشط والعارف والفاعل. أما محتوى "الرسالة" بعد التهديد بقتل الكاظمي الذي يصف نفسه بأنه "الشهيد الحي"، فإنه كان مكتوباً على الجدار: ممنوع قيام دولة وطنية عراقية. لماذا؟ لأن الدولة الوطنية العراقية ستقوم على حساب الأحزاب الطائفية والمحاصصة ونهب المال العام. وعلى حساب ما يسمّيها العراقيون "عصابات اللادولة" والميليشيات التي تحمل السلاح خارج حصرية الشرعية. وعلى حساب النفوذ الخارجي في العراق. وعلى حساب ما قال الكاظمي إنه "التأسيس الخاطئ منذ الغزو الأميركي وسقوط الدولة". واللافت أن أكثر المتحمّسين ضد قيام هذه الدولة هم أنصار إيران، الذين عادوا إلى بغداد على ظهور الدبابات الأميركية.
يروي المحقق الفيدرالي الأميركي اللبناني الأصل جورج بيرو أن صدام حسين قال له في التحقيق "ليست لدينا أسلحة دمار شامل، لكننا أوحينا بأنّنا نملكها لئلّا نضع العراق في موقف ضعيف. وإيران أخطر علينا من أميركا". وما حدث بعد صدام الذي حاول ألّا يبدو العراق مكشوفاً، هو أنه صار مكشوفاً بالكامل بفعل الغزو وصراع المحاور الإقليمية، إذ هو مكشوف في الداخل للميليشيات والتنظيمات المذهبية والإثنية. مكشوف خارجياً أمام التدخل العسكري التركي جوّاً وبرّاً بحجّة الحرب على "الإرهاب الكردي"، وأمام النفوذ الإيراني الذي له ميليشياته في الداخل. مكشوف اقتصادياً ومالياً، بحيث بات، وهو بلد غني بالنفط وسواه، يحتاج إلى الاستدانة لدفع رواتب الموظفين. لا هو يسيطر على حدوده التي تتحكّم في أجزاء منها الميليشيات والمافيات، ولا هو يسيطر على أجوائه التي تتولّى حمايتها الطائرات الأميركية، وتبقى حقل رماية لِمَن يريد إطلاق الصواريخ على المنطقة الخضراء والمطار ومعسكر التاجي وقاعدة عين الأسد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رئيس الجمهورية برهم صالح يطالب بوجوب التخلّص من ثقافة "المعادلة الصفرية" في سياسات دول المنطقة داخل العراق وخارجه، حيث يقاتل كل طرف ليربح على حساب سواه. والكاظمي يريد "حصر السلاح في يد الدولة" ليستطيع وقف انكشاف العراق ثم تطبيق شعار "أنداد لخصومنا، أشقّاء لجيراننا، وأصدقاء وخدّام لشعبنا فقط"، بالتالي إخراج البلد من "دور الساحة وتصفية الحسابات فيها". وهذه معركة ضرورية وبالغة الصعوبة، عنوانها وضع نهاية لسياسة "اغتيال" العراق. وهي بعد التراجع الاضطراري في موضوع المعتقلين مطلقي الصواريخ من "كتائب حزب الله"، وبعد اغتيال الهاشمي تدخل مرحلة حرجة ودقيقة. فالحاجة كبيرة إلى دعم عربي واتفاق استراتيجي مع أميركا ووقفة مع إيران. والمشروع الإيراني في العراق كما في اليمن وسوريا ولبنان قائم إلى جانب الأيديولوجيا، على تنظيمات مسلّحة خارج الجيوش. وليس من السهل حلّ مشكلة الحشد الشعبي في العراق، سواء انتهى خطر "داعش" أو بقي وتنامى بسبب الحشد نفسه، بعدما جرى تشريعه بقانون عام 2016 الذي أخضعه شكلياً لرئيس الوزراء، في حين أن قيادته مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.
ومن المهم تحقيق العدالة والقصاص في اغتيال هشام الهاشمي، بعدما بقيا غائبَيْن في الاغتيالات السابقة. لكن الأهم هو الإصرار على قيام الدولة الوطنية وتطبيق ما تعهّد به الكاظمي بالقول "لن نسمح بالفوضى وسياسة المافيا، ولن نسمح لأحد بأن يحوّل العراق إلى دولة للعصابات".