اتفق وزراء الموارد المائية في كل من مصر وإثيوبيا والسودان على عقد اجتماع ثلاثي إضافي بشأن أزمة سد النهضة الإثيوبي غداً الأحد، أي عقب انتهاء المهلة المحددة من جانب الاتحاد الأفريقي، إذ شهد الجمعة عقد اجتماعات للجان الفنية والقانونية مرة أخرى، وتعقد اليوم السبت اجتماعات لكل دولة على حدة مع المراقبين من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، وذلك بعد أن قامت كل دولة بإرسال تقريرها عن النقاط الخلافية مساء الخميس إلى جنوب أفريقيا، رئيس الاتحاد الأفريقي ووسيط المفاوضات الراهنة المستمرة لليوم التاسع على التوالي، "دون تحقيق أي تقدم يُذكر" حسبما أعلنت القاهرة والخرطوم مساء الخميس.
وكشف بيان لوزارة الموارد المائية والري المصرية، مساء الجمعة، عن رفض القاهرة مقترحاً إثيوبيّاً بتأجيل البت في النقاط الخلافية بالمفاوضات الراهنة على المستوى الفني إلى ما بعد توقيع "الاتفاق" أي من خلال لجنة فنية خاصة تشكَّل لاحقاً، معتبرة أن هذه النقاط الخلافية التي تتمسك بها القاهرة تمثل "العصب الفني للاتفاق"، بينما استمرت المناقشات في اللجنة القانونية من دون التوصل إلى توافقات حول النقاط الخلافية، وذلك في نهاية اجتماعين عقدا على التوازي للفرق الفنية والقانونية بالدول الثلاث بمشاركة المراقبين.
الأزمة تراوح مكانها
أعلنت مصر والسودان في ختام المفاوضات الفنية والقانونية بشأن سد النهضة الإثيوبي مساء يوم الخميس "استمرار المناقشات على المستويين الفني والقانوني حتى الاثنين المقبل" موعد تقديم التقرير النهائي عن المفاوضات إلى جنوب أفريقيا، بوصفها الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، وأوضح بيان لوزارة الموارد المائية والري المصرية "أنه حتى الآن لم يتحقق ثمة أي توافق بين الدول الثلاث في أي من النقاط الفنية أو القانونية، إذ استمرت الخلافات بين الدول الثلاث".
وبدوره، أكد محمد السباعي، المتحدث باسم وزارة المياه المصرية، أن "الموقف الإثيوبي لم يتغير قد أنملة. ما زالت إثيوبيا متشددة ومتمسكة بموقفها. حتى اللحظة لا يوجد أي تحسن أو تطور باتجاه المرونة في المواقف الإثيوبية، أو في مسار ونتائج المفاوضات. لا تزال هناك نقاط خلافية جوهرية وقوية، لم نتمكّن من تجاوزها. والنقطة الأساسية في المسار الفني أننا لم نصل إلى اتفاق على آلية مجابهة فترات الجفاف والجفاف الممتد، وإذا اتفقنا عليها سيكون ذلك حسماً لعديد من الشواغل المصرية، والجانب السوداني لديه نقطة خلافية مهمة، وهي مسألة أمان السد وتأثيره في السدود السودانية. أما الجزء الأكبر من الخلافات فيتعلق بالمسار القانوني مثل آلية فض المنازعات، وتبادل المعلومات، وإلزامية الاتفاقية، وكيفية تطبيقها، والتصديق عليها وغيرها".
وحول مسار جلسات المفاوضات التي تعثرت خلال الأيام الماضية، قال السباعي، في تصريحات إلى "اندبندنت عربية"، عملية التفاوض "كانت جلسات نقاشية بمشاركة المراقبين بشكل ثنائي، ثم جلسات بين الدول الثلاث بشكل مباشر. أمضينا 45 ساعة تفاوضاً في سبعة أيام، وبدأنا وانتهينا إلى النقطة نفسها. الجانب الإثيوبي متمسك بمواقفه المتشددة في الأمور الخلافية القانونية والفنية، وهذا سيقلل بشكل واضح من إمكانية الوصول إلى اتفاق، في ظل أن خلافية هذه النقاط تمثل العمود الفقري للاتفاق بالنسبة إلى الجانب المصري، والجانب الإثيوبي يرفض أي نقاط خاصة بآلية فض النزاعات أو إلزامية بنود الاتفاقية، إذا توصلنا لها، ومتمسك بالحصول على حق تغيير قواعد التشغيل بطريقة أحادية من دون مراجعة مصر والسودان، وبهذا الشكل يُجرى تفريغ أي اتفاق من مضمونه".
وفي ما يتعلق بموقف الجانب المصري وإمكانية تمتعه بمزيد من المرونة، أوضح السباعي "المقترح المصري جرى تعديله عدة مرات، نتيجة تمسك مصر بالوصول إلى اتفاق، وسبق أن أثبتت مصر نية الاتفاق بالتوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق واشنطن الذي وافقت إثيوبيا على معظم بنوده، لكن حتى الآن جرى ذلك من دون تحقيق أي تقدم نتيجة التعنت الإثيوبي"، مضيفاً: "حرصنا من خلال مناقشات اللجان الفنية والقانونية على تقريب وجهات النظر في النقاط الخلافية في المجالين القانوني والفني".
وقال بيان لوزارة الموارد المائية المصرية، مساء الجمعة، "في نهاية اجتماع اللجنة الفنية جرى الاتفاق على قيام إثيوبيا بدراسة البدائل التي طرحتها مصر، على أن يُجرى النقاش حولها في الاجتماع الوزاري الثلاثي الذي سيُعقد غداً، ونأمل أن تتعامل إثيوبيا بإيجابية مع البدائل المصرية للتوافق حول النقاط الخلافية"، موضحة أن مصر "طرحت بعض الصياغات البديلة لمحاولة تقريب وجهات النظر بخصوص إجراءات التعامل مع حالات الجفاف الممتد والسنوات الشحيحة الإيراد في كل من الملء والتشغيل، إضافة إلى قواعد التشغيل السنوي وإعادة الملء، وذلك في إطار محاولة الجانب المصري حلحلة النقاط الخلافية الفنية بين الدول الثلاث".
ووصفت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، في تقرير، المفاوضات بين الجانبين بما في ذلك السجال الدبلوماسي خلال الأسابيع الأخيرة في مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي، بأنها تكشف عن "عداء لا يمكن إخفاؤه"، بالقول: "جرى الحفاظ على الواجهة الدبلوماسية المهذبة، لكن كلمات الممثلين المصريين والإثيوبيين كشفت عن عداء كان من الصعب إخفاؤه"، واعتبر التقرير أن ما يزيد تعقيد الخلافات هو الأسباب السياسية الداخلية في البلدان الثلاثة. وأضاف "لكن لدى كل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد اعتبارات سياسية محلية".
شواغل "الملء" وهواجس "المستقبل المائي"
إضافة إلى استعراض الوزراء ما تناولته اجتماعات فرق التفاوض القانونية والفنية حول قضايا الملء الأول والتشغيل المستمر، وكذلك في أثناء فترات الجفاف، ذكر بيان لوزارة الري السودانية، مساء الخميس، أن الاجتماع الوزاري الأخير ناقش مسألة "إعادة الملء لبحيرة سد النهضة في المستقبل عقب سنين الجفاف الممتدة إذا حدثت. وفي الجوانب القانونية جرى النقاش حول عدد من القضايا الجوهرية، بينها إلزامية الاتفاقية، وآلية فض النزاعات، وعلاقة هذه الاتفاقية باتفاقيات المياه السابقة في حوض النيل"، كما كشف البيان أن نقاشاً مستفيضاً دار حول "مشروعات التنمية المستقبلية على النيل الأزرق، وعلاقتها باستخدامات المياه بين الدول الثلاث".
ورغم تمسّك السودان ومصر بمسألة أمان السد واستكمال الدراسات المتعلقة بأثره البيئي الذي يمكن أن يتجاوز تأثير تقلص حصة المياه إلى مخاطر أخرى تتعلق بالأراضي والزراعة والمناخ بالدول الثلاث، قال محمد عثمان، عضو مجموعة "مخاطر السد الإثيوبي" السودانية المناهضة للمشروع، "المجموعة ترفض أساس التفاوض حول عدد سنوات الملء والتشغيل، وتعتبر قبول السعة الضخمة للسد من قبل الحكومة المصرية ولجنة الرئيس السوداني المعزول عمر البشير الفنية التي ما زالت تدير ملف السد الإثيوبي، سيعرض السودان للدمار وربما جنوب مصر حتى السد العالي، وفقاً للخبراء. لذلك، الأمران بالنسبة لنا سِيَّان سواء توصلت البلدان إلى اتفاق أو بدأت إثيوبيا الملء من دونه، المفروض ضرورة بحث سعة وأمان السد، وخطورة السد، ومن الذي سيتضرر من انهيار السد، كذلك ضرورة دراسة فنية يقوم بها بيت خبرة عالمي وضرورة التأمين على المخاطر لدى شركات تأمين عالمية قادرة على الوفاء بالتعويضات". ومن ناحيته، أكد متحدث وزارة الري المصرية أن "الجوانب الفنية لم يجرَ دراستها بشكل كامل خلال سنوات التفاوض المستمرة، وعلى رأسها أمان السد وآثاره البيئية، على الرغم من زعم أديس أبابا أنها انتهت منها من طرفها، وهذه المسألة تعد "وجودية" بالنسبة إلى السودان.
وبدوره، قال محمد نصر علام، وزير المياه المصري سابقاً، "إثيوبيا سوف تتشدد حتى آخر لحظة، ولن تقدم تنازلات، إذا قدمت، إلا في اللحظات الأخيرة كما جرت عادة السلوك التفاوضي الإثيوبي مع مصر في كل المراحل. ولذلك مصر حريصة على التمسك بمسار التفاوض حتى آخر نفس"، معتبراً أن إثيوبيا تخشى لجوء مصر إلى وسائل أخرى في التصعيد الدبلوماسي السلمي، لأنها "لا تمتلك ملفاً قانونيّاً ودبلوماسيّاً قويّاَ"، على حد وصفه، متسائلاً "هل من المعقول أن تطالب إثيوبيا تحت مظلة الاتحاد الأفريقي وفي وجود مراقبين من الولايات المتحدة وأوروبا، بإطلاق يدها لتحديد كميات المياه التي تذهب من النيل الأزرق الدولي إلى دولتي المصب مصر والسودان؟".
ومن جانبه، يرى الكاتب البريطاني ديفيد بيلينغ، محرر الشؤون الأفريقية في "فاينناشيال تايمز"، إن ما يُعقّد أزمة السد الإثيوبي هو ارتباطها بصراع النفوذ بين القوى الكبرى في منطقة القرن الأفريقي، معتبراً أن السد لم يُثِر التوترات فقط مع مصر، التي تخشى فقدان السيطرة على ممر مائي أسهم في صياغة مصيرها لآلاف السنين. "بل سلَّط أيضاً دائرة من الضوء على منطقة القرن الأفريقي، التي باتت جاذبة للاهتمام، ناهيكم بالتدخُّل الخارجي من جانب عدد كبير من القوى".
وتابع، "دوماً ما انجذبت القوى الأجنبية إلى منطقة القرن الأفريقي بسبب قربها من البحر الأحمر، الذي يتحكَّم في الوصول إلى قناة السويس. وفي السنوات الأخيرة، استثمرت الصين بقوة، وغمرت إثيوبيا بالمليارات على الرغم من افتقارها إلى الموارد المادية، وأقامت قاعدة عسكرية في جيبوتي الجارة. وموَّلت الصين أيضاً وبَنَت سككاً حديدية شبه عاملة بين جيبوتي وأديس أبابا، ما ساعد على تقوية وصلة إثيوبيا إلى البحر بعد فقدان (استقلال) إريتريا. لكنَّ الفاعلين السياسيين في القرن الأفريقي لم يكونوا أبداً ضحايا سلبيين للتدخل الخارجي. بل سعوا دائماً للتربُّح من الاهتمام الأجنبي من خلال تأليب لاعب خارجي ضد آخر".
واتصالاً بتشابك ملف السد الإثيوبي بمجمل التفاعلات بالقرن الأفريقي، أعرب أسياس أفورقي، رئيس إريتريا، خلال زيارته القاهرة، عن تطلع بلاده المتبادل لتطوير العلاقات الثنائية مع مصر على مختلف الأصعدة، خصوصاً في الوقت الراهن الذي تشهد فيه منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر تحديات متلاحقة وتدخلات خارجية متزايدة، الأمر الذي يفرض تكثيف التعاون والتنسيق مع مصر وقيادتها على خلفية الثقل المحوري الذي تمثله مصر في المنطقة بأسرها على صعيد صون السلم والأمن.
وذكر بيان للرئاسة المصرية أن لقاء الرئيس الإريتري بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي "تطرق إلى التباحث حول آخر التطورات الإقليمية ذات الاهتمام المتبادل، خصوصاً في ما يتعلق بملفات القرن الأفريقي وأمن البحر الأحمر وكذلك قضية سد النهضة، حيث جرى التوافق على تعزيز التنسيق والتشاور الحثيث المشترك لمتابعة تلك التطورات، وذلك تدعيماً للأمن والاستقرار الإقليمي".
رهان على جنوب أفريقيا
وتمثل الجولات الراهنة للتفاوض المحاولة الثانية للوصل إلى اتفاق حول ملء وتشغيل السد الإثيوبي منذ فشل مفاوضات واشنطن برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي في الوصول إلى توقيع الاتفاق في فبراير (شباط) الماضي، وتعثر محاولة أخرى بدعوة ووساطة سودانية خلال يونيو (حزيران) الماضي، وحاليّاً "تتولى جنوب أفريقيا إعداد تقرير سرد للوقائع (Factual Report) حول مسار المفاوضات، على أن يتم تقديم التقرير النهائي الاثنين المقبل إلى جنوب أفريقيا بوصفها الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي"، حسبما أعلنت وزارة الموارد المائية المصرية مساء الخميس.
وفي ما يتعلق بأسباب تشدد الموقف الإثيوبي مجدداً رغم الجهود المبذولة في مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي لاستئناف المفاوضات، قال علام، في حديث خاص، "إثيوبيا تتبع أسلوب عضّ الأصابع خلال المفاوضات الراهنة استغلالاً لرعاية المظلة الأفريقية للعملية التفاوضية الراهنة، وتتشدد حتى اللحظات الأخيرة بالسير على حافة الهاوية، وفي ظل المناخ غير الصحي السائد حاليّاً لا يُتوقع الوصول إلى نتائج"، مضيفاً تعليقاً على إدارة الاتحاد الأفريقي برئاسة جنوب أفريقيا لجولات المفاوضات الراهنة "للمرة الأولى أرى منظمة دولية تنظم مفاوضات مصيرية مدة أسبوع، تخصص ثلاثة أيام لمناقشات الفنيين والقانونيين، ويومين لاجتماع الدول مع الخبراء والمراقبين، ويومين لإبلاغ الوزراء بنتائج الاجتماعات، ثم مطالبة كل دولة برفع تقرير لرئيس المنظمة".
وفي ما يتعلق بدور المراقبين في تحديد نتائج المفاوضات عوضاً عن تضارب بيانات الدول الثلاث حول نتائجها، قال السباعي في تصريح إلى "اندبندنت عربية"، "دولة جنوب أفريقيا طلبت إعداد تقرير مرحلي منفصل من جانب كل دولة، يتضمن شواغلها والنقاط التي تتمسك بها والمسائل الخلافية وكيفية التعامل معها، ومرفق معه تقرير سرد الوقائع التي حدثت خلال أيام التفاوض تعدّه جنوب أفريقيا، وتقرير نهائي يُرفع إلى الاتحاد الأفريقي في اليوم الختامي للمفاوضات الاثنين المقبل حول ما جرى الاتفاق أو الاختلاف حوله، وذلك وفقاً للتسلسل المحدد بشكل مسبق بعد القمة المصغرة للرؤساء في أواخر يونيو (حزيران) الماضي"، مشدداً على أنه لا يمكن الحديث عن أي "توافق" قبل توقيع اتفاق شامل وملزم ويحقق مصالح الدول الثلاث.
ويقول الباحث السوداني إبراهيم ناصر، "استئناف المفاوضات بوساطة أفريقية تقودها جنوب أفريقيا، رئيس الدورة الحالية للاتحاد، وتبني الأفارقة قضية المفاوضات كانت إشارة مبشرة جدّاً في ظل تفضيل إثيوبيا هذه الوساطة، وحرص الجانب الأفريقي على حل هذه القضية من دون إقحام أي طرف آخر من خارج القارة، على الرغم من ترويج البعض انحياز الاتحاد الأفريقي لإثيوبيا، ووقوعه تحت تأثيرها، لكن الاتحاد يصر على الحلول الأفريقية للمشكلات الأفريقية، وأن لا يكون هناك رابح واحد في اللعبة، ويعمل على حل الأزمة بطريقة منصفة لكل الأطراف، لكن تقديري الشخصي المفاوضات سوف تظل معلقة فترة، لحين دخول أطراف أخرى، فالحل لن يكون أفريقيّاً برأيي، والحل لن يكون أفريقيّاً - أفريقيّاً، بل سيُحل النزاع في دوائر أممية أخرى، والملف لا يزال منظوراً بمجلس الأمن".
هل ينجح الاتحاد الأفريقي في ما فشلت فيه واشنطن؟
وأكد الباحث السوداني أن الأزمة معقدة والخلاف حقيقي، ويتضمن تأثيراً بالغاً في مستقبل الطاقة والمياه في الدول الثلاث على الأقل، مضيفاً "الحل الأفريقي المطروح يكمن في إطالة فترة ملء خزان سد النهضة، ودعم إثيوبيا لتتلافى المضار التي ستقع عليها بسبب التأخير، بمعنى إقامة تعديلات في تصاميم السد، بحيث لا تقع أضرار بحقوق مياه دولتي المصب السودان ومصر. وتقديم الدعم لإثيوبيا أيضاً للاستفادة من وسائل أخرى، أي الطاقة الشمسية بحيث تكفي احتياجاتها من الكهرباء، وبتعبير آخر، بدلاً من أن تنتج إثيوبيا ستة آلاف ميغاوات من السد يمكنها إنتاج 1.9 ميغاوات، وهذا ما يكفيها من الكهرباء. وأن تتخلى عن فكرة تصدير الكهرباء لجيرانها، وهذا ما ترفضة أديس أبابا من المبدأ. وفي حال لم تُسترضَ أديس أبابا، ووقعت الأضرار على دولتي المصب، لا سيما مصر، يقدم لها الدعم بحيث تتمكن من استغلال مواردها المائية الجوفية والبحرية. وعليه، كل المقترحات التي تتبناها الأطراف الأفريقية مكلفة بكل مقاييسها، والمنظومة الأفريقية مصرة على عدم إقحام أي مؤسسة دولية في الخلاف بين الدول على الرغم من قلة الحيلة، ولذا فالأفارقة لا يمتلكون سوى تقريب وجهات النظر سياسيّاً".
واعتبرت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية، في تقرير، أن استعادة الدول الأفريقية السيطرة على العملية التفاوضية عوضاً عن مسار المفاوضات التي جرت برعاية الإدارة الأميركية، أكدت عدم نجاح الرئيس الأميركي دونالد ترمب في أكبر محاولة له للانخراط في الشؤون الأفريقية، موضحة أن الفشل في هذا الملف أعاد التذكير "بتشهير ترمب بالدول الأفريقية"، في إشارة إلى تصريحات الرئيس الأميركي في يناير (كانون الثاني) 2018 "المسيئة" للدول الأفريقية التي طالبه الاتحاد الأفريقي بالاعتذار عنها رسميّاً، وكذلك يذكر بإهمال الإدارات الأميركية المتعاقبة للقارة، ما فتح الطريق أمام الصين، كما انتقد التقرير طريقة إدارة ترمب للملف، معتبرة "أنه تجاوز وزارة الخارجية، وطلب من وزير الخزانة ستيفن منوشين قيادة المباحثات لمجرد أنه كان حاضراً وقت تقديم الطلب المصري للوساطة". لكن الوكالة نقلت عن شخصين على دراية بالمناقشات التي جرت برعاية واشنطن مدة أربعة أشهر، تحدثا بشرط عدم الكشف عن هويتهما، أن الولايات المتحدة تعتقد "أنها كانت تحرز تقدماً حتى أوائل فبراير (شباط) الماضي، عندما بدا أن الاقتراح (الاتفاق) يحظى بدعم من جميع الأطراف. لكنّ المسؤولين الإثيوبيين عكسوا مواقفهم، ورفضوا حضور مباحثات 28 فبراير في واشنطن، ما أدى إلى توقف العملية".
وأوضحت الوكالة أنه بعد وصول القضية إلى مجلس الأمن، وفي ظل كونها منظورة بالاتحاد الأفريقي، "فقد شدد كل من الاتحاد الأفريقي وإثيوبيا للأمم المتحدة على أن الاتحاد الأفريقي بحاجة إلى أخذ زمام المبادرة في حل النزاع، على الرغم من سنوات من الفشل في إحراز تقدم. إعمالاً لقول إثيوبيا إن النيل وسد النهضة قضيتان أفريقيتان يجب إعطاؤهما حلولاً أفريقية"، ونقلت "بلومبيرغ" عن رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوسا قوله الشهر الماضي إنه استخفّ بتورط ترمب في القضية التي كان سيحتاج إلى ترتيب زيارة لأفريقيا من أجل حلها، لكن ذلك أمر مستبعد، حسب رامافوسا في ظل تصريحات ترمب المسيئة للقارة في 2018.
وبينما حمّل البيت الأبيض إثيوبيا مسؤولية الوصول إلى اتفاق خلال بيان الشهر الماضي، وذلك بعد شهور من تحميله أديس أبابا مسؤولية فشل المفاوضات التي شاركت الولايات المتحدة فيها مراقباً بالتعاون مع البنك الدولي، قبل أن يتحول الطرفان إلى وسطاء، وتسند إليهما مهمة صياغة الاتفاق الذي وقعته مصر بالأحرف الأولى، وانسحبت إثيوبيا من الجلسة الأخيرة في 28 فبراير، فقد اتهمت إثيوبيا الولايات المتحدة بالانحياز إلى مصر.
ونقلت "بلومبيرغ" عن دبلوماسيين مصريين إن "ادعاءات إثيوبيا بالتحيز الأميركي مخادعة، وتسعى إلى صرف الانتباه عن رفضها التعاون مع دول النيل الأخرى"، موضحة أنهم "يشيرون إلى دعم أميركي قوي للحكومة الإصلاحية الحالية لرئيس الوزراء آبي أحمد"، الذي فاز بجائزة نوبل للسلام العام الماضي لجهوده في إنهاء الأعمال العدائية مع إريتريا المجاورة. وتلقت إثيوبيا ما لا يقل عن 881 مليون دولار من المساعدات المالية من الولايات المتحدة في عام 2019، وهي واحدة من أعلى المستويات للمساعدات الخارجية في جميع أنحاء العالم.
هل تمضي إثيوبيا في الملء من دون اتفاق؟
وأكدت إثيوبيا مجدداً خلال الأيام الماضية، وعلى لسان قادة فريقها التفاوضي، عزمها على بدء ملء خزان سد النهضة خلال الشهر الحالي، بغض النظر عن الوصول إلى اتفاق مع مصر والسودان، وقال رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد خلال خطاب أمام البرلمان الإثيوبي، الثلاثاء الماضي، "إذا لم تملأ إثيوبيا السد فسيعني ذلك أننا قد وافقنا على هدمه".
ويرى أبيو والي، الباحث الإثيوبي في المعهد الدولي لإدارة المياه (منظمة بحثية غير حكومية)، أن بلاده لا تزال تحاول الوصول إلى بعض الاتفاق مع مصر والسودان، لكن "أعتقد أن إثيوبيا يجب أن تستمر في تشييد وملء وتشغيل سدها، سواء كان هناك اتفاق أم لا، إذ قامت كل من مصر والسودان ببناء سدودهما سابقاً، وجرى ملء كل سد منهما من دون استشارة إثيوبيا"، معتبراً أنه "يجب على السودان ومصر دعم إثيوبيا في وضع اللمسات الأخيرة على السد، من أجل تحويله إلى انطلاقة نحو الرخاء المشترك والتعاون الإقليمي، وإذا لم يفعلا ذلك لن يمنحهما الصراع حلاً دائماً للقضية".
وأكد الباحث الإثيوبي حاجة 60 مليوناً من مواطنيه للكهرباء، في مقابل "تمتع المصريين بتغطية كهربائية بنسبة مئة في المئة، ووفرة مائية ثلاثمئة في المئة في ما يتعلق بالحاجة السنوية للري، وإثيوبيا تبني السد من أجل توليد الطاقة الكهرومائية، ما يجعله مشروعاً تنموياً أساسياً في سد تعطشها إلى الكهرباء، وعندما يُجرى تشغيله سيغطي حاجة إثيوبيا مئة في المئة من الكهرباء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستكمل والي، في تصريح خاص، "نهر النيل كان دائماً سبباً للتوترات السياسية بين دول المنابع والمصب، لأن دولتي المصب، خصوصاً مصر، منعا الآخرين من استخدام المورد، استناداً إلى اتفاقيات الحقبة الاستعمارية، لكن مع زيادة السكان والطلب على المياه، حان الوقت من أجل تقاسم عادل للمورد من أجل حفظ السلام والرخاء في المنطقة، ولذلك إثيوبيا ملتزمة بملء السد بطريقة مسؤولة، وفي الوقت نفسه يجب على مصر أن تدعم السد طالما أن الغرض منه هو استغلال طاقة المياه بطريقة غير استهلاكية، وعليها أيضاً أن تعتمد على تحسين إنتاجيتها من المياه واستغلال المياه الجوفية، وهذا هو أفضل خيار لدول حوض النيل، خصوصاً مصر وإثيوبيا من أجل الوصول إلى مفاوضات مربحة للجميع، وتأكيد الأمن والتعاون الإقليميين".
وحول إمكانية تأجيل الملء من الناحية الفنية في ظل إعلان وزير المياه والطاقة الإثيوبي أن الملء هذا الشهر يمثل جزءاً من عملية تشييد السد، واقتراح إثيوبيا بالاجتماع الأخير تأجيل حسم بعد النقاط الخلافية لما بعد توقيع "اتفاق"، أوضح الوزير المصري الأسبق "من الناحية الفنية يمكن تأجيل الملء الأوليّ لهذا العام الذي أعلنت عنه إثيوبيا بقيمة 4.9 مليار متر مكعب، يمكن تأجيله عدة أشهر، بل ومن الممكن فنيّاً حجز هذه الكمية خلال شهر واحد، وفي غير شهور الفيضان أيضاً، لكن التسرع الإثيوبي في الملء ليس له ما يبرره من الناحية الفنية"، مشيراً إلى أنه لا يمكن الحديث عن "اتفاق" ما لم تحسم بنوده الخلافية، وإلا أصبح "فارغ المضمون" على حد وصفه.
ويرجّح الكاتب البريطاني ديفيد بيلينغ اتجاه إثيوبيا إلى مزيد من التشدد في مواقفها والمضي قدماً في تنفيذ تعهدها ملء السد، قائلاً "لدى آبي أحمد دولة مضطربة وممزقة يتعامل معها. وسيتعين عليه قريباً القتال في انتخابات صعبة تأجّلت بسبب فيروس كورونا المستجد. وآخر ما يريده رئيس الوزراء الإثيوبي هو أن يبدو ضعيفاً في مواجهة الضغط الخارجي. وسيُملأ سد النهضة الإثيوبي، سواء باتفاق لتقاسم المياه أو من دون. ففي منطقة القرن الأفريقي، التدخل الخارجي مجرد جزء فقط من الصورة الكبيرة"، مشيراً إلى أن "إثيوبيا تعرَّضت لزلزال سياسي، كما لو أنَّ كل تلك الولاءات المُتبدِّلة غير كافية. إذ أصبح آبي أحمد رئيساً للوزراء في عام 2018 بعد سنوات من الاضطرابات، وتعهَّد الديمقراطية واقتصاداً أكثر انفتاحاً، والسلام مع إريتريا. ومنذ ذلك الحين، كان لدى الولايات المتحدة فرصة لتحفيز أديس أبابا للابتعاد عما تعتبره واشنطن نفوذاً صينياً خبيثاً. فطرحت احتمال ضخ استثمارات كبرى إذا ما مضت الحكومة في إصلاحات السوق.
وبدوره، قال حسن كنان، المسؤول السابق في الأمم المتحدة، الذي قدم أخيراً خطاباً مفتوحاً إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش منتقداً الأوضاع الداخلية في إثيوبيا عقب الاحتجاجات الأخيرة التي راح ضحيتها عشرات المواطنين، إن "حزب رئيس الوزراء الإثيوبي يستغل أزمة سد النهضة، لدفع الجماهير نحو حافة الحماسة القومية الموجهة نحو ما يتم تصويره على أنه مؤامرة مصرية للتشكيك في سيادة إثيوبيا على مياه النيل الأزرق"، مضيفاً في تصريح خاص، "صحيح أن مصر أيضاً تسعى لتحقيق مصلحتها الاستراتيجية وستفعل كل ما في وسعها لكسب مواجهتها المطولة مع إثيوبيا حول إدارة النيل، لكن رئيس الوزراء آبي أحمد وحزبه لديهما أجندة مخبأة ضمن أجندة النيل الأوسع والمعقدة بطبيعتها، أجندة تتعلق بسلطتهم بشكل مباشر، وإذا لم تكن هناك حرب مياه مع القاهرة، فقد يثيرها آبي أحمد مع دولة أخرى أقرب في منطقة القرن الأفريقي، بالتأكيد السلطة أثمن من قيمة جائزة نوبل للسلام التي حصل عليها عام 2019".