Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مصريون في "متاهة الغلاء" يدركهم "المسوق العقاري"

شباب وشابات أغلبهم خريجو جامعات ومعاهد عليا يعكننون مزاج المحبطين اقتصادياً بمكالمات عن فرص لشراء وحدات سكنية بالملايين

أعداد متزايدة ومتفاقمة من المصريين باتت تعاني فوبيا المسوق العقاري (رويترز)

ملخص

يغلق المصريون هواتفهم في مواعيد الذروة، إنها ذروة اتصالات العاملين في التسويق العقاري فيتسلل المتصلون عبر أثير المنصات من دون ضابط أو رابط يدقون من دون هوادة على قوائم أرقام هواتف محمولة يحصلون عليها بطرق تخرق قواعد خصوصية المعلومات الشخصية وسريتها

أنواع الفوبيا (الرهاب) كثيرة، وآخذة في التنوّع مع تنوع مجريات العصر. منها "الفوبيا" المعروفة من الأماكن المغلقة والمرتفعة والضيقة والموت وطبيب الأسنان والألم، وركوب الطائرات والوحدة ومنها الغريب والمثير. فوبيا الكلمات الطويلة، والاستحمام، والشَعر، والنوم، والقائمة طويلة وقوسها مفتوح.

ومن الفوبيا ما ليس مدرجاً بشكل معترف به علمياً في كتب علماء وأطباء النفس، لكنه موجود. فوبيا الخوف من التصاق زبدة الفول السوداني في حلق الفم مثلاً ليست مدرجة في قوائم الفوبيا العلمية، لكنها موجودة، ويعاني منها كثيرون.

من هذا المنطلق، أعداد متزايدة ومتفاقمة من المصريين باتت تعاني فوبيا المسوق العقاري. إنه المسوق الذي يدركهم أينما كانوا. يغلقون الهاتف المحمول، فيطلون من الأرضي، يفصلون الخط ويعتقدون أنهم باتوا في مأمن، يطل عليهم من "واتساب" المتصل بالكمبيوتر أو البريد الإلكتروني، حيث لا محيص من التهرب أو ملجأ بالإغلاق.

التسلح بـ"البلوك"

يتسلحون بخاصية الـ"بلوك" للأرقام غير المسجلة والأسماء غير الواردة في قائمة المعارف، يباغتك "مودي" ابن خالتك سعاد، أو "كوكي" ابنة العمة نهاد، وبعد السلامات والتحيات، يخبرك مودي أن حلم اقتناء شاليه في الساحل أوشك على التحقق، وليس عليك إلا زيارته في مقر عمله الجديد في شركة كذا للتطوير العقاري، وتعلمك كوكي أنها تطمع في أن تكون أول عميل لها في عملها الجديد، وذلك بحجز وحدتك في العاصمة الإدارية الجديدة بدفع مبلغ بسيط قوامه مئة ألف جنيه!

سواء كانت مصر تواجه انتكاسة في سوق السكن الفاخر، أو فقاعة في السكن الاقتصادي، أو تشبعاً أو احتياجاً، أو ركوداً أو انتعاشاً في السوق العقارية، المؤكد أن أعداداً متزايدة من المصريين تنتابهم أعراض قد تجد نفسها في المستقبل القريب ضمن قائمة الفوبيا المعترف بها، وسيكون اسمها "فوبيا المسوق العقاري".

المسوق العقاري يأتي بكل الأحجام والألوان والأشكال والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والطبقية. المهم أنه يأتي في كل وقت، بغض النظر عن مواءمة التوقيت أو سخافته، في كل ظرف، سواء كان مواتياً أو معاكساً، في الفرح وفي الحزن، في الصباح وفي المساء، بصوت رخيم أجش يوحي بالرجولة والخشونة أو لطيفاً رقيقاً مدلدقاً أنوثة ونعومة.

من كريم عزت، الملقب بـ "بيغ كريم"، نظراً إلى الاستثمار الواضح في تلك العضلات المنتفخة والرقبة المكتنزة والأكتاف العريضة خريج أرقى الجامعات الدولية وسليل العائلات العريقة ومن الرعيل الأول الذي استوطن "الساحل الشرير" صيفاً، وسكن الكومباوندات الفارهة شتاءً إلى "حمدي الحرامي" الذي اكتسب لقبه بعد عقود من النشل المتناهي الصغر مترقياً إلى عالم قطع الطريق وترويع الآمنين ثم النصب والاحتيال عبر بيع أجهزة كهربائية مغشوشة وإلكترونية مضروبة، قبل أن يعتزل العمل العام ويصبح "سمساراً" على باب الله، أو بمعنى أدق على باب شقته الصغيرة في أحد المجتمعات العمرانية الصغيرة، وما بينهما من فئات وأنواع تغيب الأعداد والأرقام عن عالم المسوقين العقاريين في مصر.

 

تقديرات يتداولها خبراء اقتصاد وعالمون ببواطن أمور العقارات وسوقها والعاملين فيها في مصر ترجح أن عدد شركات التسويق العقاري تتراوح بين خمسة وستة آلاف شركة. وعلى رغم الفروق الجوهرية بين التسويق والتطوير والاستثمار العقاري، ووجود شركات تعمل في المجالات الثلاثة عبر أقسام مختلفة، يعمل فيها موظفون وموظفات يقومون بمهام تختلف عن بقية الأقسام، فإن مفهوم "المسوق العقاري" بات مسمى شعبوياً يحمل في طياته محاسن ومساوئ، وتعتبره الغالبية هذا الشخص الذي يطاردك براً وبحراً وجواً، عبر الأثير بأنواعه والرسائل بفئاتها، على مدار ساعات اليوم الـ 24، وأيام العام الـ 365، أو الـ 366 حال كانت سنة كبيسة، من أجل أن يعرض عليك قصراً في أرقى كومباوند في القاهرة، وشقة ترى البحر في الإسكندرية، وشاليهاً في أحدث منتجعات العلمين، ووحدة سكنية في قبرص أو غرفة فندقية في اليونان، والخيارات لا حصر لها.

ولأن "المسوق العقاري" لم تعد عبارة محمودة العواقب، ولأن مسمّى "السمسار" يفتقد الرقي وغارق في قدم شقة مطرحين (غرفتين) وصالة وعفشة مياه (حمام) لا حداثة الكومباوند والـ"يونيت" والـ"ستاند ألون" و"التوين"، فقد أصبح "المستشار العقاري".

أما البدايات فمبهرة: مدام سعاد، مساء الخير. كيف حالك؟ أتمنى تكوني في أفضل حال.

مساء النور. يا رب أسرتك وأحبابك كلهم بخير.

الحمد لله.  إن شاء الله دائماً يا رب.

هنا بدأت "مدام سعاد" تتململ قليلاً. مين حضرتك؟

أنا المستشارة السكنية والاستثمارية والعقارية نرمين فؤاد.

صنعت كلمة "مستشارة" هالة من الأهمية والإثارة جعلت "مدام سعاد" تتريث قبل أن تطلق العنان لهرمون التوتر "الكورتيزول" ليعبر عن نفسه للمتصلة.

تفضلي. أي خدمة؟!

لدينا وحدات عقارية تبدأ من سبعة ملايين جنيه والباقي تقسيط على 15 عاماً، ولدينا كذلك وحدات فندقية لقطة تبدأ من أربعة ملايين جنيه والباقي على سبعة أعوام، ولدينا...

وقبل أن تستكمل السرد، باغتتها مدام سعاد بعبارة "شكراً. لست مهتمة"، وذلك قبل أن تنهي المكالمة.

لكن المكالمة أبت أن تنتهي، سارعت "المستشارة" بالاتصال مجدداً، وقالت بسرعة تحسباً لأية إغلاقات مفاجئة: "مدام سعاد، أنت مهتمة بأي نوع من العقارات، لدينا...".

هذه المرة، أطلقت مدام سعاد العنان لـ"الكورتيزول"، ومعه مقدار معتبر من الـ"أدرينالين"، ما أدى إلى هروب "المستشارة" للأبد.

ضاقت دنيا العقارات

وحين تضيق دنيا العقارات بالمكالمات الهاتفية التي يمكن إنهاؤها من دون سابق إنذار، فإن براح المنصات والتطبيقات يفتح ذراعيه. بعد شكاوى واعتراضات على طوفان المكالمات الهاتفية التي تدق أجراسها صباحاً وظهراً ومساءً بلا هوادة، أملاً في بيع وحدات سكنية ترى البحر أو تطل على النهر أو قريبة من المسجد أو على مرمى حجر العاصمة أو على مفترق طرق كل المدن، شهد هذا النوع من التسويق العقاري العشوائي نزوحاً جماعياً صوب منصات أخرى أبرزها "واتساب". ينتهج النازحون مدرسة متطابقة تعمل تحت راية الأدب الجمّ والحس الراقي، حيث "نأسف على الإزعاج" أو "نشكرك على وقتك"، وذلك قبل أن يتم عرض الوحدة السكنية المراد بيعها.

تحركات شبيهة ومتزامنة دارت رحاها على بقية الأثير العنكبوتي. يرتكب المستخدم "غلطة عمره"، على حد قول أحدهم، ويبحث من باب العلم بالشيء عن "شاليه في الساحل الشمالي". بحث بريء ساذج، حيث الباحث لا يملك سوى راتبه الزهيد وبطاقة التموين، لكنه يفاجأ بأن صفحاته على الـ "سوشيال ميديا" قد تعرضت لغزو عقاري يتمثل في إعلانات لا تهدأ عن قصور وفيلات وشاليهات لا يوازي سعر أرخص مقدم لها مجموع ما سيتقاضاه المستخدم طيلة حياته من راتب شهري، وما يحصل عليه الورثة من معاش لمئة عام مقبلة.

ولأن التسويق فكرة، ولأن الفكرة لا تموت، ولأن "لست مهتماً" أو "لا شكراً" أو "لو قررت شراء وحدة سأتصل بك" جميعها عبارات لا تعني شيئاً في قاموس نسبة معتبرة ممن يعملون في التسويق العقاري، لا سيما الموصوفون شعبياً في مصر بـ"على باب الله"، أي غير المعنيين ممن يعتمدون في دخلهم على نسبة من المبيعات التي غالباً لا تتحقق من الأصل، فإن أغلب العاملين في هذا الجزء من المجال العقاري يعتنقون مبدأين لا ثالث لهما: لا حياء في التسويق، ولا يأس مع الحياة.

يغلق المصريون هواتفهم في مواعيد الذروة. إنها ذروة اتصالات العاملين في التسويق العقاري، وغالباً تكون بين الرابعة والتاسعة مساءً. فيتسللون عبر أثير المنصات من دون ضابط أو رابط، ويدقون من دون هوادة على قوائم أرقام هواتف محمولة يحصلون عليها بطرق تخرق قواعد خصوصية المعلومات الشخصية وسريتها.

أغلب المتصَل بهم لا يعرفون أن اللحظة التي يتيحون فيها رقم هاتفهم المحمول لسلسلة محلات تجارية للحصول على أحدث العروض والخصومات، أو شركة توريد فلتر الماء لتذكرهم بموعد الصيانة، أو ترك رقمهم للاتصال بهم حال توافرت وظيفة أو غيرها يفقدون فيها خصوصيتهم. يعتقدون أن رقم الهاتف لا يعلمه إلا الأقارب والأصدقاء والمعارف، لكن على الأرجح أصبح متاحاً لشركات وجهات وهيئات ذات أنشطة متعددة.

بيانات الناس

تحت مسمى "تسريب معلومات"، أو "شراء بيانات" أو "تشارك منافع" يقبل البعض، جهات وأفراد، على بيع وشراء بيانات الناس. وأحد أبرز استخدامات هذه التجارة تجري في مجال التسويق العقاري، لا سيما من قِبل وكلاء الوكلاء، والسماسرة المبتدئين، ومنهم من لا يتوانى عن الاحتفاظ لنفسه بقوائم أرقام هواتف الناس، فيصطحبها معه من هذه الشركة إلى تلك، مع العلم أن كثيرين ممن يعملون في التسويق العقاري الهاتفي كثيرو ودائمو التنقل بين الشركات. ومنهم من يعتقد أن في إمكانه أن يبدأ عمله الخاص بهاتف وقائمة هواتف الناس، ولا يدفع الثمن سواهم.

الطريف أن البعض من المصريين وقع في شرك نصبه الرعيل الأول من المسوقين عبر الهاتف. كان هذا في زمن التسويق العشوائي الوسطي الذي يدق على سذاجة وقلة خبرة المتصل بهم، إضافة إلى استخدام سلاح الابتزاز والمقايضة. "أمدني بخمسة أسماء وأرقام هواتف لأصدقاء أو أقارب لأتوقف عن الاتصال" كانت خلاصة المقايضة التي نجحت نجاحاً مبهراً، وذلك للتخلص من تكرار الاتصال وإزعاجه.

تطورت المنظومة وتحولت وتحورت، وفاقت أدواتها أسلحة الابتزاز والمقايضة. أرقام هواتف المسوقين في حالة تغير دائم. بعضها أرقام مميزة حيث أرقام مكررة أو مسلسلة، ما يعطي شعوراً أن المتصل "شخصية مهمة"، وهو الشعور الذي يدفع المتصل به للرد سريعاً.

واكتشفت جموع المسوقين العقاريين عبر الهاتف أن كل ثانية يبقون فيها المتصل به على أثير المكالمة هي مكسب لهم. بدلاً من "مساء الخير يا فندم. معك فلان من شركة كذا" وهي المقدمة التي تؤدي إما إلى مقاطعة من المتصل به الذي يكشف أمرهم مخبراً إياهم أنه "لا يريد" أو "غير مهتم" أو "لا شكراً" حال كان المتصل به مهذباً خلوقاً صبوراً، أو تنتهي المحاولة بإغلاق الهاتف في وجه المسوق.

وجه المسوق ليس شريراً أو نواياه سيئة. هم جيوش جرارة من الشباب والشابات، أغلبهم خريجو جامعات ومعاهد عليا، أعدادهم غير معروفة، ومسيرتهم في مجال التسويق العقاري عبر الهاتف غالباً قصيرة. البعض يشبه هذا المجال المهيمن على سوق العمل شبه الهامشي، شبه الرسمي، شبه الحقيقي، بمجال بيع وتسويق الموسوعات في الثمانينيات والتسعينيات. وقتها كان اقتناء موسوعة من قبل البعض شكلاً من أشكال الوجاهة الاجتماعية، شأنها شأن اقتناء قطعة أكسسوار أو تابلوه يتم وضعه في واجهة البيت ليراه الضيوف. كان هذا المجال يستوعب في حينها آلاف الخريجين الجدد في بداية رحلة البحث عن عمل، غالباً عقب تبخر حلم "الكارير" أو "المهنة" في هواء تدني المهارات، إضافة إلى أعداد الخريجين الضخمة من جهة، والبطالة من جهة أخرى.

 

اليوم، تطل البطالة بوجوه متعددة مع تضاعف أعداد الخريجين المحبطين الباحثين عن أي فرصة عمل، ولو موقتة. ويضاف إلى ذلك عالم افتراضي قادر على ترجمة المثل الشعبي "لبّس البوصة تبقى عروسة" إلى حقيقة وهمية. آلاف، وربما ملايين، الفيديوهات والتدوينات يعج بها أثير الـ"سوشيال ميديا" باعتبارها "طريقك إلى التميز في التسويق العقاري".

فتحي كرانيش يمتلك مكتب تسويق عقاري في تجمع سكني جديد على مشارف القاهرة. بدأ كرانيش، وهو اسم الشهرة، مسيرته في عالم التسويق العقاري عامل طلاء، وكان تخصصه الذي اشتهر به هو تركيب "الكرانيش"، وهي قطع الديكور الإسمنتية التي يجري تزيين الأسقف بها. ومن عالم الكرانيش إلى السمسرة، حيث يتوسط ليبيع شقة هذا لذاك، ويعرض خدماته لتسويق شقة للإيجار هنا، ومنها إلى تأسيس مكتب يعمل فيه خمسة مسوقين عقاريين عبر الهاتف في المساء، عمال تشطيب داخلي في النهار.

السنوات القليلة الماضية شهدت تغيرات عديدة على مشهد التسويق العقاري الهاتفي، أو ما يسمى بالمكالمات الباردة، أو التسويق البارد. بحسب "مكتب مفوض المعلومات" (مؤسسة بريطانية تهدف إلى التمكين عبر المعلومات وتلقي الشكاوى وتقديم النصائح)، يوجد نوعان من المكالمات المزعجة: مكالمات التسويق المباشرة، وهي مكالمات يجريها شخص حقيقي لم يوافق المتصل به على تلقيها، ومكالمات التسويق الآلية، وهي رسائل تسويقية مسجلة مسبقاً يجري تشغيلها عند الرد على الهاتف.

توتر المكالمات الإجبارية

"مكتب مفوض المعلومات" واحد من عديد من الجهات التي يمكن أن يلجأ إليها المواطن البريطاني للحصول على نصائح في ما يتعلق بتلقي المكالمات المزعجة من المسوقين، وبينها الجهات الرسمية التي يمكن اللجوء إليها لوقفها بالقانون.

لكن دولاً أخرى لم تنتبه، أو ربما انتبهت، لكن لا تملك من الوقت أو الجهد أو الثقافة أو الرغبة في وضع حدود أو قواعد لتقييد وتنظيم عمل هؤلاء المسوقين وشركاتهم بنصوص قانونية أو إجراءات رسمية.

يظل المصريون، ضمن شعوب أخرى، يعانون غضب وتوتر وغيظ تلقي هذه المكالمات. وأضيفت إلى قائمة المشاعر الغاضبة الناجمة عن الإزعاج والتطفل، تلك المنفجرة بسبب الضغوط الاقتصادية الرهيبة التي يرزح تحتها الغالبية المطلقة من المتصل بهم باختلاف فئاتهم وطبقاتهم.

بين سفير سابق يخبر المسوقة العقارية التي حاولت أن تستدرجه ليشتري فيلا فاخرة في الساحل الشمالي إنه وجد وثائق تركها جده تثبت شراءه بيت العائلة الذي يقيم فيه بما يزاوي مئة جنيه مصري، وأن هذا كل ما يملكه في الحياة، ولم يدعها تنهي المكالمة إلا بعد أن أقسمت أن تشطب اسمه من قوائم العملاء المرجوين، ومحاسب أربعيني كاد أن يتلفظ بكلمات يحاسب عليها القانون وتخرق قواعد الأخلاق حين أصر المسوق أن يعرض عليها فقط طريقة سداد أقساط وحدة سكنية صغيرة في العاصمة الإدارية، واكتشف بعد حساب مقدم الحجز والدفعة الأولى، ومجموعها يمثل أقل من 20 في المئة من قيمة الوحدة أنه لو دفع راتبه بالكامل إلى أن يبلغ سن المعاش لن يسدد هذه القيمة، وسيدة ستينية قررت بعد مئات المكالمات من مسوقين ومسوقات يستغلون طيبة قلبها ويمتحنون صبرها بعرض قصور وفيلات وشقق واستوديوهات في أماكن لم تسمع عن أغلبها ولا تخطط لشراء أي منها حيث معاشها الشهري الذي لا يتجاوز خمسة آلاف جنيه يحول بينها وبين أي خطط عقارية أو استثمارية أن تنهي تعاملها مع الهواتف المحمولة على أن يتصل بها أبناؤها وأحفادها على الخط الأرضي وغيرها من ملايين القصص والحكايات التي تعكنن على مزاج المصريين المضغوطين نفسياً المنهكين معيشياً المحبطين اقتصادياً لأقصى الحدود، تمضي مكالمات المسوقين بلا هوادة.

 

هوادة صغيرة حدثت في يوليو (تموز) الماضي، لكنها بقيت هوادة، ولم تتطور إلى مرحلة السياسة أو الحماية. عضو مجلس النواب المصري النائبة أميرة أبو شقة تحدثت بما يجول به قلب وعقل وصدر أعصاب أغلب المتصل بهم من ملايين المصريين.

قالت: "الناس مش لاقية (لا تجد) تاكل! هل يعقل أن تُضاف إلى أزمات ومعاناة المواطن البسيط، الذي يئن تحت خط الفقر، معاناة أخرى بإزعاجه على مدار اليوم من قبل مجهولين يعرضون عليه فيلات وشاليهات وشقق، قيمة الواحدة منها عشرات الملايين؟".

سؤال النائبة الاستنكاري لاقى قبولاً واستحساناً من قبل القاعدة العريضة من المصريين، باستثناء تلك البيوت والأسر التي يعمل أحد أفرادها في مجال التسويق البارد أو الهاتفي.

ماجدة منير (56 سنة) تقول إنها تعي تماماً الإزعاج الذي تتسبب فيه مكالمات التسويق العشوائية التي يتلقاها أغلب المصريين. ليس هذا فقط، بل تقر وتعترف إنها حتى عام مضى كانت لا تتوانى عن توبيخ هؤلاء المتصلين والمتصلات، بل وإغلاق الخط في وجوههم أحياناً، لكن اضطرار ابنها حديث التخرج للعمل في هذا المجال بعد أشهر طويلة من البحث عن عمل من دون جدوى جعلها ترى المسألة من الجانب الآخر.

تقول: "هؤلاء أبناؤنا وبناتنا ممن يتلقون الصدمة الكبيرة الأولى في حياتهم المهنية. درسوا ما لا يقل عن 16 عاماً بين مدرسة وجامعة على أمل العثور على فرصة تحقق لهم طموحهم العملي والمادي، فإذ بالوضع الاقتصادي الصعب وسوق العمل المحدود يدفع بهم إلى التسويق العقاري عبر الهاتف. لذلك أصبحت أتلقى هذه المكالمات بصدر أرحب وصبر أكبر. أسمعهم حتى ينتهون من عروضهم، ثم أخبرهم برفق ولين إني مش لاقية (لا أجد) آكل".

ردع المزعج

أتى إعلان النائبة أميرة أبو شقة عن تقدمها إلى لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في البرلمان بطلب لإضافة تعديلات على القانون رقم (10) لسنة 2003 الخاص بقانون تنظيم الاتصالات في وقته تماماً. وأشارت إلى إمكانية سد ثغرة الذريعة التي تتحجج بها وزارة الاتصالات من أن خروج بيانات المتصل بهم لا تحدث من خلالها، ومن ثمّ لا تتحمل مسؤولية هذه الاتصالات.

وأوضحت أنه في حال كان مصدر تسريب تلك البيانات الشخصية والأرقام غير معلوم أو محدد بسبب لتعدد جهات التسريب، فإنه يمكن ردع "المزعج" عبر الهاتف الذي يتصل به وتوقيع غرامة عليه، لا سيما أنه يمكن مقاضاة الشركات التي تحصل على البيانات الشخصية للأفراد بشكل غير قانوني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأسهبت أبو شقة في وصف هذه المكالمات بكل الأوصاف التي تشكو منها الملايين. قالت إن الاتصالات التي تدور على مدار اليوم مزعجة ومستفزة وعشوائية، ويُجبر على تلقيها المتصل به، نظراً إلى عدم معرفته بهوية المتصل. ووصفت الوضع بـ"المنفلت" و"الغامض"، لا سيما أن أحداً لا يعرف أو لا يعلن عن كيفية حصول هؤلاء على أرقام الناس.

وعادت أبو شقة لتدق على وتر الأوضاع المعيشية الصعبة، التي فاقمت من الآثار المزعجة والمؤلمة لهذه الاتصالات. قالت إن "الواقع المعيشي الحالي للمواطنين يعبر عن معاناة حقيقية بسبب الغلاء وارتفاع أسعار الخدمات ونقص الأدوية، وغيرها من الأزمات وأنواع المعاناة التي يعد كل منها شكوى أليمة من صعوبات وقسوة الحياة. ثم تأتي هذه المكالمات لتستفز مشاعر الناس حيث عروض مليونية لوحدات سكنية، ولا يهم المتصل أو الشركة الظروف المعيشية لمتلقي الاتصال".

قبل ذلك بأسابيع، تحديداً في يونيو (حزيران) الماضي، تقدم عضو مجلس النواب كريم طلعت السادات ببيان عاجل حول ممارسات شركات التسويق العقاري والتواصل مع المواطنين عبر أرقام شخصية وليست خاصة بالشركات، وقال إن هذا الأسلوب يزعج المواطنين ويثير استياءهم وينتهك خصوصيتهم. وطالب بتدخل الحكومة ممثلة في كل من وزارة الاتصالات والجهاز المركزي لتنظيم الاتصالات لاتخاذ ما يلزم لردع الشركات ومنع هذه الممارسات.

وفي انتظار ما ستؤول إليه مناشدات ومقترحات ومطالبات تقنين الاتصالات الباردة، تمضي الاتصالات بشدة وقوة واستمرارية مع ابتكار مداخل جديدة وتضييق الخناق على المتصل بهم، فإن أغلق خاصية تلقي الاتصالات، فإن "واتساب" له بالمرصاد. لكن تمضي أيضاً خطوات وابتكارات المتصل بهم قدماً، لا سيما أن سنوات طويلة من تلقي المكالمات وإساءة استخدام البيانات وسوء اختيار الوقت والمكان أكسبت الملايين خبرة في التعامل.

وجاءت الأوضاع الاقتصادية لتضيف بعد الجرأة والإقدام من دون تخاذل أو حرج، ويصل أحياناً للبجاحة والصفاقة لردع المتصلين وزجر المتطفلين وتلقين المسوقين دروساً في الإحساس بالناس ومراعاة الظروف وعدم الاتصال مرة أخرى.وإلى أن تتضح الرؤية، يظل "رهاب المسوق العقاري" يحصد مزيداً من الضحايا من المصريين. إنه رهاب من نوع خاص، يشتد عوده على وقع الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وتتمدد قاعدته بسبب فرص العمل المتقلصة في قطاعات أخرى ما يجعل "المسوق العقاري" مهنة الملايين، ويضرب بعنف ملايين الأسر التي تعاني ارتطامات طبقية واقتصادية عنيفة، وتجد في اتصالات المسوق العقاري إما وسيلة لفش الغل، أو دليلاً على ضياع البوصلة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات