ثانياً: مراحل حركة الترجمة
لم تبدأ الترجمة بشكلها العلمي إلا في العصر الأموي (41-132 ه/662- 750 م)، فقد بدأت فيه نقل بعض العلوم اليونانية إلى العربية، وكان خالد بن يزيد بن معاوية (85 ه/ 704 م) المُلقب بحكيم آل مروان، عندما أُبعد عن الخلافة، اتجه صوب العلم واهتمّ بالكيمياء لرغبته الشديدة في تحويل المعادن إلى ذهب. ويقول ابن النديم البغدادي (380 ه/-900 م) عن خالد بن يزيد: "وكان فاضلاً في نفسه، وله همة ومحبة للعلوم، خطر في باله الصنعة (الكيمياء) فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كانوا ينزلون مدينة مصر، وقد تفصّحوا بالعربية، وأمرهم بنقل الكُتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي. وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة".
كما أمر خالد بعضاً من علماء اليونان الذين كانوا في الإسكندرية بترجمة "الأورغانون"، وهو كتاب المنطق لأرسطو طاليس. ومن بين الذين ترجموا إلى خالد بن يزيد هما: أصطفان القديم والراهب مريانوس. وعلى الرغم من أنه قد تمت ترجمة كُتب في الفلك والطب أيضاً، لكن هذه التراجم لم يكن لها شكل رسميّ إلا في الخلافة العباسية (132-656 ه/ 750-1258 م)، إذ اهتمت بها الدولة اهتماماً قوياً، وأمتدّ الاهتمام في الجانبين الفردي والجماعي، حتى بلغت الترجمة عصرها الذهبي في عهد المأمون الذي كان يرسل البعثات العلمية لجلب العلوم من مواردها الأصلية في أمهات الكٌتب.
وهكذا أصبح "بيت الحكمة" أول جامعة في بغداد، وأعظم مكتبة في العالم الإسلامي ترعاها الدولة، حيث يجتمع فيها العلماء والفلاسفة للدرس والمناظرة، ويؤمها الطلاب والباحثون من مختلف الأوطان والأمصار الإسلامية، بل هي أول نبراس ينتقل فيه الفكر والعلم من الاستماع إلى الاجتهاد، ومن الترجمة إلى التأليف، وبذلك انطلق الفكر في العالم الإسلامي ليصل في ما بعد إلى أعلى درجات الازدهار العقلي.
ثالثاً: أهم المترجمين واللغات التي نقلوا عنها
يوجد عدد من المترجمين الذين يُعدّون من أشهر وأكبر من نقل إلى العربية، ويمكن تصنيفهم إلى مجموعتين، الأولى ما ترجمت من اللغتين السريانية واليونانية، والثانية من اللغات الفارسية والهندية واليونانية أيضاً. ومن المفيد أن نستعرض كل شطر على جانب.
(المجموعة الأولى)
1- ماسر جويه: طبيب سرياني يهودي، ترجم إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز (99-101 ه/717-720 م) مجموعة "كناش القس أهرون بن أعين" وهو طبيب إسكندراني.
2- عبد المسيح الحمصي: وهو عبد المسيح بن عبد الله بن ناعمة الحمصي (ت 220 ه/835 م)، وترجم لأرسطو كتاب "الأغاليط"، وأيضاً شرح يحيى النحوي على كتاب "السماع الطبيعي" لأرسطو، علاوة على ترجمته أجزاء من "تاسوعات" أفلوطين.
3- حنين بن أسحق: وهو أبو يزيد حنين بن أسحق العَبَادي (194-260 ه/810-873 م) سرياني من النساطرة في الحيرة قرب الكوفة، ويُعدّ من أكثر المترجمين شهرة، وكان يُلقب بشيخ المترجمين، فقد تعلم العربية على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري (100-170 ه/718-786 م)، ودرس الطب في بغداد على يد يوحنا بن ماسويه، وحذق السريانية والفارسية، وسافر إلى بلاد الروم لتعلم اليونانية والطب. أمر المأمون بتعينه على رئاسة "بيت الحكمة"، وكان يعطيه زنة الكتاب الذي يترجمه ذهباً. ولقد نقل عدداً كبيراً من الكُتب الطبية والفكرية والفلسفية إلى السريانية والعربية، ومن بين ما ترجمه للعربية كُتب أفلاطون: "الجمهورية" و"النواميس" و"طيماوس"، وكذلك ترجم لأرسطو كُتب المنطق (المقولات، البرهان، المغالطات، الجدل الخ)، وأيضاً كتاب "السماء والعالم" وكتاب "الأخلاق".
4- أسحق بن حنين: هو أبو يعقوب أسحق بن حنين (215-298 ه/830-910 م)، الأبن الأول لحنين "شيخ المترجمين"، فقد أخذ عن أبيه الطب والترجمة، وعمل في خلافة المعتمد والمعتضد، وكان معاصراً للشاعر الكبير ابن الرومي، ولقد ترجم إلى العربية كتاب "السوفسطائي" لأفلاطون، ومجموعة من مؤلفات أرسطو: "البرهان" و"مابعد الطبيعة" و"النفس" و"الخطابة" و"الكون والفساد"، علاوة على ترجمته كتاب "إيثاغوجي" لمؤلفه برفيروس تلميذ أرسطو.
5- ثابت بن قرة: هو أبو الحسن ثابت بن قرة بن هرون (ت 288 ه/901 م) من مدينة حرَّان ومن أشهر علماء الصابئة، كان يجيد العربية والسريانية واليونانية والعبرية، نبوغه الرياضي جعله يضع كتاباً يشرح فيه علاقة الجبر بالهندسة، ولقد ترجم في المنطق والرياضيات والفلك والطب، منها جزء عن "السماع الطبيعي" وملخص كتاب "ما وراء الطبيعة" لأرسطو، فضلاً إلى ترجمته كتاب "الجغرافية" و"المجسطي" لبطليموس.
6- قسطا بن لوقا البعلبكي: وهو نصراني من أصل يوناني (ت 300 ه/912 م)، ولد في مدينة بعلبك أتقن السريانية والعربية واليونانية، أستدعاه الخليفة المستعين بالله إلى بغداد، حيث عرَّب له كُتباً في الحكمة والطب والفلك والرياضيات، منها شرح الأسكندر الأفروديسي ويحيى النحوي الديلمي على كتاب "السماع الطبيعي" لأرسطو، وكذلك شرح الأفروديسي على كتاب "الكون والفساد" لأرسطو أيضاً، ولقد أصلح تراجم كثيرة لكُتبٍ قديمة أو معاصرة في زمنه.
7- يحيى بن عدَّي المنطقي: وهو سرياني من اليعاقبة ولد في مدينة تكريت شمال بغداد، وتوفي عام (364 ه/974 م)، درس اللغتين العربية والسريانية، كان تلميذ الفارابي، وقرأ على يد أبي بشر متي بن يونس النسطوري، وضع كتاب حول الأخلاق، وترجم لأفلاطون: "النواميس" و"طيماوس"، ولأرسطو: "النفس" و"الآثار العلوية" و"الحيوان" و"السماع الطبيعي".
8- عيسى بن أسحق بن زُرعة: وهو سرياني يعقوبي (ت 396 ه/1008 م)، ولقد أخذ الترجمة عن استاذه يحيى بن عدَّي، ونقل كتاب "فيدون" لأفلاطون، وكتابين "الحيوان" و"الأغاليط" لأرسطو.
(المجموعة الثانية)
1- يوحنا بن البطريق (ت 203 ه/815 م)، كان مولى للخليفة المأمون، وترجم لأفلاطون:"الجمهورية" و"طيماوس"، وكذلك ترجم لأرسطو: "الحيوان" و"الآثار العلوية والعالم" وجزء من كتاب "النفس".
2- عبد الله بن المقفع (ت 142 ه/759 م)، نقل إلى العربية كثيراً من الكُتب الفارسية، أهمها: "خداي نامه" أو سيَر ملوك الفرس و"آيين نامه" أو كتاب المراسيم والتقاليد، و"التاج" في سيرة أنو شروان، و"مزدك" في الأدب والأخلاق المجوسية، و"كليلة ودمنة"، بالإضافة إلى ترجمته كُتب أرسطو المنطقية: (قاطيغورياس وباري أرمينياس وأنالوطيقا الأولى)، ولقد ترجمها في عهد الخلفية المنصور، وكذلك كتاب "إيساغوجي" لفرفريوس الصوري.
3- أبو عبد الله الفزاري (ت171 ه/777 م)، وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حبيب الفزاري الكوفي، أشتهر بعلم النجوم والترجمة من اللغة الهندية إلى اللغة العربية، كان منجماً للخليفة المنصور، ولقد أمره بنقل كتاب في علم الفلك الموسوم "السند هند"، وأستمر هذا الكتاب معمولاً به إلى عهد الخليفة المأمون، ثم تم اختصاره على يد أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي.
4- أبو سهل الفضل بن أبي سهل بن نوبخت (ت 203 ه/815 م). كان مترجماً وحكيماً ومتكلماً، ونال منزلة عند الخليفتين الرشيد والمأمون، ولقد عيّنه الرشيد على "خزانة كُتب الحكمة، وكان ينقل من الفارسية إلى العربية من كُتب الحكمة الفارسية، ومعوّله في علمه وكتبه على كُتب الفُرس"، كما ذكر القفطي في أخباره.
5- الحسن بن موسى النوبختي (ت 310 ه/923 م)، كان فيلسوفاً ومتكلماً ومترجماً، نقل كُتب اليونان إلى العربية، وكان له بعض الكُتب في الكلام والفلسفة وغيرهما.
6- أبو بشر متى بن يونس (ت 328ه/940 م). وهو سرياني نسطوري، أشتهر بالطب والمنطق، كان أستاذاً للفارابي في المنطق، ولقد ترجم كتاب "الشعر" لأرسطو، ونقل عن السريانية كتاب "البرهان" لأرسطو، وشرح كتاب "إيثاغوجي" لبرفيروس.