رسم الدستور العراقي عام 2005 منهجاً مغايراً لطبيعة الدولة العراقية التي تأسست عام 1921، فبعد 84 عاماً من تكوّنها دولة عراقية ملكية حتى 1958، وجمهورية حتى 2005، فرض احتلال 2003 على العراق تغيير دستوره المؤقت إلى دائم، وتحولت الدولة إلى ما يسمّى بــ"النظام الاتحادي".
الدستور مكّن المحافظات من تشكيل الأقاليم
ونصّت المادة 116 من الدستور على: "يتكوّن النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية"، وهذه الفقرة التي لفتت أنظار المشرِّعين الذين ألغوا فكرة أن العراق بلد موحّد تحول إلى اتحادي، يتألف من أقاليم وفق التعاطي الدستوري الجديد، التي تشكّلت على غرار إقليم كردستان الذي كان الإقليم الوحيد القائم آنذاك، بصيغة الحكم الذاتي وقت صدور الدستور.
واستكملت المواد اللاحقة إقرار الأقاليم وفق المواد الأربع (117 - 121) من الدستور النافذ، الذي أباح وفق المادة 119 حرية تشكيل الوحدات الإدارية لتشكيل الإقليم، حيث: "يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناءً على طلب بالاستفتاء عليه"، ويقدم بإحدى الطريقتين: أولاً: طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم، وثانياً: طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم، بل أباح الدستور للإقليم "تشريع دستور له يحدد سلطات الإقليم وفق المادة 120، كذلك فإن للإقليم صلاحية ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية".
كما أنّ الدستور الذي فُرِض بظروف استثنائية عام 2005 حين كانت البلاد تحت الاحتلال أقرّ إنشاء قوات وحرس خاص للإقليم وفق المادة 121 وفق النص: "إدارة الإقليم وإنشاء وتنظيم قوى الأمن الداخلي وحرس الإقليم، وتختص حكومة الإقليم بكل ما تتطلبه إدارة الإقليم، وبوجه خاص إنشاء وتنظيم قوى الأمن الداخلي للإقليم كالشرطة والأمن وحرس الإقليم".
الأقاليم مسوغات دستورية لحل التنازع
وفق هذه المسوغات الدستورية تتحرّك القوى المناهضة والممانعة للحكومة المركزية في بغداد، من غير الإقليم شبه المستقر كردستان، نتيجة لوجود مناطق متنازع عليها وأزمات أخرى لم تحل بل تتعقد، إلى التفكير الجدي بإنشاء أقاليم سواء في الشمال والجنوب.
لكن، المنطقة الغربية ومركزها الأنبار غربي العراق بدأت تتحرك جدياً بهذا التوجه الذي يكفل لها حرية التصرف بإدارة نفسها بنفسها، وإيقاف الحملات التي تشن على مناطقها بين الحين والآخر على مدى الـ17 عاماً المنصرمة، وتوجد مسوغات ومحفزات كثيرة دعت إلى ذلك. إذ جاء اجتماع إسطنبول في الثاني من أغسطس (آب) الماضي مع الرئيس رجب طيب أردوغان وفاعلين في الحكومة والبرلمان العراقي، وعلى رأسهم رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي الذي حضر الاجتماع سرّاً برفقة النائب الحليف محمد الكربولي والشيخ خميس الخنجر وطارق الهاشمي وبعض شيوخ الأنبار وقيادات من الحزب الإسلامي بزعامة رشيد العزاوي، وحزبه الطامع بحصة أكبر من المحاصصة السنية في مواقع الحكومة، لا سيما مؤسسات الوقف السني التي توفر موارد كبيرة جداً، لإشغالها مساحات واسعة من العراق، والمرافق المهمة التي تشغلها في أهم المناطق السكنية في بغداد العاصمة وفي عموم العراق، ترفع شهية الحزب الإسلامي للحكم، وهو أحد فروع الإخوان المسلمين في العالم، وجاء الاجتماع تكريساً لفكرة بناء التكتل لتشكيل النواة للإقليم المرتقب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجد الحزب الإسلامي في تركيا، ملاذاً حرّاً لنشاطاته وتمدده وإعادة تنظيمه، بعد أن حصل على مقاعد محدودة في البرلمان وتحالف مع سواه، لا سيما جبهة التوافق السنية، وأبدل تحالفاته المعلنة ليدخل نواب الحزب مع تكتل الحلبوسي شركاء في الأنبار، إذ تمكّن الحلبوسي من غلقها بـ45 نائباً في البرلمان، مقابل عشرة نواب لغريمه في جبهة التوافق خميس الخنجر ذي الميول الإسلامية، وحليف كل من الأتراك وقطر، على حد قول كثير من مراقبي المشهد العراقي، الذي لم يحصل رغم تحالفاته مع تحالف دولة القانون الشيعية بزعامة المالكي، على تمرير وزير واحد في الحكومة لوزارة غير سيادية هي التربية.
اجتماع مفصلي في تركيا
اجتماع تركيا الذي جرى التكتم الشديد عليه من الطرفين التركي والشخصيات العراقية المشاركة، استضاف خلاله الرئيس التركي قيادات سنية في مقدمتهم الحلبوسي وخمسة من الرموز السنية، بعضهم ذهب سرّاً ومن دون علم بغداد، وتلخصت المطالب بأن يكون للحزب الإسلامي بزعامة مرشده الجديد رشيد العزاوي مستقبل في الانتخابات المقبلة وعدم السماح بتهميشه، وأن يكون له دور في الإقليم السني الذي يريد الحلبوسي التفرد بقيادته في الأنبار الغنية بالموارد الطبيعية، وتشير التسريبات الصحافية إلى أن أردوغان يؤيد مشروع الإقليم السني إلا أن إيران وسوريا وأميركا ضد هذا التوجه، كما أفاد مشاركون في جبهة التوافق.
في وقت شكا بعض الحاضرين في الاجتماع من توجّه رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، لأنه يريد إجراء انتخابات مبكّرة، بصيغة لا تجعل للساعين إلى تشكيل الإقليم السني فرصة واسعة في الفوز من خلال تمسكه بالدوائر الانتخابية المتعددة و"التصويت البايومتري" الذي يسد الطريق على تزوير الانتخابات، ويلغي التصويت الورقي الذي يحمل الدولة تكلفة عالية، ويمكّن الأحزاب الكبيرة من التزوير في مناطقها، غير أنهم أي المجتمعين شعروا أن هدف اللقاء في تركيا هو دعم الحزب الإسلامي وعدم السماح بتهميشه، كما تسرّب من قيادات عراقية سنية.
الأنبار عاصمة الإقليم السني
على الرغم من أنه لا يوجد أحد أعلن صراحة تأسيس مشروع الإقليم السني خشية من ردود الأفعال في بغداد، لكنّ ثمة تلويحاً علنيّاً يطالب بذلك، نتيجة الفقدان المستمر لآلاف المواطنين العراقيين من أهالي الأنبار المغيّبين والمهجرين والمتهمين بموالاة "داعش"، وقبلها في ما يسمّى بـ(ثورة العشائر)، التي داهمها جهاز مكافحة الإرهاب العراقي واعتقل قادتها.
وبعدها عانت الأنبار ويلات التشرّد والتهجير القسري والاعتقالات المتكررة، وشملت بالاجتثاث، لكون أغلب شبابها عملوا في الجهاز الحكومي الأمني والسياسي إبان حكم الرئيس الراحل صدام حسين، وكانوا من المحافظات التي تسمّى بـ"البيضاء" حينها، التي لم تخرج إلا ما ندر ضد النظام السابق سوى في حادثة الطيار محمد مظلوم الذي سعى لانقلاب عسكري وتنفيذ عملية عسكرية وأعدم على إثرها، وظلت الأنبار تدفع ثمن مواقفها المناوئة للنظام الجديد بعيد 2003 خلال فترة الاحتلال من عام 2003 حتى 2011، لا سيما في حربي الفلوجة والرمادي، حتى عقد مصالحة مع النظام الجديد على إثر عمليات "داعش" التي قتلت وهجّرت سكانها.
فتش عن النفط والغاز وراء الإقليم
ما يجعل صوت الأنبار يعلو حاليّاً للتلويح بالإقليم السني بالتحالف مع محافظات صلاح الدين والموصل وديالى بمؤازرة وتشجيع كردي، اكتشاف حجم الموارد الهائلة من الغاز والنفط والفوسفات والسيلكا العالية النقاوة ومعادن أخرى، إذ تحتوي الأنبار على خزائن طبيعية هائلة، فيها أكبر مخزن غاز في الصحراء الغربية (حقل عكاز) الذي يحوي، حسب التقديرات الجيولوجية، 53 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي في الصحراء الغربية، وأبعاد الحقل 20 + 52 كيلومتراً، جنوب مدينة القائم الحدودية مع سوريا والمنصورية، الذي اكتشفه الأميركيون عام 2004، ولم يشرّعوا باستخراجه.
ثروات نفطية هائلة تمتد نحو الأراضي السورية والأردنية، ويتوقع خبراء النفط وجود خزين يصل إلى 300 مليار برميل من النفط الخام في صحراء الأنبار، فقد شرعت الحكومة العراقية عام 2001 بحفر الآبار واستخراج النفط، لكن غزو العراق واحتلاله حال دون ذلك. إضافة إلى ثروة هائلة من الفوسفات في حقل عكاشات تقدر بعشرة مليارات طن، وحجر كلس بمعدل مليار طن، والدولومايت (330) مليون طن، ورمال الزجاج بمعدل 86 مليون طن، إضافة إلى الحصى والرمل وسيليكا نقية تستخدم لصناعة الرقائق المؤصلة وشبه الموصلات التي تستخدم في الصناعات الإلكترونية، ومعادن غير مستخرجة مثل الحديد والكبريت واليورانيوم والذهب والفضة، حسب ترجيحات وتقديرات رسمية.
هذا وسواه جعل المنطقة محط أنظار أن تكون بديلاً للبصرة في إيرادات الغاز الطبيعي والنفط مستقبلاً، ما شجّع السكان في أكبر المحافظات العراقية على إدراك الكنز الذي يجلسون فوقه، وجعلهم يفكّرون في القيادات التي تسعى لخلاصهم وتأمين الإقليم مستقبلاً.
هذه المعركة تلوّح بها أطراف عديدة تستبق قيام الانتخابات التي أعلن موعدها رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي في السادس من يونيو (حزيران) المقبل، وستكون ورقة اليانصيب التي سيربحها من يجاهر على الإقليم في انتخابات ستكون دوائرها المحافظات.