بعد أكثر من عقدين من إغلاق الجزائر باب الاستثمار الخاص في القطاع المصرفي والنقل الجوي، تتجه السلطات في هذا البلد الذي يحتكر فيه القطاع العام الاستثمارات الاستراتيجية إلى بدء تجربة جديدة وعينها على أسواق أفريقيا.
وأبدى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، انفتاحاً أمام فكرة تحرير النقل الجوي والمصرفي من قبضة الاحتكار العمومي وفسح المجال أمام مستثمرين يبدون نية لخوض التجربة مستفيدين من حجم الانتقادات الموجهة للتسيير العمومي للمصارف والنقل الجوي من خلال شركة وحيدة، هي الخطوط الجوية الجزائرية.
يفسّر تبون فتح القطاع المصرفي أمام الخاصة، بصعوبة التعاملات المصرفية مع أسواق أفريقية تملك الجزائر حصصاً ضئيلة فيها. وقال قبل أسبوع أمام عشرات رجال الأعمال "لا أرى أي مانع في فتح بنك خاص وإلحاقه بفروع في أفريقيا، لست ضد فكرة فتح المجال الجوي أمامكم إن كان ذلك في مصلحة الاقتصاد الوطني".
ودعا تبون إلى توسعة القطاع المصرفي وإنشاء مصارف جديدة بالشراكة بين القطاعين العام والخاص من أجل تحصيل العملة الصعبة وتحويلها. أما في ما يخص النقل، فكشف أنه يمكن القطاع الخاص إنشاء شركات للطيران أو للنقل الجوي والبحري، وحتى لنقل المسافرين والبضائع بين الجزائر والبلدان المجاورة.
عقدة الخليفة
من أبرز الأسباب وراء إغلاق الجزائر الباب أمام رأس المال الخاص لولوج القطاعين المصرفي والنقل الجوي، تبعات "إمبراطورية الخليفة" التي نشأت مطلع الألفية وانهارت بعد ثلاث سنوات فقط وفرار مالكها عبد المؤمن خليفة إلى بريطانيا. وأدخلت هذه الفضيحة الحكومة الجزائرية مساراً قضائياً معقداً من أجل إعادة "الإمبراطور الهارب" ليتم ذلك بعد سنوات إثر تفاهمات قضائية بين الدولتين. فيما كشفت المحاكمة التي جرت في البليدة جنوب العاصمة عن تورط مؤسسات رسمية كثيرة في تغوّل "بنك الخليفة" و"الخليفة للطيران".
ويرى الدكتور عبد اللطيف بلغرسة، في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أن "أسباب المخاوف من إمبراطورية خليفة قد زالت، وتملك الجزائر كل الحظوظ لنشأة قطاع نقل جوي قوي في المنطقة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى القطاع المصرفي، وإن بدرجة أقل".
ويضيف بلغرسة "إذا فُكّ ارتباط السياسية بالاقتصاد ورأس المال الخاص يمكن تقديم تجربة رائدة. الأمر المخيف هو أن تتم الخطوة بتسرع ضمن منظومة مصرفية متخلفة تحتل المراتب الأخيرة عالمياً، في غياب رؤية دقيقة لقطاع النقل الجوي الذي يكتفي بأهداف خدماتية بنقل المسافرين وإعادتهم".
ويعتقد بلغرسة أن "الجزائر مضطرة وليست مخيرة في الاستعانة برأس المال الخاص لإحياء قطاعات ميتة. أقول ميتة لأن المصارف الجزائرية تعجز عن أبسط عملية استقبال للعملة الصعبة من الخارج وتحويلها إليه. بل لا يملك هذا البلد مكتب صرف واحداً. يُضاف إلى ذلك، استمرار الاعتماد على السوق السوداء في الاستجابة إلى الحاجة الداخلية للعملة الأجنبية. والخزينة العمومية غير قادرة على تحمل أعباء قطاعات استراتيجية بهذا الحجم. وحديث الرئيس تبون عن الخروج من تبعية المحروقات لمصلحة قطاعَي الزراعة والصناعة التحويلية يحتاج إلى قدرة شحن جوي ونظام مصرفي مرن".
صراع نفوذ
يرفع الخطاب الرسمي الجزائري منذ شهور شعار عودة التنفّذ في القارة السمراء. وقد أنشأت السلطات الجزائرية لذلك هيئة "التعاون الدولي" برعاية من الاتحاد الأفريقي، إلا أن غياب الجزائر منذ نحو عقدين عن هذه الساحة يكشف مدى تقدم منافسين إقليميين في علاقاتهم الاقتصادية مع عواصم أفريقية. بالتالي، ستكون الجزائر مطالبة باتّباع السرعة القصوى وفق استراتيجية واضحة يمكن تنفيذها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى اسماعيل حيوني، الأستاذ المحاضر في الشأن السياسي والأمني، في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أن "النظر إلى القارة السمراء بعين مرحلة الاتحاد السوفياتي خطأ فادح. فأفريقيا اليوم تملك أكثر الاقتصادات نمواً على المستوى العالمي، وهي تعشق التكنولوجيا والرقمنة. يكفي ذكر تجربة غانا أو إثيوبيا ورواندا وجنوب أفريقيا، التي تبحث عن إضافة تكنولوجية ولا تغريها الشعارات".
ويلفت حيوني إلى أن "على السلطة أن تعي أن حظوظ الجزائر موجودة لكنها عبر مسالك لا يتم النظر إليها". ويوضح "عندما أقول هذا أشير إلى العنصر المكاني للبلد، حين أُعلن عن دواعي إنشاء مطار دولي جديد كان الشعار المروج له هو خلق أكبر منطقة عبور دولي في شمال أفريقيا ما بين القارة السمراء ودول العالم. الإشكال أن الخطوط الجوية الجزائرية لا يمكنها بطريقة التسيير الحالي وارتباطها بالفكر العمومي غير التنافسي أن ترفع هذا الرهان، ولا يمكنها منافسة الخطوط الملكية المغربية أو الطيران الإثيوبي والمصري على سبيل المثال".
على الرغم من ذلك، يقول حيوني "في حال تزامنت هذه الرغبة مع خطوات بسيطة ومتزامنة، يمكن تحقيق إضافة للاقتصاد، كتحرير المصارف من القيد الإداري، والإسراع في إنشاء ميناء الحمدانية الأكبر في شمال أفريقيا، وبعث التنافسية في تسيير الخطوط الجوية وتوسعة شبكة النقل البري والسكك الحديدية نحو عمق القارة. كل هذا يُدعم بإرادة سياسية وبمؤازرة دبلوماسية، لا يعقل أن يضطر جزائري إلى المرور عبر باريس أو الدار البيضاء للوصول جواً إلى جنوب أفريقيا الحليف الأول للجزائر في القارة السمراء".
دور رجال المال
في القاعة التي كان يُحاضر فيها الرئيس الجزائري أمام رجال الأعمال، كان لافتاً حضور رجل الأعمال البارز أسعد ربراب، الذي كان أول رجل أعمال اعتقل العام الماضي في عزّ الحراك الشعبي، قبل أن يُفرج عنه مستفيداً من حكم بالسجن فترة قصيرة. وبدا تبون في كلامه كأنه يخاطب ربراب وعدداً من رجال الأعمال ممن ولجوا السوق الأفريقية منذ فترة طويلة ويحثّهم على لعب دور إلى جانب القنوات الرسمية للدولة.
يظن حيوني أن هذه القراءة أقرب إلى الواقعية، "كأن تبون غير واثق من قدرة القنوات الدبلوماسية الرسمية في توفير مسالك لاقتصاد بلده في القارة السمراء، لكن الاعتماد على المسالك غير الرسمية من خلال دور رجال الأعمال يحتاج أيضاً إلى بناء ثقة داخلية. كل ما يمكن أن تقدمه السلطات هو تسيير رحلات جوية مباشرة إلى أغلب العواصم وتسهيل المعاملات المصرفية".
بالنسبة إلى الاقتصادي محفوظ كاوبي فإن نيات "السلطة في بعث هذه القطاعات تنطلق من مراجعة جذرية لمنظومة الإدارة ووجوب الخروج من المنطق البيروقراطي الذي يحتفي بجملة لقد أنجزنا. فالإدارة الحديثة تعتمد ثنائية الجدوى والمردودية وتحقيق الأهداف. ولا بد من الذهاب إلى منطق اقتصادي بحت، فلا يمكن أن نمر إلى اقتصاد سياسي ذكي عبر المشكل والعقدة ذاتهما".