على هامش المجتمع الجزائري، يعيش أبناء دور الأيتام حياة قاسية ومؤلمة، يبحثون فيها عن حلول لمعضلات لم يتورّطوا فيها، فيُصدم كثيرون منهم بجدار سميك يُحطّم مستقبلهم بعد سن الرشد، بينما يُكابد آخرون الزمن للتأسيس لحياة جديدة، طريقها ليس سهلاً.
الجدل يعود
أعادت حادثة طرد 7 أطفال بالغين من دار الطفولة المسعفة في حي السلام بمدينة وهران غرب الجزائر، جدلاً واسعاً حول مستقبل هذه الفئة المهمّشة والمظلومة في المجتمع، التي تنكّر منها أبوان لم يتحمّلا مسؤوليتهما.
وتفجّر النقاش الحاد في أعقاب نشر الأطفال لفيديو مصور على منصات مواقع التواصل الاجتماعي، يشتكون فيه مِمَّا وصفوه بـ"ظلم" مدير دار الطفولة المسعفة، الذي أمر بطردهم بعدما بلغوا سن الرشد المحدّد في القانون الجزائري بـ 18 سنة.
وتعاطف ناشطون مع الشباب الذين عبّروا عن استيائهم من عدم وجود مكان يأويهم، ما حرّك مديرية النشاط الاجتماعي، التابعة لوزارة التضامن الجزائرية، التي أعلنت تحويلهم إلى ديار الرحمة.
ومؤسسات الطفولة المسعفة، هي دور للرعاية والتكفّل بالأطفال، منهم مجهولو النسب، ضحية العلاقات خارج النطاق الشرعي، إذ تُشير أرقام غير حكومية، إحصاء أكثر من 40 ألف حالة ولادة غير شرعية سنوياً خارج المستشفيات العمومية.
وهذه المؤسسات مكلّفة بالاستقبال والتكفّل ليلاً ونهاراً بالأطفال المسعفين من الولادة حتى سن الـ18.
حلم اللقاء
فوزية واحدة من أبناء دور الأيتام، التي ينفطر قلبها ولا تتمالك دموعها كلّما تذكرت قصتها. فقد دفعت هذه الصبية الثمن عندما كانت نتاج "خطأ" وقع فيه والداها، لتجد نفسها في دار الطفولة المسعفة للأطفال مجهولي النسب، قبل أن يسوقها القدر بعد سن الـ 18 إلى امرأة عجوز احتضنتها واعتبرتها والدتها الحقيقية.
من حسن حظ فوزية أنها تربّت في بيت عائلي أمدّها بالدفء والحنان المفقود منذ سنوات لتجد نفسها أمام واقع جديد وتحدّي الحصول على شهادة تمريض "بمساعدة تلك المرأة التي احتوتها،"بحسب قولها.
وتتحدث عن تلك العجوز بحزن شديد بعدما فارقت الحياة وورّثتها غرفة ومطبخ في منطقة الأبيار بالجزائر العاصمة يقيانها تقلّبات الزمن في مجتمع لا يرحم، غير أن حلمها في تلقي اتصال من والديها اللذين تخلّيا عنها لا يزال قائماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لماذا يحدث هذا معي؟
18 عاماً... سن لا يمنح حلولاً كثيرة للفتيات، فهنّ مخيّرات بين حتمية إيجاد مأوى أو زوج أو العيش بمفردهن أو في الشوارع وكم هي قاسية تلك الأزقّة والأحياء الباردة ليلاً والمكتظّة بالعيون المتربّصة نهاراً.
وقعت سعاد ضحية اغتصاب من قبل مجموعة شباب، لأنها وجدت نفسها في الشارع بعدما عاشت سن الطفولة في أحضان أسرة تتكوّن من زوجين لا ينجبان الأولاد، اختاراها لتكون ابنتهما، إلّا أنّ النهاية لم تكن سعيدة، فالزوجان تطلّقا وهنا بدأت المعاناة.
تُركت الطفلة، وهي في سن الـ 13 بلا وليّ، فاضطرتها الظروف إلى الركض وراء لقمة العيش بأي طريقة كانت، حتى إن باعت شرفها.
حقيقة مُرّة
ترى المحامية فاطمة الزهراء بن إبراهيم، أن عدداً كبيراً من أبناء دور الأيتام، تضيع حياتهم بحكم الظروف عقب التخلّي عنهم.
يلجأ الشباب إلى المخدرات للهروب من واقعهم الأليم في حين تمارس الفتيات الدعارة للاستمرار في توفير لقمة العيش، وكم هو مؤلم هذا الواقع المرير.
وتضيف لـ"اندبندنت عربية"، "هذه المشكلات خطيرة وتخفي وراءها صعوبات قد تهدّد بنية المجتمع، بينما يمكن معالجتها بطريقة ذكية وسهلة وإنسانية، عن طريق تخصيص سكنات تأوي أبناء الطفولة المسعفة".
وترصد الجزائر موازنة ضخمة لقطاع السكن سنوياً، لتشييد سكنات اجتماعية وتوزيعها على الفئات الهشّة من المجتمع، فيدفعون مقابلها مبالغ رمزية شهرياً.
وتقول فاطمة "أخذت الدولة الجزائرية على عاتقها التكفّل بهم من خلال وضعهم في دور الطفولة المسعفة، والواجب إكمال هذه المهمة حتى ضمان حياة أسرية للأطفال الذين تُركوا من جانب أوليائهم".
كما تقترح المحامية الموصوفة بـ"المتمرّدة"، نظراً إلى مواقفها وتصريحاتها الجريئة في ما يتعلّق بالقضايا الاجتماعية، إعادة النظر في نصوص قانونية تحرم المرأة التي قرّرت استرجاع ابنها بمجرد تحسّن وضعيتها الاجتماعية".
وتوضح "ما المانع من إعادته إلى حضن أمه، أعتقد أنه حلّ مناسب أحسن من بقائه في دور الأيتام". وإضافةً إلى ما تقترحه المحامية الجزائرية، تطالب جمعيات حقوقية مهتمّة بشؤون الطفل، إحالة هذه الشريحة إلى مراكز الرعاية وتأسيسهم لأسر من خلال تشجيعهم على الزواج في ما بينهم ومرافقتهم في استكمال تعليمهم بشكل يمنع عنهم الانحراف وتوفير منح اجتماعية، أو مرافقتهم في مشاريع حياة تكبر معهم يموّلها رجال أعمال من فاعلي الخير.
مرافقة فردية
في المقابل، تدعو الباحثة في علم النفس العيادي ورئيسة المجلس العلمي لمرصد حقوق الأطفال ڨهار صبرينة، إلى ضرورة التكفّل والمرافقة الفردية للبالغين الذين يغادرون مؤسسات الطفولة المسعفة.
وتقول لـ"اندبندنت عربية"، "لا يمكن وضع أشخاص بالغين في المركز ذاته مع أطفال وهو ما تنصّ عليه المواثيق الدولية التي صادقت عليها الجزائر، إلّا أنّ البعد الإنساني يجب أن يكون حاضراً دائماً مع الأيتام، كحق المأوى والرعاية الصحية والاجتماعية. هي قيم تجمعنا باختلاف أيديولوجايتنا".
وترى الاختصاصية النفسية الحلّ في التمهيد لخروج الأطفال من المؤسسات المسعفة عند بلوغ سن الرشد، وتحضيرهم لمرحلة الاستقلالية وانتقالهم إلى مراكز الأشخاص من دون مأوى، التي تبقى مفتوحة للذين ليس لهم مكان يلجؤون إليه.
وتعتقد صبرينة، أن توفير مسكن للأيتام من الحقوق البسيطة التي يجب أن يتمتّعوا بها، كما يمكن منحهم قروضاً قد يدفعونها مستقبلاً بمجرد حصولهم على منصب عمل وراتب شهري.
وتضيف "المرافقة الاجتماعية والنفسية أمر في غاية الأهمية. ففي المراكز، هناك أطفال يشعرون بتهميش كبير لأن عدداً منهم قد يجد مَن يتكّفل به من طرف عائلات، وهذا الإحساس قاس لطفل، وقد يُترجم على أنه رفض أو حرمان".
قرار مجحف
من بين الاختلالات في طريقة تسيير ملف الطفولة المسعفة، إخراجهم في سن الـ18. تؤكد العضو في جمعية "ناس الخير" بمدينة عنابة شرق الجزائر زهرة سوالمية أن "انخراط هؤلاء الأطفال في الدراسة كأقرانهم من التلاميذ في المدارس العادية أو في الحرف المهنية أمر مهم للغاية".
وتقول "لا يعقل أن يتم رمي بنت أو ولد في الشارع، إذ سيكونان عرضة لإكراهات المجتمع ومن دون حماية أسرية أو عائلية أو من الدولة".