قد يشكّل انتعاش أسهم "وول ستريت" الأسبوع الماضي خبراً ساراً بالنسبة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لكن يُستبعد أن يشكّل الأمر عزاءً بالنسبة إلى ملايين الأشخاص الذين خسروا وظائفهم ومصادر رزقهم، في وقت يزج كورونا باقتصادات العالم إلى ركود كبير.
ورغم أنّ تباشير "العودة العظيمة" التي بشّر بها نائب الرئيس الأميركي مايك بنس مع ارتفاع مؤشر أسهم "إس آند بي 500" إلى مستويات تاريخية جديدة في وقت حقق فيه "ناسداك" المُدرَج فيه كثير من شركات التكنولوجيا ارتفاعاً صاروخياً، بل تاريخي على مدى الأسابيع الأخيرة.
ولعل السؤال الذي بات يشغل العقول الاقتصادية العالمية هو: هل هناك فصام بين أسواق المال والاقتصاد الحقيقي؟ كيف يرى المختصون هذا التبابين في كلا الجانبين؟
سلوك التسوق الجديد
في حديثي مع مسؤول في البنك الدولي أكد أن الأوضاع الاقتصادية العالمية تغيّرت، وعلينا أن نستعد لما هو جديد، إذ إن سلوك المستهلكين في ظل كورونا وما بعده قد اختلفت، سواء في طريقة التسوق الإلكتروني، أو الاختيار عن بعد، ولذلك فإن شركات كبرى باتت تركّز على دراسة تفكير المستثمرين، وطريقة دفعهم نحو الشراء عبر أساليب دعائية إلكترونية جديدة.
ومن الواضح، إنه في وقت قضت تدابير الإغلاق الناجمة عن كورونا على الوظائف، ودفعت حتى القوى الاقتصادية التقليدية على غرار الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا إلى معدلات انكماش غير مسبوقة، بل تاريخية، إذ انكمش اقتصاد أميركا 9,5 في المئة في الربع الثاني من العام، بينما تراجع الناتج الاقتصادي البريطاني 20,4 في المئة، والألماني 10,1 في المئة.
ويبدو أنه بالنسبة إلى المستثمرين، قد يبدو المزاج الاحتفالي في أسواق الأسهم "غير لائق"، حسب بعض الاقتصاديين، إذ يرون أنه على المستثمرين الرهان على التوقعات الاقتصادية للأمد البعيد وليس للطفرة المؤقتة.
ضخ السيولة
وفي ظل ما نراه من أزمات بدأت الحكومات والمصارف المركزية ضخ كميات ضخمة من الأموال في أنظمتها المالية، لتجنّب الركود، حيث تتجه الشركات المدرجة لتحسين نتائجها في "إس آند بي 500" بحسب توقعاتها لإيراداتها للعام 2020 وحتى 2021، وقد تكون المؤشرات أفضل مما تشير إليه البيانات الاقتصادية الحالية.
ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن رئيس الأسواق لدى منصة "إنتراكتيف إنفيستر" "المستثمر المتفاعل" ريتشارد هانتر أن "أسواق الأسهم ليست الاقتصاد".
في الوقت ذاته، بدأ عدد من الشركات بالفعل في نشر بيانات إيرادات أفضل من المتوقع مع انتعاش النشاط مجدداً على إثر بدء كثير من الدول تخفيف تدابير الإغلاق الصارمة التي فرضت في الربع الثاني من العام.
كما أنه في وقت يتحوّل العمل من المنزل والبث عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي إلى جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية، تبدو شركات التكنولوجيا في وضع جيد، بينما تحاول قطاعات الاقتصاد الأخرى حصر خسائرها الناجمة عن الكارثة الاقتصادية التي أسفر عنها الوباء.
وحققت شركة أبل أرباحاً بلغت قيمتها 11 مليار دولار في الأشهر الثلاثة الأولى حتى يونيو (حزيران)، وتضاعف سعر سهمها منذ مارس (آذار)، ما رفع قيمتها السوقية إلى أكثر من تريليوني دولار، أعلى رقم يشهده وول ستريت في تاريخه.
يشار إلى أنه وفي 2016، شكّلت أسهم قطاع التكنولوجيا 20 في المئة من مؤشر "إس آند بي". لكن حصّتها ارتفعت إلى الثلث، حسب نيكولاس كولاس، المؤسس المشارك لشركة "داتا تريك ريسرتش" الأميركية.
مكاسب التكنولوجيا الصاعدة
ويقول المتخصص هانتر من "إنتراكتيف إنفيستر"، "السؤال الأهم هل ستحقق أسهم التكنولوجيا مكاسب أكبر؟". ويبدو أنّ كبير المحللين لدى "بريفينغ كوم" باتريك أوهار يعتقد أن ذلك ممكن. حسب ما أشارت إليه الوكالة. وذكر أنه "لا تزال سوق الأسهم على اقتناع بأن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، لن يسمح إطلاقاً بحدوث سيناريو تداول في أسوأ الحالات في سوق الأسهم".
وعبر خفض معدلات الفائدة إلى الصفر وإطلاق برامج ضخمة لشراء السندات، عملت مصارف مركزية على غرار الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على حماية أنظمتها المالية.
وفي مارس، أقر الكونغرس الأميركي حزمة إنقاذ ضخمة بقيمة 2,2 تريليون دولار، أضيف إليها نحو 500 مليار دولار في أبريل (نيسان)، بينما تجري مناقشة حزمة أخرى. ويشجّع ذلك المستثمرين على الرهان على أصول تحمل مجازفة في إطار سعيهم للحصول على عائدات، لتصبح بذلك الأسهم المرشح الأبرز في المعادلة.
وإضافة إلى "وول ستريت"، يوصف أداء أسواق المال في أجزاء أخرى من العالم بالجيد. وارتفع مؤشرا نايكي الياباني وداكس الألماني بشكل كبير، وإن كان المزاج العام سوداوياً.
وقال دمبيك، من "ساكسو بنك"، "يجري توجيه كل الأموال النقدية الفائضة بشكل منهجي إلى السوق الأميركية، بدلاً من آسيا أو أوروبا". وخفّت بعض الحماسة بحلول نهاية الأسبوع، بعدما بدا أداء وول ستريت الجمعة فاتراً.
وتعد نهاية أغسطس (آب) فترة تشهد تباطؤاً في حركة التداول عادة، ما من شأنه التسبب بتذبذبات كبيرة في الأسعار مع ورود أي خبر جديد. لكن في وقت أظهرت دراسة أجراها الاحتياطي الفيدرالي "أن أكثر من نصف الأميركيين فقط يملكون أسهماً، تبقى معرفة إن كانت الأجواء الاحتفالية في (وول ستريت) ستستمر حتى نوفمبر (تشرين الثاني)، وتدفع بنتيجة الانتخابات الرئاسية لصالح ترمب".
ركود عميق
من جانبه، قال رائد الخضر، رئيس قسم البحوث لدى "إيكويتي غروب" العالمية التي تتخذ من لندن مقراً لها، "الاقتصادات العالمية دخلت في ركود عميق في أعقاب أزمة جائحة كورونا، وسجّلت هذه الاقتصادات انكماشاً، ربما لم تشهده من فترات طويلة، وذلك نتيجة الإغلاقات التي تبعت انتشار الفيروس كإجراء وقائي، ما أدّى إلى فقدان ملايين الوظائف، وإن كانت قد بدأت التعافي، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً حتى تعود الأمور إلى نسقها الطبيعي".
وأوضح، "مع بداية الأزمة شهدت الأسهم العالمية تراجعات بشكل قياسي وبمعدلات قوية، وعلى سبيل المثال رأينا مؤشر الداو جونز يتهاوى وصولاً إلى أدنى مستوياته منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة، وذلك في أعقاب اقترابه من مستويات الـ30 ألف نقطة في بداية 2020، لكننا لاحظنا مع عودة الاقتصاد إلى الافتتاح من جديد تعافياً قوياً يقترب إن لن يتجاوز المستويات القياسية السابقة".
وتابع الخضر، "رغم أن الاقتصادات لم تُظهر التعافي الكامل بعد الأزمة، فإن هناك تفسيراً للارتفاعات القوية لسوق الأسهم في ظل الأوضاع الحالية، التي تتضمّن الزيادة المضطردة في السيولة، نتيجة برامج التيسير الكمي التي وضعتها البنوك، التي تخلق مزيداً من الائتمان. ومع خسارة مشتقات الديون السيادية، أصبحت الأسهم آخذة في الارتفاع، لأنها ليست شكلاً من أشكال الديون، وهي تُعد أكثر جاذبية من السندات ذات العوائد السلبية في الغالب".
واستكمل، "في ظل هذه الأوضاع مع استمرار برامج التحفيز ومعدلات الفائدة المنخفضة، ستظل الأسهم في طريقها لمزيد من الصعود بغض النظر عن توزيعات الأرباح، وبغض النظر عن جودة الأصل، لأنه في حقيقة الأمر تأثير التيسير الكمي في سوق الأسهم يُعد ديناً على الموازنة العامة للحكومة، تدفعه الحكومة من خلال إصدار سندات صفرية".
وواصل، "الوضع الحالي ما هو إلا مؤشر على تضخم المعروض النقدي، مع انعدام السيولة الجديدة، ولا يزال هناك المزيد من التضخم النقدي في الولايات المتحدة وأوروبا، ومن غير المؤكد معرفة متى سينتهي تأثير ذلك في الأسهم". مشيراً إلى أنه من الواجب استمرار برامج التيسير الكمي مع بقاء معدلات التضخم الأساسية منخفضة، لأنه ومع ارتفاع التضخم ستضطر البنوك المركزية إلى تغيير سياساتها النقدية، ومع حدوث ذلك وفي ظل الأرباح الضعيفة والكم الهائل من الديون المتراكمة سيؤدي ذلك إلى هبوط في سوق الأسهم.
هل هي فقاعة؟
ولفت إلى أنه وسط الأزمة "استمرّت أسهم التكنولوجيا في قيادة سوق الأسهم"، ما دعا إلى كثير من التساؤلات حول ما إذا كان هذا الارتفاع حقيقياً أم أنها فقاعة شبيهة بفقاعة أواخر التسعينيات، لكن ما يراه المستثمرون أنه مع رؤوس الأموال العملاقة لهذه الشركات، ربما لا يُوصف الأمر بالفقاعة، لأن العوائد المستقبلية ستكون مدفوعة بشركات التكنولوجيا، إذ يتجه العالم بشكل أكبر إلى الاعتماد على المنتجات التقنية، في ظل اتجاه العمل من المنزل بسبب جائحة كورونا.
وأشار إلى أنه مع استمرار البيئة الحالية في الاقتصاد العالمي، التي تشير التوقعات إلى أنها قد تستمر حتى نهاية العام المقبل، فقد نرى استمراراً في ارتفاعات سوق الأسهم حتى العودة إلى مستويات ما قبل الأزمة، ربما حتى نجد إشارات حقيقية حول انتعاش الاقتصاد العالمي، وإن كان الوقت سيكون طويلاً لرؤية ذلك.
وتوقع الخضر أن تشهد مؤشرات مثل "الداو جونز" مستويات قياسية، وربما نراه يتجاوز مستويات الـ30 ألف نقطة، مشيراً إلى أنه لا بدّ من أن لا ننسى أننا على موعد مع انتخابات رئاسية أميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، التي قد يكون لها رد فعل قوي، مثل الذي شهدناه في 2016 عند إعلان فوز دونالد ترمب بالرئاسة.
فترة صعبة
وفي هذا الشأن، قال وائل مهدي، مدير التداول لدى شركة "ضمان" للأوراق المالية، إن الارتفاعات المتوالية للأسواق المالية العالمية منذ عودة استئناف النشاط بشتى القطاعات الاقتصادية المختلفة تأتي بعد فترة صعبة، بسبب الإغلاق الكلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار إلى أن حالة التفاؤل الملحوظ جاءت نتيجة التحسُّن الطفيف في معدلات البطالة، وهو على الأرجح نابع من تأثير أكثر من عامل، وأولها الاهتمام الواضح بأسواق المال من قِبل الرئيس الأميركي دونالد ترمب وإدارته منذ اليوم الأول، وكذلك الاهتمام بالسياسات الداعمة المؤسسات والشركات الكبيرة بالاقتصاد الأميركي من خلال إطلاق برامج الدعم التحفيزية، التي جرى إعلانها عقب أزمة جائحة كورونا.
وأوضح أن انتعاش شركات التكنولوجيا كان نتيجة طبيعية لازدهار أعمالها بعد الإغلاق الكلي، والاعتماد بشكل أكبر على طريقة العمل عن بعد، واستمرار بعض الشركات على هذا النهج، وتجلّى هذا في النتائج المالية لهذه الشركات.
وتوقع أن تستمر هذه الطفرة في الأسواق الأميركية على الأقل إلى ما بعد نهاية الانتخابات الرئاسية المقبلة، مرجحاً أن يشهد المتداولون إغلاقات قياسية متكررة على صعيد الأسواق الأميركية، وذلك طبقاً للمتغيرات الحالية التي نراها وحتى موعد الانتخابات الأميركية.
حالة عدم اليقين
وقال نادر حداد، المستشار المالي لدى البنك الفرنسي "سوسيتيه جنرال"، "الأسواق المالية عبرت الأزمة في مارس وأبريل الماضيين، بعد عمليات بيع ضخمة للأسهم، وهي كانت تعبر عن حالة عدم اليقين والذعر لدى مستثمري الأسهم من آثار الجائحة".
وأضاف، "أزمة كورونا ألقت بثقلها على الاقتصاد العالمي، لا سيما على الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر أضخم اقتصاد بالعالم من ناحية الناتج القومي". مؤكداً أن تلك الأزمة "شلّت الحركة الاقتصادية بشكل شبه تام"، فكان عدد طالبي المساعدة من الدولة أكثر من 40 مليون أميركي، وهذا ما كلّف الدولة تريليونات من الدولارات التي ضخها الفيدرالي عن طريق التسيير الكمّي، أي شراء أصول مقابل توفير سيولة، أو المساعدة المباشرة للطبقات المتضررة.
وأشار حداد إلى أن كثيرين لاحظوا أن سوق الأسهم لم تكن تعبّر عن الاقتصاد الحقيقي، فلمّا كانت الأسواق في ارتفاع تاريخي كان الاقتصاد ينذر بنزول أو أزمة اقتصادية كبيرة، ويرجع هذا السبب إلى أن الأسواق تتأثر بالأخبار والإشاعات. في المقابل إن الاقتصاد الحقيقي يحتاج إلى كثير من الوقت لإعادته كما كان على الأقل.
طفرة قوية
وبدوره، قال نور الدين محمد، رئيس شركة "تارجت للاستثمار"، "ما يحدث في سوق الأسهم الأميركية من طفرة قوية يعتبر السبب الرئيس فيه هو ما تقوم به الدولة والجهات المعنية من إصدار حزم تحفيزية وتخفيضات متتالية لأسعار الفائدة حتى وصلت من صفر في المئة إلى 0.25 في المئة، ما جعل البورصة هي البديل الاستثماري الأمثل بعد المعادن النفيسة، على رأسها الذهب، الذي وصل إلى معدلات سعرية مرتفعة وقياسية".
وأوضح محمد، "ما تقوم به الدولة من مساعدة الشركات المقيدة بالبورصة، وكذلك انخفاض معدلات الفائدة على القروض جعل من السهولة على هذه الشركات تحقيق أرباح سريعة مع أي تحسن ولو بسيط في المعدلات الاقتصادية، على رأسها مبيعات الأفراد، وهو ما شجّع رؤوس الأموال إلى الاتجاه إلى البورصة، للاستفادة من الطفرة التي قد تحدث بالأسعار".
وأضاف، "أكثر الشركات التي استفادت من هذه المحفزات والإغلاق الكلي للاقتصاد بالفترة الماضية شركات التكنولوجيا، إذ اعتمدت الكثير من الأعمال على التعامل عن بعد عن طريق البرامج الحديثة، التي حققت نجاحاً كبيراً".
وبيّن محمد أن ذلك جعل أغلب الشركات تفكّر جدياً في تقليل عدد الموظفين والاعتماد على التكنولوجيا بديلاً أقل تكلفة وأكثر وفرة للوقت والمجهود، وقد بدا ذلك جلياً في التطور السعري لأغلب شركات التكنولوجيا، مثل "غوغل" و"فيسبوك" و"آبل"، وكذلك الأرباح الكبيرة التي حققتها هذه الشركات.
ويبقى التساؤل: كيف سيعيد التحفيز المالي النشاط إلى القطاعات الاقتصادية الحقيقية في المنطقة؟ وما انعكاسه المستقبلي على الأسواق المحلية؟