كيف سينعكس الحكم الصادر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بإدانة المتهم الرئيس من المتهمين الأربعة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري سليم جميل عياش، المنتمي إلى "حزب الله"، وتبرئة الثلاثة الآخرين لعدم كفاية الدليل، على الوضع السياسي اللبناني المضطرب أصلاً؟
الحريري ورئاسة الحكومة
فالبلد يعاني من صعوبة تأليف حكومة جديدة يُطرح في المداولات حولها اسم زعيم تيار "المستقبل"، وليّ الدم، رئيس الحكومة السابق سعد الحريري لترؤسها، كي تساعد في انتشال البلد مِمّا هو فيه من أزمة اقتصادية مالية ومن تداعيات الانفجار الكارثي الذي حوّل بيروت مدينة منكوبة في 4 أغسطس (آب). وفيما يصرّ رئيس البرلمان نبيه بري على تسمية الحريري لترؤس الحكومة المقبلة، وسط معلومات عن تأييد "حزب الله" هذا الخيار أيضاً، فإنّ الأسئلة كثيرة حول ما إذا كان الحريري قادراً على قبول المهمة، لا سيما إذا كان الحزب يتمسّك بحكومة وحدة وطنية أو خليط من السياسيين والتكنوقراط، في وقت طالب الحريري "حزب الله" بتسليم المحكوم عليه، عياش، إلى المحكمة، وأكد قبلها أنه لن يقبل بترؤس أي حكومة إلّا إذا كانت من المستقلين غير المنتمين إلى الأحزاب...
الختام ليس ختاماً
وفي انتظار تحديد المحكمة العقوبة في حقّ عياش في جلسة مقبلة، هناك آثار معقّدة للحكم لجهة حيثياته السياسية البارزة في مطالعة غرفة الدرجة الأولى التي استندت إليها في إصدار قرارها القابل للاستئناف، سواء من محامي الدفاع عن عياش، أو من قبل الادعاء العام للمحكمة إذا قرّر الاعتراض على اعتبار المتهمين الثلاثة الآخرين غير مذنبين لعدم كفاية الأدلة. وهذه المطالعة وضعت الجريمة في إطار الصراع السياسي الذي كان دائراً عام 2005 واعتبرت الجريمة "عملاً سياسياً". ووثّقت الخلافات التي كانت قائمة بين الرئيس رفيق الحريري والقيادة السورية التي دفعته إلى الاقتناع بالعمل مع المعارضة آنذاك لإنهاء الهيمنة السورية على البلد، في وقت كان "حزب الله" حليفاً رئيساً لدمشق وهناك معارضة متنامية لاحتفاظه بسلاحه بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان. كما أن الحكم ثبّت انتماء المتهمين الأربعة، حتى لو برّأ ثلاثة منهم، إلى "حزب الله"، إضافةً إلى المتهم الخامس القائد العسكري في الحزب (وصفه نص الحكم الصادر بأنه "شريك في المؤامرة") الذي أُسقطت محاكمته منذ الإعلان عن مقتله في سوريا عام 2016. وعلى الرغم من أن الحكم نصّ على عدم وجود أدلة بالمعنى الجنائي للكلمة، على تورّط قيادتَيْ سوريا والحزب في اتّخاذ القرار بالاغتيال، فإنّ عرض وقائع الخلاف، تحت عنوان "الخلفيات التاريخية والسياسية للاعتداء"، بين الحريري (وحلفائه) وبينهما، على أنها شكّلت الدافع السياسي للجريمة، وأنّ مَن نفّذوها لم يكن بإمكانهم ذلك من دون عمل منظّم، شارك فيه عدد أكبر من الأشخاص، يكرّس القناعة التي سادت جزءًا واسعاً من اللبنانيين والقوى السياسية المنتمية إلى قوى 14 آذار السابقة، بأن الحزب متورّط فيها. وتحكّمت هذه القناعة بالانقسام السياسي اللبناني الذي استمر بعد الجريمة على قيام المحكمة الدولية، فيما التهمة السياسية ظلّت تلاحق الحزب والقيادة السورية في شأن محاولات الاغتيال والاغتيالات التي سبقتها وتبعتها.
ويقول أحد المقربين من الحريري إنه في وقت ختم رئيس غرفة الدرجة الأولى في المحكمة القاضي ديفيد راي تلاوته للحكم بمخاطبة المتضرّرين من الجريمة، قائلاً إنه يأمل في أن يكون ما صدر وضع "خاتمة" (closure) للقضية، فإنّ الخشية هي من "أننا لم نصل إلى هذه الخاتمة بصدور الحكم، لأن الحقيقة ظهرت ، بينما تطبيق العدالة لم يتحقّق بعد". ويعتبر أحد السياسيين المخضرمين أنه في قضايا سياسية من هذا النوع، يمكن للخاتمة أن تحصل إذا ما اقتضت الظروف السياسية لبلد ما، إضافةً إلى تنفيذ العدالة والقصاص، مصالحة أو تسوية سياسية يقدم فيها المتّهم تنازلاً لتجنّب صراع مديد، في وقت يبدو ذلك في لبنان صعباً، نظراً إلى تعقيدات الوضع السياسي وتشابكه مع الصراع الإقليمي الدولي.
بري يلاقي الحريري خلافاً للحزب
ويسود الاعتقاد في أوساط قياديين في تيار "المستقبل" أن الحريري قام بخطوة "مهمة وتاريخية" حين قال في بيانه إثر صدور الحكم في لاهاي إنه يتقبّل الحكم على الرغم من تبرئة ثلاثة من المتهمين من صفوف "حزب الله"، داعياً الأخير إلى التضحية من جهته، (مقابل التضحية بأغلى ما عندنا...)، وإلى التعاون في مسألة تسليم المُدان عياش إلى المحكمة لأنها "أظهرت صدقية عالية وأنها غير مسيّسة، أصدرت قراراً علينا أن نقبله ونكمل إلى الأمام". فردّ فعل أنصار الحزب كان تعليق صورة لعياش في بلدته الجنوبية حاروف بأنه "المقاوم"، بينما كان يُفترض بالحزب ملاقاة الكلام الهادئ الذي قاله زعيم "المستقبل" بالتراجع عن رفضه حكم المحكمة على الرغم من إثباتها أن حكمها غير مسيّس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلّا أنّ هذه الأوساط تشير إلى إيجابية موقف بري في البيان الذي صدر عنه فور صدور الحكم، إذ قال "كما خسر لبنان في 14 فبراير (شباط) عام 2005 باستشهاد الرئيس رفيق الحريري قامة وطنية لا تعوّض، اليوم وبعد حكم المحكمة الخاصة، يجب أن نربح لبنان الذي آمن به الرئيس الشهيد وطناً واحداً موحّداً... وليكن لسان حال اللبنانيين العقل والكلمة الطيبة كما عبّر الرئيس سعد الحريري باسم أسرة الراحل".
ويؤكد مصدر نيابي أن بري تنبّه إلى أهمية صدور موقف من الجانب الشيعي للمناسبة، يبدي حرصاً على التلاقي. وتمسّك رئيس البرلمان قبل الحكم وبعده بترشيح الحريري لرئاسة الحكومة المقبلة يأتي في سياق تقديره لحرص الحريري على تجنّب الحساسية الشيعية السنّية بسبب اتهام الحزب سياسياً، وإن لم يُتهم جنائياً. فبري، أحد قطبَيْ الثنائية الشيعية، يعرف أن الحريري عمل مطلع الشهر الحالي في اجتماعات مع قائد الجيش العماد جوزيف عون، وسائر قادة الأجهزة الأمنية من أجل اتّخاذ التدابير الأمنية تحسّباً لأي احتكاكات في الشارع بين أنصاره وأنصار "حزب الله" يوم النطق بالحكم.
وترى الأوساط النيابية أن الحريري سعى في موقفه في لاهاي إلى استيعاب بعض الخيبة التي ظهرت في صفوف بعض أنصاره من أن الحكم برّأ ثلاثة متهمين ودان واحداً فقط، بالتأكيد على صدقية المحكمة خلافاً لتشكيك "حزب الله" بها وبمهنيتها ورفضه الاعتراف بقراراتها. وهذا أيضاً امتنع "حزب الله" عن ملاقاته بموقف إيجابي.
الحريري لا يريدها ولن يخاطر
يحصر القياديون في تيار "المستقبل" تعليقاتهم على الحكم بما أعلنه الحريري ويؤكدون في إطلالاتهم التلفزيونية قبولهم به، ويبدي بعضهم مثل عضو المكتب السياسي الدكتور مصطفى علوش انتقادات واضحة لـ"حزب الله" والحاجة إلى تراجعه عن سياساته التي استخدم فيها العنف مع خصومه اللبنانيين. إلّا أنّ معظم من تحدثت إليهم "اندبندت عربية" وفضّلوا عدم التصريح نظراً إلى قرار بحصر الكلام بالحريري نفسه، أكدوا أن زعيم "المستقبل" ليس في وارد تقديم التنازلات لأجل رئاسة الحكومة، لا سيما بعد الحكم الصادر، إذ إنّ جمهوره يعارض الجلوس مع الحزب على طاولة واحدة في الحكومة، وكان امتعض من التسويات السابقة التي أبرمها مع الحزب. وهو ليس راكضاً للعودة إلى رئاسة الحكومة ولا يريدها، على الرغم من ترشيح بري له، وتأييد الحزب لهذا الترشيح، وهو يتمترس وراء شرطه بأن تكون الحكومة من المستقلين غير الحزبيين وهو يعرف سلفاً تمسّك الحزب بتمثيله فيها ولو عبر أصدقاء غير حزبيين. كما أنه لن يخاطر بتشكيل حكومة تُفتعل العراقيل أمام إنجازها الإصلاحات التي كان الحريري نفسه وعد المجتمع الدولي بتحقيقها في حكومتَيْه السابقتَيْن، من دون أن يتمكّن من ذلك، ما تسبّب بانتقادات بعض العواصم التي طالته، إضافةً إلى أركان الطبقة السياسية برمّتها. وبات من البديهيات أن المجتمع الدولي لن يساعد لبنان مالياً لتجاوز أزمته الاقتصادية ما لم تُنفّذ الإصلاحات، وما لم يعتمد سياسة النأي بالنفس عن صراعات المنطقة، وأن المجتمع الدولي يفصل بين المساعدات الإنسانية التي يقدّمها جراء كارثة انفجار مرفأ بيروت، وبين المساعدات لإنقاذ الاقتصاد.
العوائق الداخلية أمام رئاسة الحكومة
وفضلاً عن العوائق الداخلية لإمكان ترؤس الحريري حكومة تنجح في تنفيذ برنامج إصلاحي بسبب تحالف "حزب الله" مع رئيس الجمهورية ميشال عون و"التيار الوطني الحر" برئاسة جبران باسيل، وإصرار عون على توزير الأخير أو على الأخذ بمطالبه في التوزير، يتوقّف بعض قياديّي "المستقبل" وجهات سياسية عدّة أمام دلالة موقفين خارجيين مهمين من الحكم الصادر عن المحكمة، ولهما تأثير في تشكيل الحكومة المقبلة.
الموقفان الأميركي والسعودي
الأول هو ترحيب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بإدانة المحكمة عياش، معتبراً أن "حزب الله" ليس مدافعاً عن لبنان "كما يدّعي، بل هو منظمة إرهابية لخدمة أجندة إيران المذهبية والخبيثة... وأنه مهتم فقط بمصالحه ومصالح إيران بدلاً من مصالح لبنان". ويقول سياسيون التقوا وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل خلال زيارته إلى بيروت الأسبوع الماضي إن الأخير ألمح أمام بعض السياسيين الذين التقاهم بعيداً من الأضواء إلى أن واشنطن لن تقدم مساعدات للبنان من أجل إنقاذ اقتصاده إذا جرى تمثيل الحزب في الحكومة المقبلة. كما أنه بات معروفاً أن واشنطن تسأل عمّا إذا كان ترؤس الحريري لأي حكومة يمكن أن يحقّق تقدماً" على صعيد المطلوب من لبنان.
الموقف الثاني الذي صدر عن وزارة الخارجية السعودية، يؤكد ظهور الحقيقة في جريمة اغتيال الحريري، وأن الرياض "بدعوتها إلى تحقيق العدالة ومعاقبة حزب الله وعناصره الإرهابية تؤكد ضرورة حماية لبنان والمنطقة والعالم من الممارسات الإرهابية لهذا الحزب". وأشارت الخارجية السعودية إلى ضلوع الحزب في أعمال إرهابية في بلدان عدّة وكانت جريمة اغتيال رفيق الحريري إحداها وأكثرها تأثيراً في أمن واستقرار لبنان. كما دعت إلى إنهاء حيازة الأسلحة خارج إطار الدولة".
ويأتي الموقف السعودي ليعزّز معلومات يتداولها الوسط السياسي في بيروت عن أن الرياض تعتبر نفسها غير معنيّة عند استمزاج رأيها بتولّي سعد الحريري رئاسة الحكومة.
ويشير مَن يتداولون هذه المعطيات إلى أن الموقفين الأميركي والسعودي يدخلان في حسابات امتناع الحريري عن قبول مهمة ترؤس الحكومة، لأن من العوامل الخارجية لنجاح أي تركيبة حكومية يتوقف على دعم واشنطن والرياض للبنان اقتصادياً، في حين لن تفعلا ذلك إذا تكرّرت تجربة تمثيل الحزب في الحكومة ليمارس تأثيره ونفوذه على السلطة من الداخل.
بات حكم المحكمة عاملاً شديد التأثير في تأليف الحكومة بموازاة مساعي الحريري لتجنّب الفتنة الشيعية السنّية.