قدر لبنان – ذلك البلد الراقي الجميل – أن يدفع فاتورة صراعات المنطقة على أرضه وأن يجري اختطاف الدولة لصالح التطرف ودعاة العنف في جانب وطبقة سياسية تحوم حولها الشكوك في جانب آخر، ويظلّ لبنان صامداً من حرب أهلية إلى اضطرابات سياسية إلى أزمات اقتصادية فضلاً عن مظاهر العنف من آونة لأخرى بدءًا من الاغتيالات السياسية وتفجيرات السيارات وصولاً إلى التفجير الهائل في مرفأ بيروت الذي دقّ الناقوس لآخر مرّة في تاريخ هذا البلد العربي المطل على البحر المتوسط والذي تتجسّد فيه سبيكة رائعة من روح الشام والمشرق العربي إلى شرق البحر المتوسط، إنه لبنان جبران خليل جبران، ولبنان ميخائيل نعيمة، ولبنان فيروز ووديع الصافي، إنه لبنان المساجد والكنائس والمزارات الدينية، لبنان الجبل والسهل، لبنان الحرية والانفتاح على الغرب والشرق معاً، لبنان جارة الوادي ارتبط به أمير الشعراء وخرج منه شاعر القطرين، إنه بلد تجسّدت فيه إرادة الحياة، لا ندري كم مرّة أعاد إعمار دولته واستعاد روحه وحيويته، لقد كان الانفجار الأخير حدثاً مروّعاً اهتزّ له وجدان المنطقة كلها بل العالم بأسره، ونحن في مصر نحمل للبنان مشاعر ذات أبعاد طويلة، فلقد اعترف عبد الناصر بخصوصية لبنان واحترم دوره العربي والدولي، والسادات هو الذي صاح: "إرفعوا أيديكم عن لبنان"، ومبارك زاره عندما تعرّض لأزمات اقتصادية وحمل معه ما يمكن أن يؤدي إلى تعزيز الكهرباء في ذلك البلد المنير الوضاء دائماً. وأستأذن القارئ هنا أن أطرح في النقاط التالية بعض الملاحظات:
أولاً: إنّ العروبة شامية سواء على أرضها أو في المهجر، ولبنان لاعب رئيس في مظاهر اليقظة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فنحن لا ننسى أن مسيحيّي الشام قد شاركوا بقوة في وضع البذور الأولى للقومية العربية، بل إن لغة الضاد مدينة لأديرة الموارنة وغيرهم من الطوائف المسيحية في الحفاظ عليها من خلال المخطوطات الموروثة وأعمال الرهبان العرب الذين شعروا أن انتماءهم القومي يسبق انتماءهم الديني. وعلى الجانب الإسلامي، نحن لا ننسى داعية بحجم شكيب أرسلان ونتذكر أن الإمام محمد عبده، إمام التجديد في العصر الحديث قد وفد إلى لبنان والتقى علماءه وتنسمّ من رحيقه، ما أضاف إليه جديداً حتى أعطى للآخرين دروساً في الانفتاح والرحابة وسعة العقل والصدر معاً.
ثانياً: إن لبنان من الأمير بشير الشهابي إلى الرئيس فؤاد شهاب وما قبل ذلك وما بعده، يمثّل سلسلة طويلة من الأحداث المهمة في هذه المنطقة، ولذلك كان طبيعياً أن تطمع فيه إيران تحت ستار مذهبي، وأن تتطلّع إليه تركيا تحت غطاء عثماني، وأن تنظر إليه إسرائيل بغيرة شديدة وتسعى دائماً إلى أن تكون طرفاً في صراعاته وأزماته حتى لو كانت بيد خفية وتحت ستار أمور معقّدة، فلبنان بؤرة مزدهرة تجذب الطامعين وتجعل دول الجوار تهفو إليه وتتطلّع إلى دوره المعاصر بكل أوجاعه وآلامه وأيضاً بكل مظاهر الحيوية والانفتاح في تكوينه.
ثالثاً: لقد ابتلى الله لبنان بمفهوم عقيم للوراثة السياسية القائمة على الامتداد داخل الأسرة الواحدة أو قواعد المصاهرة التي تجعل من ابن الزعيم زعيماً وصهر الرئيس مسؤولاً كبيراً، ولعل الكارثة الحقيقية هي في اختلاط الثروة بالسلطة في ذلك البلد الذي يتمتّع بديمقراطية نسبية ودرجة لا بأس بها من حياة سياسية مفتوحة ولكن أزمته الحقيقية تنبع من صراعات السلطة وشهوات الثروة والخلط بينهما، وأنا لا أشك في أن معظم أبناء الطبقة التي احترفت الحكم واغتصبت دائماً السلطة هي طبقة في معظمها تحتاج إلى مراجعة لأن الفساد أصبح ظاهرة تسرق أقوات اللبنانيين وتعبث بحقوقهم ولا تفكر جدّياً في مستقبلهم وذلك كله في ظلّ مظاهر برّاقة وشعارات عابرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رابعاً: إننا لا نشك في أن العلاقات السورية اللبنانية كان يمكن أن تكون مصدراً للتوازن ومبعثاً للأمان، ولكنها اتّسمت بغير ذلك. فقد زعمت أنظمة سورية بحقّها في السيطرة على لبنان ولعب حزب الله دور الركيزة في هذا السياق، بينما اللبنانيون يسعون إلى هويّة مستقلّة وكيان متفرّد، ولقد سمعتُ رواية منقولة عن الرئيس اللبناني الأسبق الياس الهراوي قال فيها إنه اشتكى ذات مرة للرئيس حافظ الأسد أن زوار مطار بيروت أحياناً لا يتعرّفون عليه ويتصوّرون أنه مطار دمشق لأن الصورة الرئيسة فيه هي صورة الرئيس السوري ونجله، فردّ عليه حافظ الأسد لا تحمل همّاً، ضع صورتك إلى جانبهما، ذلك كان هو المنطق السوري في التعامل مع دولة لبنان، ولا شك أن دور حزب الله دور مؤثر للغاية لا باعتباره ممثلاً للدور الإيراني في الجنوب، فضلاً عن ارتباطه بسوريا ولكن لأن الحزب تمكّن أيضاً من إيجاد حلفاء من السياسيين المسيحيين، وفي مقدمهم الرئيس الحالي ميشال عون.
خامساً: إن الجيش اللبناني طائفي في تكوينه ولم يتحقّق الاهتمام به تدريباً وتسليحاً، كما أنه لا توجد عقيدة وطنية مشتركة تجمع بين أبناء القوات المسلحة اللبنانية، إذ يشعر الجندي اللبناني أن له شركاء خارج الجيش من طوائف أخرى وعناصر مختلفة، فتكون قدرته على العطاء محكومة بطائفته لأنه يختصر انتماءه إلى لبنان الدولة في انتمائه لأبناء الطائفة، فضلاً عن التشرذم العام الذي لعبت فيه الدول الأجنبية دوراً رئيساً وصوّرت للجميع أن الموارنة حماية فرنسية، وأن الدروز حماية بريطانية، وأن الشيعة حماية إيرانية وتبقى القوى السُنّية متأرجحة بين مصر والسعودية.
سادساً: إنّ المحاصصة الطائفية قد دمّرت إمكانات الإبداع والتألق لدى الشعب اللبناني المعروف بخبراته الطويلة وقدرته على البناء والتشييد ومواجهة المخاطر، إذ إنّ تحديد حصصٍ معينة للقوى السياسية المختلفة هو أمر لا يستقيم معه مبدأ تكافؤ الفرص ولا تتحقّق به النظرة الشاملة للأمور.
سابعاً: إنّنا نتطلّع جميعاً إلى لبنان الحرّ الذي لا تكبّله قيود خارجية ولا ضغوط داخلية حتى يكون قادراً على مواصلة الإبداع الذي اشتهر به والتألّق الذي عُرف عنه، وليس ذلك أمراً بعيد المنال، بل إنه يبدو لي أن الإرادة الوطنية اللبنانية أصبحت حاسمة في هذا الشأن، والذين يتابعون ردود فعل اللبنانيين في مأساتهم الأخيرة بانفجار مرفأ بيروت، سيدركون حجم الإحباط الذي بدأ يشيع بين أوساط الشعب الحزين على بلده، الغاضب لوطنه، المتطلّع لأمته بل وللعالم بأسره حتى لا نبكي على اللبن المسكوب ونقول ذات يوم إنه لبنان المُفْتَرَى عليه دائماً. وهنا نلفت النظر إلى مسألة جديرة بالاهتمام وهي أن ظروف لبنان قد سمحت في ما مضى بإفلات كثيرين من العقوبة وطمس الحقائق أحياناً والتأرجح بين التحقيقات الدولية والمحاكم الوطنية، ونحن نأمل مع الشعب اللبناني في ألّا يتكرّر الأمر هذه المرة حيال ما جرى في مرفأ بيروت وأن تتمكّن العدالة اللبنانية من أن تمسك بتلابيب مَن أجرموا في حق الشعب وحياته ومستقبله ومصير أجياله.
سيبقى لبنان دائماً واحة راقية على الرغم من كل ما مرّ به، وما ارتُكب في حقّه، لأن إرادة الحياة عند اللبنانيين أقوى من الدمار والخراب والموت!