انعدام الوسائل الجوية والبرية للوصول إلى أرخبيل جزر فرسان السعودية يراه السكان عائقاً للتنقل، لكنَّ مُتعة أن تكون مُجبراً على مخرِّ عباب البحر الأحمر لا تُضاهى، وبخاصة إذا كانت التجربة على متن عبَّارة ضخمة لا تشعر بحركتها، وتطل من عليها لمدة ثلاث ساعات، على مدى شاسع من الزُّرقة، يصغر شيئاً فشيئاً كلما تناهت إلى بصرك التشكيلات الصخرية المُتناثرة، التي تستقبلك قُبيل هبوطك الميناء المقابل.
هكذا يقصُّ زائر المحافظة ذات الـ262 جزيرة، في منطقة جازان، جنوب غربي السعودية، شريط رحلته المُثيرة، إلى أرخبيلٍ عُمره الحديث في علم الأرض قدَّرته الدراسات بثلاثة ملايين وخمسمائة ألف عام، غير أن عمر سكانها الرمزي يمتد لما هو أبعد، إلى تاريخ الأصداف واللآلئ وقصور التجار، وزخارف المساجد العتيقة، وحتى قلاع الحرب، في نضالهم المحفور ضد الجنود العثمانيين.
ربما تُنقص هذه المقدمة المقتضبة جزر فرسان حقها، فزيارتها والالتقاء بأهلها من الكتّاب والشعراء وصيادي السمك ومنقبي اللؤلؤ وأشهر طُهاة الوجبات الشعبية، هي المقدمة الحيَّة لجهود جمعية المحافظة على التراث "نحن تراثنا"، التي تسعى بتكليف من وزارة الثقافة السعودية إلى تسجيل محمية جزر فرسان كأول محمية طبيعية سعودية في برنامج الإنسان والمحيط الحيوي بمنظمة اليونسكو.
وكانت "اندبندنت عربية" قد سلَّطت الضوء على التوجه السعودي في مُستهل العام الحالي من خلال تقرير عرَّج على غزلان محمية جزر فرسان، وغطائها النباتي الفريد من نوعه، وتطرق لمهرجان "الحريد" الذي يشهد كل عام تدفق الأسماك بأعداد هائلة نحو الشاطئ، فضلاً عن الإرث الثقافي من أهازيج وأغنيات يشدو بها ركاب السفن، نهاراً وليلاً للهروب من وحشة البحر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتأتي الخطوة السعودية الأخيرة اعترافاً بما تمتاز به جزر وشواطئ فرسان من تنوع بيئي وحياة فطرية نادرة، في وقت ما زال فيه نقص الخدمات يؤرق السكان والسياح على حد سواء، غير أن الجهود لإدراج الجزيرة في قوائم اليونسكو، وفقاً لوكالة الأنباء الرسمية "واس"، ستُسهم في تحسين جودة الحياة فيها من خلال تطبيق المعايير والاشتراطات لبرنامج الإنسان والمحيط الحيوي.
وتزخر الجزر الواقعة في جنوب البحر الأحمر بعدد من المعالم التاريخية، مثل مسجد النجدي، وبيت الرفاعي، وقرية القصار، والقلعة الرومانية، إضافة إلى المواقع الطبيعية التي تمتاز بنخيلها ومياهها النقية، وعلى رأسها، غابة القندل، وشاطئ البطن بقرية صير، ومطل الإصباح بقرية الحسين، وشواطئ حصصي، وزيعة، ورأس القرن، والدانة.
لكنَّ السؤال: هل ذلك كافٍ لتكون جزر فرسان مؤهلة لاقتحام قائمة الإنسان والمحيط الحيوي؟ يستعرض عبد الرحمن العيدان، المدير العام لجمعية المحافظة على التراث، في حديثه لـ"اندبندنت عربية" ثلاثة عوامل تُراهن السعودية عليها أمام اليونسكو، وهي الفصائل النباتية، والحيوانات النادرة، والثالث وأهمها الإرث الإنساني.
تنوُّع بيئي
تتميَّز الجزر بانتشار أشجار المانجروف التي يُعدُّها البعض شريان الحياة وحجز الزاوية في النظام البيئي الساحلي، حيث إنها تتحمَّل ملوحة البحر وتخزن المياه العذبة في أوراقها وتعمل كحضانة لصغار الأسماك، كما تتكاثر في الجزر أنواع أخرى من النباتات مثل شجر الدوم والحناء، وغيرها، وتسهل خصوبة الأرض زراعة منتوجات زراعية مثل الشمام والبطيخ وحبوب الذرة والتمور.
أسماك وطيور مُهاجرة
تنفرد المحمية بأكبر قطعان الغزال والظبي الإدمي في السعودية، كما توجد أنواع عديدة من الثعابين والسلاحف، وتُعتبر ملجأً للكثير من الطيور المهاجرة أثناء رحلتها من أقصى شمال الكرة الأرضية متجهة الى الطرف الجنوبي والشرقي من الكرة الأرضية، بالإضافة إلى عديد من فصائل الأسماك منها الأسماك المهاجرة مثل الحريد.
تنوُّع ثقافي وتراثي
وعلى الصعيد البشري، فقد امتاز الإنسان الفرساني - بحسب العيدان - بتعاقب الحضارات على أرضه التي شكلت منه إنساناً متنوع الثقافات يمتلك سجلاً حافلاً بالإنجازات التاريخية، وهذا ما تشهد عليه قرية القصار التي يعود بناؤها إلى العصر الروماني، وتتنوَّع فيها الطرز المعمارية الى عصرنا الحديث، فنجد الطراز النجدي في هذه القرية، ونمطاً معمارياً فريداً كذلك في بيوت الرفاعي التاريخية.
نمط اجتماعي فريد
لا يمكن لزائر فرسان ألا ينجذب إلى النمط الاجتماعي الثري بالتنوع والتسامح، المكتسب من ثقافة الماء، كما يؤكد المؤرخ والأديب إبراهيم مفتاح في أحاديثه وكتبه، أن الحياة الاجتماعية في جزر فرسان ارتكزت بشكل أساسي على البحر وصيد الأسماك والغوص للبحث عن اللؤلؤ مصدر الدخل الأساسي في أزمنة غير بعيدة.
ويمكن الوصول لجزيرة فرسان البالغة مساحتها 45 كيلومتراً مربعاً، من خلال العبّارات الضخمة، التي تسير يومياً بأربع رحلات مجانية ذهاباً وإياباً، وتستغرق الرحلة الواحدة نحو 3 ساعات، وتقدر الطاقة الاستيعابية للعبّارة بـ 600 راكب وأكثر من 60 سيارة، أما وسيلة النقل الأخرى، فهي القوارب أو "الفلوكات"، بحسب التسمية المحلية، وتتميز بسرعتها، وإمكانية السفر على متنها بأي وقت متى ما كانت ظروف الطقس مناسبة، ودفعت قلة الخيارات السكان المحليين إلى المطالبة بإنشاء جسر بري، لكن هذه الرغبة اصطدمت بعقبات فنية منها عمق البحر.
كشفت السعودية، العام الماضي، عن توجه لإنشاء مطار في الجزيرة ضمن جهودها لتعزيز قطاع السياحة والسفر، ويتوافر في محافظة فرسان حالياً عدد من الفنادق، غير أن الحكومة ما زالت تسعى إلى جذب الاستثمارات بقصد إحياء بقية السواحل، وإنشاء منتجعات سياحية، وتسليط الضوء على إمكانات الجزر من خلال تنظيم المهرجانات الموسمية.
عملية مليئة بالتحديات
إلا أن الانضمام إلى برنامج الانسان والمحيط الحيوي التابع لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو"، ليس مهمة سهلة، فهو يتطلب جهداً مؤسسياً مُضنياً، فعملية الترشيح متعددة، وتعد أولى الخطوات وأهمها الاجتماع بالمجتمع المحلي، ورفع الوعي لديهم بأهمية هذا التسجيل وما سيجنيه لهم من عوائد بيئية واجتماعية واقتصادية، ومن ثم العمل على استيفاء المتطلبات الفنية والقانونية لإنجاز الملف.
وقوبلت أجندة الفريق التراثي الذي كُلف زيارة الجزر بتأييد لافت من السكان المحليين، ودعم لمساعيهم في توثيق المعالم الخرسانية، وإبراز التنوع البيئي والأحيائي والثراء الثقافي، بالإضافة إلى الوقوف على الحياة الاجتماعية والاقتصادية لجزر فرسان في الماضي والحاضر، وعُقدت ضمن الجهود ورشة عمل مشتركة لمناقشة ترشيح الجزيرة كأول محمية طبيعية سعودية ذات صبغة عالمية.
لكن السؤال هل توازي العوائد المرجوة كل هذا الجهد؟ يقول العيدان، إن انضمام المحمية للقائمة، سيضمن لها العمل وفق الأسس والمنهجيات العلمية المعتمدة لإعادة تأهيل جزر فرسان بناءً على أسس علمية ومنهجية، نظراً إلى أن اليونسكو يجمع أفضل خبراء العالم لتقييم ودراسة الملفات المرشحة ويعمل وفق منهجية علمية محكمة قام بإعدادها خبراء مختصون في البيئة والتنوع البيولوجي.
إحياء كنوز منسية
لا يعتبر مدير عام جمعية "نحن تراثنا" تبنِّي ملف تسجيل جزر فرسان بهذا الوقت تأخُّراً من الجهات التراثية، ولكنه أقرب إلى رفع وعي بأهمية هذه المقومات التراثية والطبيعية، على حد تعبيره.
جدير بالذكر أن السعودية التفتت خلال السنوات القليلة الماضية إلى مقوماتها البيئية، ضمن استراتيجية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لإبراز الوجه الحضاري للبلاد.
وبحسب أعضاء الفريق الضخم الذي يتولى إعداد الملف، فإن العقبات التي تواجههم لإدراج جزر فرسان على قائمة الإنسان والمحيط الحيوي كمحمية طبيعية تتمثل في قلة الأبحاث والدراسات البيئية والثقافية على الجزر التي هي بحاجة ماسَّة لتوثيق وحصر مقوماتها الثقافية والاجتماعية والتنوع البيئي والحيوي بها، أما من ناحية الطبيعة فهي مُهيَّأة تماماً وتتوافق مع جميع المعايير والمتطلبات العالمية.
وتولَّت جمعية المحافظة على التراث مُستهلَّ العام الحالي، مسؤولية توثيق المكانة التاريخية لجزر فرسان، وسيكون الموعد النهائي لتسليم ملف الأرخبيل العريق بمنظمة اليونسكو، نهاية شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، وتأتي هذه الجهود بعد تسلُّم وزارة الثقافة دفَّة الإرث الحضاري، إذ تستنفر السعودية كوادرها لتسجيل عدد من المناطق في قائمة التراث الإنساني والحيوي.
ويوجد حالياً خمسة مواقع سعودية على قائمة التراث العالمي، وهي بالترتيب مدائن صالح، وحي الطريف، ومنطقة جدة التاريخية، والفنون الصخرية في منطقة حائل، وواحة الأحساء، وترشح منظمة اليونسكو رموزاً إما أن تكون طبيعية، كالغابات وسلاسل الجبال، وإما أن تكون من صُنع بشري، كالمعالم المعمارية من جسور أو سدود ومُدُن، وغيرها.