في روايتها الثانية "حين أسدّد لك ضربة"، تستقصي مينا كاندسامي وضع المرأة المعقد في مجتمعها الهندي المعاصر، جراء عادات وتقاليد مستمدة من معتقدات بالية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، ولا تزال ظلالها القاتمة تمتد إلى تلك اللحظة من القرن الحادي والعشرين. فلا عجب أن يتم تصنيف العاصمة دلهي مؤخراً على أنها "مدينة الاغتصاب" بعدما سجلت في أقل من عام واحد 1121 جريمة اغتصاب، وسجل المكتب الوطني للجريمة، مقتل عروس كل ساعة، فضلاً عن ارتفاع معدل إجهاض الأجنة الإناث بنحو 35 مليون حالة خلال العقدين الماضيين.
الشعر والمواجهة
كاندسامي كاتبة ومترجمة وناشطة هندية، في السادسة والثلاثين من عمرها، ولدت في تشيناي، تاميل نادو، وبدأت مسيرتها الإبداعية في سن السابعة عشرة بكتابة الشعر وترجمة نصوص نثرية وشعرية من التاميلية (لغة مجموعة عرقية تسكن جنوب الهند وشمال شرقي سيريلانكا)، مع أنها تكتب أعمالها في الأساس بالإنجليزية. نشرت أول دواوينها في أغسطس (آب) 2006، بمقدمة للكاتبة والشاعرة المعروفة كامالا داس، وحالفها الحظ، فترجم إلى خمس لغات. في العام التالي مباشرة نشرت ديوانها "الآنسة نضال"، وفيه تتبنى الكتابة كرد فعل أكثر شراسة لمناهضة الطبقية، وإعادة سرد الأساطير الهندوسية والتاميلية من منظور نسوي يفضح جوهرها الرجعي البائس. من أعمالها التي فازت بالجائزة الأولى في مسابقة الشعر الهندي، "المسكرة"، و "حبيبي يتحدّث عن الاغتصاب".
يتحدّى شعرها الأصيل والتجريبي بجدارة، الوضع السائد في الشعر، بروح الكوميديا السوداء، والسخرية الحادة، والعبارات اللاذعة، والميل إلى التورية، ونزع الرومانسية عن العالم، ما تسبّب في صدمة قرائها وإثارة غضبهم، إلا أنها تتبنى تلك الوسيلة لاستفزاز القارئ إلى حد يُضطره إلى إعادة التفكير في التقاليد التليدة والطبقية الراسخة في مجتمع الهند المعاصر.
قوبلت الكتابة الجريئة الشرسة، بكثير من العنف والإساءة والتهديد، ولكنها ترى أن "هذا التهديد بالعنف لا ينبغي أن يُملي عليك ما ستكتبه أو يعوّقك بأي شكل من الأشكال".
غرفة لا تخصّها وحدها
بدأت كاندسامي في كتابة الرواية بـ "ربة الغجرThe Gypsy Goddess"، عام 2014، عالجت فيها القضايا نفسها؛ الطبقية والفقر والعنف في جنوب الهند، لكنها في "حين أسدّد لك ضربة"، تأثرت بحسب تصريح لها، بفرجينيا وولف "غرفة تخصّ المرء وحده"، في حكيها عن كاتبة متزوجة حديثاً من أستاذ جامعي ماركسي وثوريّ، يستخدم الأفكار الشيوعية "كغطاء لساديته"، لم يتورّع عن تعذيب الذات والآخر (الزوجة) بحذف بريدها الإلكتروني، وتعليق صفحتها على فيسبوك؛ ومراقبة هاتفها المحمول: "نحن في المطبخ، نشرب القهوة. يشعل عود ثقاب، يقرّبه من كوعه الأيسر العاري، ويُطفئه في جلده. أَبتسم بعصبية. فيشعل عوداً آخر. "أي نوعٍ من خدع الحفلات هذه؟" "أتسمعينني؟''، "نعم". يشعل عوداً آخر. "أنا لا أمزح". "إذن، أسمعك" يميل برأسه إلى اليمين. يحدّق إلى وجهي بشدة. "نعم يا سيدي" – أودّ أن أقول له، لكني لا أفعل. "نعم. بالطبع أستمع إليك. لا تحرق نفسك، بالله عليك". "احذفي صفحتك على فيسبوك". "ماذا؟" "احذفي صفحتك على فيسبوك". "سمعتك في المرة الأولى. ولكن لماذا بحق الجحيم؟" "سأظل أفعل ذلك إلى أن تستجيبي لطلبي". "حبيبي، إهدأ من فضلك. ما مشكلتك؟ ما وجه اعتراضك على الفيس؟" "لا سبب لوجودك على الفيس. إنها نرجسية. إنه استعراض. إنها مضيعة للوقت. قلت لكِ هذا ألف مرة. إنها مجرد معلومات تطوّعية مباشرة إلى وكالة الاستخبارات المركزية، وإلى كل شخصٍ يطارد حياتي" ... أستطيع أن أشمّ رائحة رؤوس أعواد الثقاب والشعر المحترق. هذا ابتزاز صريح وساذج. لن أفعل أي شيء إذا ابتززتني... "إذا تركت الكبريت، بوسعنا التحدث عن الفيسبوك". "إذا كنت تحبيني، فهذه هي الطريقة الأسرع لتقرّري".
صورة الفنانة كزوجة شابة
كانت كانداسامي قد كتبت عن زواجها لمجلة Outlook الهندية في عام 2012، أي قبل خمسة أعوام من صدور روايتها الساخرة، التي راحت تتحدث فيها على راحتها عن طريق راوٍ لا يحمل اسماّ بضمير المتكلم، أو، ترسم صورة للفنانة كزوجة شابة، ليس بوسع المجتمع أن يبصق عليها أو يقذفها بالحجارة، فهي مصنوعة من كلمات على الصفحة البيضاء، وما تتفوّه به هو ما يتردّد صداه بالفعل في أعماق النفوس، ومنها بطلتها التي تعاني عزلة اجتماعية رهيبة، تصبح فيها وسائل التواصل الاجتماعي الشريان الوحيد للعالم الخارجي: "منذ انتقلت إلى مانغالور، أصبح فيسبوك رابطي المهني الوحيد المتبقي. هنا، ليس لي أصدقاء فنانون كما كانوا في ولاية كيرالا، ولا أقرباء كما كان الحال في تشيناي"، على الرغم من ذلك تتراجع صاغرة وتُلغي بالفعل تنشيط صفحتها.
لكن الأمر لا يقتصر على ذلك، شيئاً فشيئاً يتم تجريدها من استقلاليتها، ولجم لسانها وعقلها وجسدها، ويضمن حاجز اللغة أن لا تتحدث في الأماكن العامة إلا عن الشؤون المنزلية أو التسوّق لشراء الخضار أو منتجات التنظيف، لينتهي الأمر بالضرب والاغتصاب، باستخدام أدوات تعذيبٍ مثل خرطوم الغسالة، وسلكِ الطاقة لجهاز الكمبيوتر المحمول، في مجتمع يتوقّع فيه الجميع من المرأة أن تصمت وتكتفي بإدراك أنها وحدها القادرة على إنقاذ نفسها: "يمنعني الأمل من الانتحار. الأمل هو الصوت الحنون في رأسي الذي يمنعني من الفرار. الأمل هو الخائن الذي يقيّدني بهذا الزواج ".
كوميديا ولكن سوداء
لا تكتفي كاندسامي بتسديد ضربة إلى معقل الزوجية ، تلك الضربة التي أفضت إلى وصفها بالعاهرة، بل تتبع صوراً موازية من القمع السياسي في بلدها الهند، بدءاً من غاندي حتى السلطة الحالية، لتضع صورتها داخل إطار أكبر بخطوط كاريكاتورية.
وصلت روايتها "حين أسدّد لك ضربة" إلى القائمة القصيرة للعديد من الجوائز المرموقة، منها جائزة الكاتبات 2018، لكن الطريف هو ما حدث في جائزة "بولينغر إيفريمان وودهاوس" لأفضل رواية ساخرة، إذ صرّح المحكّمون أن الروايات المقدّمة لنيل الجائزة لا يتوافر فيها الحس الفكاهي بما يؤهلها للحصول على الجائزة. بينما في رواية كاندسامي التي تعالج موضوعاً غاية في القتامة عن إساءة معاملة المرأة في الهند، برزت روح الفكاهة من ثنايا السرد، مفجّرة ضحكاتهم، ما جعل الأحداث تبدو أكثر ترويعاً. لم تمنحها اللجنة الجائزة بالطبع، معلّلة ذلك بما قد يترتّب عليه من تقويض لخطورة قضاياها والأهداف التي ترمي إليها، ومن ثم تم حجب الجائزة في هذا العام.