شهدت السعودية عشرات الهجمات الإرهابية منذ سبعينيات القرن الماضي، على يد تنظيمات سُنية وشيعية مسلحة، كان أشهرها هجمات جهيمان العتيبي ورفاقه على الحرم المكي، واستهداف الحجيج من عناصر حزب الله بالكويت، في ما عرف محليّاً بجريمة "نفق المعيصم"، ثم أعقب ذلك الحرب الشاملة مع تنظيم القاعدة في 2003.
لكن، تفجيرات الخبر في 1996 اتّسمت بطابعٍ خاصٍ من بين كل تلك الهجمات، لارتباطها بعوامل عدة، مثل وجود القوات الأميركية في الخليج، والنظام الإيراني والمكوّن الشيعي بالسعودية، إلى جانب تنظيم القاعدة وقطر التي كانت في ذلك الوقت تنفخ في خطاب التنظيم المنادي بـ"إخراج المشركين من جزيرة العرب"، ليتطوّر خطاب زعيمه بن لادن إلى إعلان استهداف الأميركيين مدنيين وعسكريين أينما كانوا بعد تفجيرات الخبر بأيام، فأصبح تفجير أبراج الخبر نقطة تحول في استهداف جموع الأميركية، ربما تكون التي ألهمته أنه لقتل أعداد كبيرة عليه أن يلتفت للأبراج وناطحات السحاب المأهولة بالسكان، حتى بلغ ذروته بتفجيرات أبراج مانهاتن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001م.
وهذا ما جعل التعامل مع الحادثة يختلف هو الآخر، فظلت خيوطها تتكشَّف ليس شهراً أو عاماً بعد آخر، إنما عقدٌ بعد عقدٍ، ففي كل مرحلة تسمح ظروف التوتر بين الأطراف المعنية بتناول القضية بقدرٍ من الصراحة أكبر.
وأعاد القضية إلى التداول مجدداً حكم المحكمة الفيدرالية في واشنطن أخيراً بتغريم النظام الإيراني تعويضات بقيمة 879 مليون دولار لضحايا تلك التفجيرات وعائلاتهم، في خُطوة وصفتها المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية مورغان أورتاغوس، بأنها تأتي في إطار "إقامة العدل لضحايا الإرهاب".
هكذا بدأت الحكاية
في البداية، فَهمت الأوساط السعودية أن العملية "جاءت انتقاماً من القاعدة" التي أعدمت السعودية أربعة من مقاتليها الذين نفّذوا تفجيرات العليا 1995، وهم عبد العزيز المعثم ومصلح الشمراني ورياض الهاجري وخالد السعيد، لكن بعد القبض على من لم يسعهم الهرب من جناة الخبر تكشَّفت معالم أخرى، إذ اتجهت الأنظار إلى تنظيم ما يُعرف بـ"حزب الله الحجاز" المدعوم من إيران، وهو ميليشيا متخفية على طريقة التنظيمات الإرهابية واليسارية، مكلفة تنفيذ المهمات المسلحة في السعودية والخليج، بأوامر من جانب الإيرانيين، الذين كان عداؤهم للسعودية حينها على أشدّه منذ الثورة الخمينية 1979، ومن سخرية القدر أن تجيء تلك العملية في وقت كان يُعتقد بأن العلاقة مع الإيرانيين في أفضل حالاتها!
وكان التنظيم مشابهاً في أهدافه لنظيره الكويتي والبحريني واللبناني والعراقي هذه الأيام، حسب ما تسمح به طبيعة الدولة السعودية القوية أمنيّاً، التي كشفت مخططات الحزب مبكّراً وتعاملت معها، إلا أنه تمكّن على الرغم من ذلك من تنفيذ واحد من أكثر العمليات إحراجاً للسعودية، عندما استهدف جموع الحجيج 1989، نكاية بالبلاد التي رفضت إحياء الإيرانيين شعارات دينية في المشاعر المقدسة، وتحويل المناسبة السنوية إلى مهرجان سياسي.
اكتشف السعوديون إذن خبايا الاستهداف، ومن يقف وراءه بعد التحقيق مع عددٍ من المتهمين، الذين لا يزال بعضهم حتى اليوم متخفياً في إيران، حسب اعتقاد المحللين، فوجّهت التهم إلى 13 شيعيّاً سعوديّاً على الأقل، بارتكاب الجريمة التي راح ضحيتها 19 أميركيّاً وسعوديّاً، وخلفت إصابات كبيرة بنحو 400 شخص، وذعراً بين ضيوف السعودية الأميركيين، الذين جاؤوا في الأصل من أجل حماية الكويت والخليج، ومراقبة الحظر الجوي على جنوب العراق.
ولهذا، كان استهدافهم من أي طرف مستفزاً ليس للرياض وحسب، لكن أيضاً للأميركيين، ما سرّع من عملية نقل الجنود وعائلاتهم من الساحل الشرقي إلى قاعدة الأمير سلطان الجوية الحصينة في الخرج وسط البلاد، على بعد 70 كيلومتراً من العاصمة الرياض. ومنذ حينه صار الوجود الغربي محاطاً بكثيرٍ من الحيطة والحذر، خصوصاً بعد الـ11 من سبتمبر (أيلول)، وسنوات الحرب المفتوحة مع "القاعدة" بعد تفجيرات 2003 بالرياض.
وما زاد الهجوم قسوة، كون أكثر القتلى فيه من نخبة الجنود، إذ نجد بينهم تسعة طيارين وضابطين برتبة نقيب، ما يعني أن الاعتداء خُطِّط له بدقة.
لماذا التعاطي الحذر مع هذا التفجير بالذات؟
لكن، اللافت بالنسبة إلى المحللين ليس في هذه التطورات على الرغم من أهميتها، إنما لماذا تعاطى السعوديون مع هذه القضية بطريقة اتّسمت بالغموض حتى اليوم؟ وفقاً للباحث السعودي كامل الخطيّ، الذي رجّح أن الرياض وجدت نفسها فجأة أمام قضية شائكة ليست فقط مع النظام الإيراني، الذي بدأت علاقته في التحسُّن مع السعوديين إبان عهد الإصلاحي علي أكبر هاشمي رفسنجاني وخلفه محمد رضا خاتمي، لكن أيضاً مع الأميركيين الذين كانوا يطالبون بالمشاركة في التحقيق مع المتهمين المقبوض عليهم، وسط رفض قاطع من الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية آنذاك، الذي سمح فقط بحضور رجال واشنطن التحقيقات لا أكثر.
ويرى الخطيّ أنّ السعودية بعد تكشّف الأصابع الإيرانية في العدوان، "خشيت أن يقوم الأميركيون بعمل انتقامي من الأراضي السعودية، بما يشعل مواجهة عسكرية في الإقليم الذي لم ينته بعدُ من آثار حرب تحرير الكويت، قبل بضع سنين ذلك الحين، لهذا جَنح صانع القرار إلى التعامل مع هذه القضية بكثيرٍ من الصبر والموازنة بين المصالح والمفاسد لتجنيب المنطقة خطراً جديداً".
إلا أنّ هذا التوازن يبدو أن الرياض دفعت ثمنه، إذ جاء تقرير واشنطن حسب معلومات الخطيّ، قاسياً في حق السعوديين، ولم يتفهّموا القرار السيادي الرافض مشاركتهم في التحقيق، لكن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي وقتئذ، أصبح في ما بعد محامياً مرموقاً احتفظ بعلاقة جيدة مع السعوديين، فكان المحامي الذي اختارته الأميرة هيفاء الفيصل حرم السفير السعودي في واشنطن الأمير بندر بن سلطان للمرافعة عنها عند اتهامها بعد الـ11 من سبتمبر بأنها قدَّمت مساعدة مالية إلى أحد الطلبة السعوديين، وأظهرت التحقيقات أنه كان على متن واحدة من الطائرات التي استُخدمت في الهجمتين الإرهابيتين على مركز التجارة العالمي في نيويورك، ما فهمت منه أوساط متحاملة في أميركا أن الأميرة السعودية لا تقوم بذلك بدافع إنساني نحو مواطنها الذي زعم أنه يمر بظروف صعبة.
ورقة ضغط لاستصلاح النظام
أمّا الثمن الآخر الذي يُعتقد أن الرياض دفعته لقاء ما يسميه الخطيّ "حكمتها في التعاطي مع الملف"، كان حسن الظن بالطرف الإيراني، الذي تبيّن في ما بعدُ أنه لا يتعامل بالقدر المنتظر منه في رد تحية السعودية بأحسن منها، إذ ظل الإصلاحيان رفسنجاني وخاتمي ماضيين في سياسة سلفهما وخلفهما من الرؤساء الإيرانيين الذين تواطؤوا على مكايدة جوارهم العربي سرّاً أو جهراً.
وتشير مقاربات غربية مثل فيلم "إيران والغرب: الدولة المنبوذة"، إلى أنّ الأميركيين بعد نتائج التحقيق الذي استمر ثلاث سنوات، أملوا أن يكون عهد خاتمي بعد رفسنجاني وسطياً بما يكفي للوصول إلى أرضية حوار مع النظام.
وفي تلك الأثناء يورد كتاب "الأبرياء من الخارج: حساب حميم لدبلوماسية السلام الأميركية في الشرق الأوسط" لمارتن إنديك أن سلطان عمان قابوس، حمل في هذا السياق رسالة من واشنطن إلى خاتمي تفيد بأن "الأميركيين لديهم أدلة على تورّط الإيرانيين، وكان ينبغي فتح تحقيق إيراني"، إلا أنه مضى على نهج سابقه في سياسة النكران، وهو الذي قال لصحيفة "الشرق الأوسط" آنذاك "لا علاقة لنا بتفجيرات الخبر، والحقيقة ستنكشف في المستقبل". وسجل الرئيس الأميركي بيل كلنتون في ذلك الوقت أنه وفريقه صدموا بوقوف الايرانيين في عهد الاصلاحيين خلف الهجوم، فكتب قائلا في مذكراته أن تدخل إيران أثار "أسئلة صعبة وخطيرة". وقد يفسر هذا ضخامة الفاتورة التي حكمت بها المحكمة الأميركية أخيراً، وقد لا تكون الأخيرة.
ويتردد بين أوساط المحللين السياسيين أن القيادة السعودية اختارت (وقد تكون أقنعت بذلك أيضاً حلفاءها الأميركيين) أن تستخدم ما أسفرت عنه نتائج تفجيرات الخبر ورقة ضغط في سياق التعاطي مع نظيرتها الإيرانية، بدلاً من التوجه إلى محاسبتها أميركيّاً ودوليّاً، خصوصاً أن الإيرانيين ظلوا على صلة وثيقة دائماً بعناصر من الأقلية الشيعية في السعودية، بما يوفِّر لهم مجالاً للتأثير في مستويات مكشوفة ومتخفية.
ورغم اختلاف المرحلتين فإنّ عدداً من الباحثين يشبّهون ما حدث ذلك الحين باستهداف أرامكو السعودية في بقيق أبريل (نيسان) 2019 من جانب الإيرانيين، الذين لاذوا بالنكران، وجعلوا وكلاءهم في اليمن يتبنون العملية، التي يعرف الجميع أنها تفوق قدراتهم الفنية والعسكرية. إلا أنّ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بعد ذلك، قال لبرنامج "60 دقيقة" الأميركي، إنه يفضِّل التعامل مع الموقف بـ"الحكمة، لا الانتقام".
ويقول الصحافي السعودي عثمان العمير، الذي كان نشطاً في الأحداث السياسية إلى جانب الإعلامية في تلك المرحلة، إن الاتجاه الذي طبع التعامل مع الإيرانيين بعد تفجيرات الخبر، "جاء في ظل علاقة جيدة مع طهران في ذلك الوقت". لافتاً في تعليقه مع "اندبندنت عربية" إلى أنه "لم يعد قريباً من هذا الموضوع الآن"، لكن "العلاقات بين طهران والرياض إبان ذلك الوقت جيدة جداً وتسمح بالتفاهم". مؤكداً أنه "ربما تعيد الرياض استخدام ورقة بقيق، وإن كان هذا ربما ضمن تسوية متكاملة".
ومنذ عملية بقيق تراجع التصعيد الإيراني بعد حشد الرياض المجتمع الدولي ضدها، على إثر استهدافها واحداً من رموز أمن الطاقة عبر العالم أجمع. حتى إنّ الحوثيين وكلاءهم أعلنوا بعدها خفض عملياتهم من جانب واحد، في مؤشر تهدئة، يفسِّر مخاوف الإيرانيين من "مواجهة مفتوحة" مع الرياض وحلفائها، كلفتها عالية على الأطراف كافة.
مفاجآت تلد أخرى
مع ذلك يرى الباحث السعودي "الخطيّ"، في حديثه مع "اندبندنت عربية"، أن الغموض حتى اليوم "ظل سيد الموقف" في هذه القضية بين سائر القضايا التي سجّلت ضد مواطنيه من الطائفتين السُّنية والشيعية، فلا يزال مصير المقبوض عليهم عبد الله الجراش، وسعيد البحار، وحسين آل مغيص، وعبد الجليل السمين، وأحمد المغسل غير واضح. خلافاً للعديد من العناصر التي قُدِّمت للمحاكمة، وصدرت أحكام في حقهم تتفاوت ما بين الإعدام، ومدد طويلة وقصيرة، حسب دورهم العملياتي والتنظيمي.
ولا يوجد في القانون السعودي حكمٌ بالمؤبد. بيد أن الخطيّ عاد وأقرّ أن التعامل الإنساني مع المجموعة لم يشهد أي استثناء، إذ ظلوا يتمتعون في سجنهم بحقوق نظرائهم، مثل الإفراج المؤقت للتعزية، وزيارة الأقارب، والاتصال الهاتفي، أو "الخلوة الشرعية" التي تعني سعوديّاً تمكين السجناء من لقاء زوجاتهم في خصوصية تامة.
وخلافاً لكثير من النشطاء الموالين طهران، مثل رجل الدين الشيعي نمر النمر، يؤكد كامل الخطيّ أن خلية تفجيرات الخبر ظلت أشبه بالمنسية في الداخل الشيعي، هذا على الرغم من محاولة حراك مجموعات تخريبية في بلدة العوامية شرقي البلاد بعد 2011 أن تؤجج الرأي العام الشيعي، بإيهامه أن تفجيرات الخبر نفَّذها "القاعدة"، إلا أن السعوديين اتخذوا أبناءهم كبش فداء، قبل أن يتبين أن ذلك محاولة وُصِفت بـ"البليدة" لركوب موجة الربيع العربي آنذاك، انكشف زيفها أكثر بعد ذلك عند القبض على أحمد المغسل الذي يصنّف بين قياديي المجموعة 2015. وتشير لائحة اتهام وزارة العدل الأميركية العام 2001 إلى أن القنبلة المستخدمة في التفجير صنعها عضو في حزب الله اللبناني. وتقول لائحة الاتهام أيضا إن المغسل كان على اتصال وثيق بالمسؤولين الإيرانيين طوال تخطيط وتنفيذ الهجوم.
وكان ناشط في تلك الأحداث يُدعى عادل اللباد، ألقى باللائمة على السلطات السعودية التي رأى أنها "لم تكن شفافة" بما يكفي في ملف المعتقلين على خلفية أحداث الخبر، وذلك في حوار أجراه معه في سجنه الزميل عبد الله المديفر 2019 لقناة "روتانا خليجية". لكن، بالعودة إلى السجلات القضائية والأمنية، نجد أن القضية المثيرة الجدل، يبدو أن خيوطها لا تزال مستمرة في السعودية، فعلاوة على اختفاء ثلاثة من المتهمين فيها حتى الآن، كشفت مداولات محاكمة "خلية التجسس" الإيرانية المكوّنة من 32 شخصاً في العام 2016، أن بعض عناصرها كان لهم ارتباط بخلية الخبر. فطبقاً للتهم التي ساقتها النيابة العامة السعودية في حق المتهم الـ31 في القضية، فإنه "تستر على أربعة مطلوبين أمنيّاً تورطوا في التفجيرات، وثبت مقابلته المغسل، والهاربين إبراهيم صالح اليعقوب وعبد الكريم الناصر ومحمد الحسين المعروف بمحمد الصائغ، وذلك خلال فترة وجوده في إيران 2015"، ما اعتبرته السلطات القضائية، حسب صحيفة "مكة"، التي نقلت جانباً من التحقيق، أن "المدعى عليه يواجه تهمة عدم الإبلاغ عن مطلوبين أمنيّاً"، كما أنّ متهماً آخر في الخلية التجسسية، توصّلت التحقيقات إلى تقديمه خدمات لوجيستية لصالح زوجة أحد الموقوفين على ذمة تفجيرات الخبر، بإيعاز من أحد المتهمين في القضية نفسها، داخل إيران.
وكان تنفيذ السلطات السعودية حكماً بالإعدام أصدره قضاؤها في حق نمر 2016 ضمن 47 مداناً بالإرهاب من السُّنة والشيعة، دفع علاقات طهران والرياض إلى الانهيار التام، على إثر عدوان عناصر تخريبية على سفارة السعودية بطهران وقنصليتها في مشهد وإشعال النار فيها، أمام مرأى من السلطات الإيرانية. وهي نقطة التحوّل الرئيسة التي دفعت البلاد إلى جرد حساباتها مع الإيرانيين، واتهامها رسميّاً بسلسلة من الجرائم التي كان تفجير الخبر إحداها.
التعويضات المتأخرة حملت رسالة
وتأتي التعويضات التي حكمت بها المحكمة الأميركية، في وقت يعاني فيه النظام الإيراني أزمة اقتصادية خانقة، من جراء الحصار المطبّق عليه من جانب واشنطن، بما يجعل الحكم قريباً من "مليار" دولار، ويبعث برسائل أكثر مما هو تعويض للضحايا وأسرهم، الذين قال أحدهم لقناة "العربية" من ميشغان الأميركية، "لا أعتقد أن هناك أي قيمة مادية يمكن أن تعوّض الخسارة والمعاناة والآلام التي حصلت. لكن مع ذلك لا يزال هناك الكثير من الهاربين، وأتمنى أن يقدَّم كل من انخرط في هذه العملية إلى العدالة. أمّا إيران فرغم إدانتها، فإني لا أعتقد أنها ستقرّ بمسؤوليتها، أو اعترفت بأي مسؤولية لمثل هذه العمليات، ولا نرى أنهم ينوون فعل ذلك مستقبلاً".
ويرى الكاتب السعودي يوسف الديني، أن "حالة التصعيد ضد نظام ملالي طهران بعد أن تكشّفت بعض من نياته ومشروعه التدميري في المنطقة، تأتي في توقيت متأخر، لكنه مستحق، لا سيما في سياق التجاذب الأميركي معه، خصوصاً مع قرب الانتخابات الأميركية من جهة، والخطوة الاستباقية من إيران ضد الرئيس الأميركي دونالد ترمب والمطالبة بمحاكمته".
واعتُبر هذا التجاذب في المفهومات السياسية، خصوصاً إدارة الأزمات الخارجية، هو جزء من سياق ما يعرف برمي "كروت الضغط" على الطاولة، بمعنى أن رد الإدارة الأميركية الحالية هو "إخراج بعض الملفات القديمة، والتسريع بها، لإدانة نظام طهران دوليّاً، في وقت يعيش الملالي أكثر فتراتهم حرجاً على مستوى الداخل، ما بعد جائحة كورونا، وهو الأمر الذي جعلهم يلجؤون إلى ما يُعرف بسياسة ترحيل الأزمات، التي تعتمد على تفجير الأوضاع من خلال الأذرع التابعة لهم، خصوصاً (الحشد الشعبي) في العراق، واستهداف المواقع الأميركية العسكرية".
القاعدة فعلت ولم تفعل
وإذا ما تجاوزنا الشق الإيراني الصرف في تفجيرات الخبر إلى "القاعدة"، فإن كثيراً من السياقات يكشف أن إيران ربما لها شركاء في العملية. فبالنظر إلى "القاعدة" التي كشفت مرحلة ما بعد أحداث الـ11 من سبتمبر علاقته مع إيران، حتى ذلك الحين كانت التحليلات تستبعد أن تكون قادرة على تجنيد مسلمين شيعة، لكنّ جزءاً من غموض العملية جاء بفعل مسار التحقيقات التي ترددت بين اتهام "القاعدة" أول الأمر، ثمّ التشكيك في ذلك، بعد إعلان وزير الداخلية في ذلك الحين الأمير نايف في حواره مع جريدة السياسة الكويتية أنه "كتب وقيل إنّ انفجاري الخبر ومنطقة العليا في الرياض كانا من تدبير بن لادن. لكن هذا الكلام غير صحيح. إنما إذا كان هناك من يتبنى أفكار بن لادن فذلك ممكن".
لكن، تنويه بن لادن بعد ذلك عن العملية الذي أغضب السعوديين، ودفعهم إلى تجميد أمواله حسب رواية عبد الباري عطوان، كشف أن "القاعدة" وجد في استهداف الأميركيين والسعوديين من أي طرف، عملاً يستحق الحفاوة على طريقة "لم آمر بها ولم تسؤني".
بيد أن التوقيت الذي جاءت فيه الهجمات، يكفي لترجيح أن بن لادن لو أتيحت له فرصة المشاركة في تفجيرات الخبر بأي شكل من الأشكال فإنه لن يتردد، إذ لا يزال يعاني مرارتين، وجد فيهما إهانة شخصية له ولرفاقه من جانب النظام السعودي. الأولى كانت إسقاط السعودية جنسيتها عنه، والثانية فتح ملف الأفغان العرب بعد تفجيرات العليا 1995، فعلاوة على الحكم بإعدام منفذيها، لاحقت السلطات معظم أرباب التجربة الجهادية، التي كان بن لادن في ذلك الوقت يحضّر لإحيائها مجدداً حين يحطّ رحاله في أفغانستان 1996، هارباً من السودان بعد شكه في نياته تجاهه.
ويروي الكاتب السعودي منصور النقيدان، الذي كان بين السجناء على خلفية تلك الحادثة، صورة المشهد من زاوية تجربته الشخصية، قائلاً "تفجيرات العليا أواخر عام 1995 تلاها توقيف مجموعات من الأفغان العرب وآخرين تربطهم بهم صلة أو علاقة، أو أنهم كانوا متعاطفين معهم، وعبر سلسلة طويلة من الموقوفين جرى اصطياد كلمة من هنا وكلمة من هناك، ومن حديث عابر في مجلس إلى رسالة مكتوبة، حتى أمكن الاهتداء إلى منفذي العملية".
ويضيف، "التحقيقات كانت قد أفرزت عدداً من القضايا، فقد جرى كشف مجموعة ممن شاركوا في القتال الأفغاني لا علاقة لهم بالتفجير. ومجموعة كانت متورطة بالإعداد لعملية سطو على أحد البنوك، أحبطت قبل تنفيذها. كما كشفت التحقيقات عن محاولة آخرين من (الأفغان العرب) تهريب ماكينة تزوير العملة النقدية إلى السعودية"، بينما لم تكن السلطات قبل ذلك الحين حسب إفادته "تتعرّض لهم".
فاكس بن لادن يوضح الصورة
في غضون ذلك يزعم الصحافي الفلسطيني عبد الباري عطوان، أنه بعد انتقال بن لادن ومرافقيه في مايو (أيار) 1996، من السودان إلى أفغانستان، "أرادوا إيصال فكرة أنه حتى لو طردتهم السعودية والولايات المتحدة من السودان فإنهم لم يغادروا خوفاً كالجبناء، لذلك ضرب (القاعدة) مجدداً: فكان تفجير أبراج الخبر في يونيو (حزيران)".
وقال، في كتابه "القاعدة: التنظيم السري"، عن دار الساقي، "بن لادن على الرغم من عدم تبنيه عملية الخبر صراحة، فإن أحد عناصر التنظيم قال له إنها كانت (ثأراً لمفجِّري العليا)، كما أنّ بن لادن سريعاً ما وظَّف زخم الحادثة في (إعلانه الجهاد) ضد الأميركيين".
وقال عطوان، بنبرته المضادة للسعودية، "كان تفجير أبراج الخبر نقطة تحوّل رئيسة في مسار تنظيم القاعدة. فعندما لم يسارع بن لادن إلى إعلان مباشرة مسؤوليته عن الهجوم، بدت الحكومة السعودية متلهفة للتأكد أن الهجوم نفّذته مجموعة شيعية إرهابية". وذكر في تلك المرحلة مصدر مقرّب من تنظيم القاعدة، أن الهدف من الهجوم "كان الثأر من إقدام السلطات على إعدام أربعة رجال اتُهموا بتفجيرات الرياض (العليا)، وأجبروا على الإدلاء باعترافات بثت عبر شاشات التلفزيون، في حين أن لا علاقة لهم على الإطلاق بالهجوم".
وأضاف أنه بعد مرور فترة وجيزة على تفجيرات الخبر، تحديداً أغسطس (آب) 1996، أرسل بن لادن فاكساً إلى صحيفة "القدس العربي"، التي يملكها عطوان، ضمنه "(إعلان الجهاد) ضد الأميركيين المحتلين بلاد الحرمين الشريفين". مشيراً إلى أنّ اللافت في البيان أنه "لم يصدر باسم لجنة الشورى والإصلاح، على غرار البيانات السابقة كافة التي كانت تدين الوضع في السعودية في أثناء إقامة بن لادن في السودان، فالوثيقة المكوّنة من 12 صفحة كانت مذيلة بتوقيع بن لادن".