تعج منصة "نتفليكس" الإلكترونية بالغث والسمين. الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود. لكن في الفترة الأخيرة، انفتح الموقع الذي يستخدم تقنية البث التدفقي على أفلام مهمة لسينمائيين كبار، لإعطاء نفسه المزيد من الصدقية، وعدم حصر محتواه بالمواد الاستهلاكية. هنا تقديم لعشرة أفلام "فنية" مهمة لا بد من مشاهدتها.
"عن الصدأ والعظام" لجاك أوديار
الممثلة ماريون كوتيار تضطلع في هذا الفيلم البديع بدور ملعبة حيتان، تفقد ساقيها بعد حادثة. وبقدرتها على تحول كل لحظة إلى فجيعة تسحق كوتيار القلوب. في مقابلها، يقف رجل (ماتياس شونارتس) لا نعرف عنه الكثير سوى أنه من أصل عربي. إنه علي، أب لصبي لا يعرف كيف يوفر له ضرورات الحياة المادية. لا يتشارك "بطلانا" الكثير، هو يستمع إلى غريزته، أما هي فرومنطيقية تأتمر بها الحيتان. رغم ذلك، يتم اللقاء ذات مساء إثر عراك على باب الملهى الليلي، حيث يعمل علي. يتعاطى أوديار مع شخصيات هامشية، متروكة لذاتها ومصيرها ومصيبتها. لكن هناك مسحة ميلودراما جميلة تعبر النص من أوله إلى آخره. أهمية الفيلم تنبع من الشخصيات، وغناها النفسي والمعنوي، وليس من الحوادث فحسب. هناك ثوابت يرتكز عليها أوديار، التعبير الصعب عن الذات، والعنف الدفين، واستخدام الجسد في إفراغ الكبت، والانتقام من القدر.
"أميركان هَني" لأندريا أرنولد
طريق البريطانية أندريا أرنولد، مخرجة "صندوق السمك"، تمر هذه المرة في أميركا، أميركا بطرقها التي لا نهاية لها وجنونها المتفلت. هذا فيلم مشبع بالموسيقى الصاخبة حيث الشباب الحر يمسك بزمام الأمور. أسلوب التصوير الذي تتبناه أرنولد في هذا الـ"رود موفي" (فيلم طريق) جذري للغاية. صحيح أن الفيلم يأخذ من الطريق مسرحاً له، لكنه غير مقيد بتقليد السينما الأميركية التي صورت الطريق. بعض التجديد ونفحة حرية يبدوان ضروريين عند أرنولد، التي تستحضر إلى الذاكرة لاري كلارك، وهارموني كورين، وصوفيا كوبولا. بيد أن الهم الأكبر للفيلم هو إعطاء الشباب الأميركي المهمش، الذي لم يحظَ بفرصة الالتحاق بكبار الجامعات والتمتع بحياة ميسورة، هامشاً أكبر للتعليق على الوضع الذي هو فيه. الموسيقى هنا حضن دافئ، العلاقات الجنسية بدعة، الحب لا مفر منه. وسط كل هذه المعمعة، تجد أرنولد ما تقوله، وتقوله على طريقتها الخاصة جداً، والنتيجة ساعاتان من السينما الخالصة.
"قتل الغزال المقدس" ليورغوس لانثيموس
علاقة غريبة تنشأ بين طبيب جراح ومراهق. ما الرابط بينهما؟ جواب يؤجله الفيلم مراراً حتى النهاية. لكن، منذ البدء نعلم أن العلاقة على مقدار من الغرابة واللبس. الأجواء شديدة السوداوية، مع لحظات ذورة يلجأ فيها المخرج إلى الموسيقى التفخيمية. تضعنا الحكاية في أجواء مشحونة ومتوترة وضاغطة، عبر إشاعة مناخات، وتشكيل كادرات لم تألفها العين، يذكرنا بعضها بستانلي كوبريك. عائلة تتألف من أب وزوجته وولديهما، هي محور هذا العمل الاستثنائي تمثيلاً وإخراجاً حيث البطولة هي لكولن فاريل ونيكول كيدمان. ظاهراً، كل شيء يبدو طبيعياً، إلا أن خلف جدران الفيلا (حيث تقيم العائلة الميسورة)، نكتشف تباعاً العديد من الأسرار التي تكون محوراً لخضات مريعة وانهيارات تهز الفيلم بالكامل. لانثيموس يعري المجتمع ويظهره على حقيقته المريعة، بعد إزالة المساحيق التي على وجوه الشخصيات، من خلال "التنكيل" بالبورجوازية الغربية، التي تقيم في برجها العاجي. التوصيف الأدق هو القول إننا أمام فيلم رعب ثمانينياتي، أضيفت إليه رشة من البسيكولوجيا.
"الهضبة المشتعلة" لغييرمو أرياغا
الفيلم يتضمن مقداراً لا بأس به من الانشغالات الجمالية والفكرية. مصائر تتشابك أسوة بأزمنة وأمكنة هي أيضاً تلتقي في مسافة فيلمية. الفيلم قصة نساء من أربعة أجيال مختلفة. هناك أولاً تشارليز ثيرون، إمرأة تدير مطعماً وتعيش حياة حرة مستقلة. هناك أيضاً كيم بازينغر، ربة منزل خمسينية تكتشف الحب في حضن رجل مكسيكي. هناك بينهما مراهقة (جنيفر لورانس) تبحث عن نفسها، وتحاول إصلاح ما تهدم، بالإضافة إلى الفتاة الصغيرة (تيسالا)، التي تعاني من انفصال والديها. مَن هؤلاء، وما الذي يربطهن بعضاً ببعض؟ هذا ما نعرفه، علماً أن أرياغا يظل محافظاً على غموض مدهش على مدار نحو ثلثي الفيلم، بحس تقطيعي عال جداً يمنع البكائية والشفقة من التسلل إلى عمله. إذا كانت جنيفر لورانس هي الاكتشاف الأكبر هنا، فلا شك أن ثيرون تسحق القلب في شخصية سيدة تجد طريق الابتسامة من جديد.
"عار" لستيف ماكوينمن فيلم "عار" لستيف ماكوين (نيتفليكس)
مايكل فاسبيندر يلعب دور شاب ثلاثيني يعيش في نيويورك. ما الذي يستحق أن يُروى في تجربة هذا الشاب الوسيم، الذي نراه يحاول إغراء فتاة في المترو لمطارحتها الفراش؟ الجواب، الكثير مما هو غير ظاهر، الذي يمسك بخط الفيلم حتى النهاية الصعبة. نحن حيال شخصية يتحكم بها الهوس، وما يصوره ماكوين طوال ساعة ونصف الساعة، هو نزول براندون (فاسبيندر) إلى جحيم هذا الهوس المرضي. براندون شخصية باطنية، لا نعرف عنه سوى ما يتيحنا به نص ماكوين. شذرات وأطراف حديث مع زملاء وأصدقاء لا يفعلون، لقاء بعد لقاء، إلا تعزيز طابعه الانعزالي. يصور ماكوين الجنس كحاجة حيوانية، لكن متخلياً عن كل أغلفته الرومنطيقية، كاشفاً قسوة كبيرة في نظرته إليه.
"ماتش بوينت" لوودي آلن
يعاين وودي آلن الأفراد وسلوكهم إزاء الطموح والنجاح. ماذا يفعلون، كيف يتصرفون، ما الطريق التي يختارونها للوصول؟ بسرعة يتخطى العموميات، ليحدد العدو المتمثل في شخصية الشاب الإيرلندي (جود لو)، الذي ينوي صعود السلم الاجتماعي مهما كلف الثمن. إنه أستاذ كرة المضرب، الرياضي الفاشل الذي يصادق ابن عائلة ثرية، فيتزوج من شقيقة هذا الأخير، قبل أن يقع في غرام أخرى.
لا مثيل لهذا اللؤم الخبيث الذي يستعين به آلن في هذا الفيلم ليروي ما يرويه، من صراع طبقي وكذب وجبن وضغينة وقتل ودمار نفسي. يتركنا الفيلم بإحساس أن آلن مارس دوره كمخرج، وكسيناريست، وكرسام للأهواء الإنسانية، وكناقد لمجتمع يبحث عن المال والسلطة والجنس، مجتمع لم يتوانَ يوماً في تقديمه على أنه ليس المجتمع المثالي. "ماتش بوينت" هو أكثر أفلام آلن تطرفاً في كيفية وصف الصعود الاجتماعي. مع تناوله موضوعاً على قدر من الشؤم، دخل آلن في مرحلة أخرى من حياته السينمائية. دوستويفسكي حاضر في الفيلم عبر "جريمة وعقاب" الذي يطالعه البطل، مثله مثل برغمان والشخصيات الشغوفة الخارجة من إحدى كلاسيكيات الأدب الروسي. نسأل ماذا حصل كي يجلد النيويوركي الطريف ذاته، بعصا سينما قاسية؟ كيف بلغ هذا المستوى من المازوشية، كي يحمل "ضميره السينمائي" شخصيات تصعب معاشرتها؟
"المسيح الأعمى" لكريستوفر موراي
هذا الفيلم أشبه بقصيدة بصرية تخاطب العقل والإحساس في آن ، تستلهم تجربة السيد المسيح من خلال متتاليات حكائية. يسعى الفيلم إلى البحث عن أسمى معنى يوفره الدين. القصة عن رحالة يُدعى مايكل يؤمن بقدرته على شفاء المرضى، فنراه ينتقل من منطقة إلى أخرى في "تشيلي" للاهتمام بالمهمشين. إنه شاب مكسور الخاطر ومتشبث بمعتقده. النص يوحي بكثير من الأفكار الجديرة بالنقاش. الإيقاع متمهل والتطور بطيء، ولكن التأثير الذي يمارسه كبير على المدى الطويل. الدين في صميم العمل وتطوره الدرامي، لكنه ليس وسيلة للتبشير، بل لفتح نافذة على إيمان من نوع آخر، أكثر عقلانية. إيمان يتيح عبادة من دون اللجوء إلى عقيدة منظمة تحت رعاية مؤسسة دينية. مايكل هذا لا يتناقض المنطقي عنده مع الروحاني.
"روما" لألفونسو كوارون
مدينة مكسيكو الباهرة المعششة بالحكايات، هي بطلة هذا الفيلم الرائع الذي يعود بنا إلى السبعينيات، الفترة الزمنية التي شهدت ولادة المخرج كوارون. كوارون الذي نبش في ذكرياته كي يكتب السيناريو، وينجز هذا العمل الشخصي جداً. مكسيكو القديمة، بعظمتها وانحطاطها، تعكس تعلق المخرج بالماضي، الذي لا يتحول إلى حنين سقيم. العالم الذي يدخلنا إليه كوارون عالم نساء يُدرن شؤون منزل بورجوازي، ويتولين تربية الأولاد. نتعرف على الأب والأم وأولادهما الأربعة فالجدة، وأخيراً كليو. هذه الأخيرة يعشقها الأولاد، علماً أن كوارون استوحاها من شخصية المربية، التي كانت تهتم به عندما كان طفلاً. الفيلم هو فيلمها، ذلك أن حكايتها هي الأقوى، فهي الشاهدة على كل شيء حصل في المكسيك في تلك الفترة الزمنية. الفيلم يتعمق في الشخصيات العزيزة على قلب المخرج، فيقدم فيلماً على درجة عالية من الصدق والروعة.
"بردمان" لأليخاندرو غونزاليث إينياريتو
المخرج المكسيسكي الكبير يقدم فيلماً مبتكراً، لا يمكن أن نتوقع أي شيء يحصل فيه. ثمة شيء آخر في انتظارنا على كل منعطف. مونتاج الفيلم الذي يجعله يبدو كأنه مصور بلقطة واحدة، يزجه في فلك التجارب السينمائية المدهشة. مايكل كيتون يقوم بدور ريغن توماس، ممثل فاشل ومعذب، نرجسيته بلا حدود، يطمح إلى اقتباس مسرحية لريموند كارفر. "بردمان" يصور تجربة هذا الفنان الذي سنتعقبه في كواليس مسرح برودواي. الكاميرا التي تولى شأنها المصور العبقري إيمانويل لوبيزكي، تعانق الشخصيات في رقصة شيطانية مدهشة. لا بد أن نتذكر كباراً مثل روبرت ألتمان، وبول توماس أندرسون ونحن ننزل في "جحيم" الفنان، مع الفرق أن إينياريتو لا يشبه أحداً، وأسلوبه يستمده من تاريخ السينما نفسه.
"الإيرلندي" لمارتن سكورسيزي
لم يود سكورسيزي إخراج فيلم آخر عن المافيا، لكن العمل فرض نفسه. في النهاية، هذا ليس فيلماً عن المافيا بقدر ما هو عن الشيخوخة في المافيا. لا يستقيم "الإيرلندي" من دون هذا الزمن الذي يوثقه سكورسيزي بكاميراه، فهو يترك أثراً واضحاً في جلد الشخصيات التي نتابعها، شخصيات ولدت من رحم سينماه. روبرت دنيرو هو المحور، فهو يجسد شخصية القاتل المحترف فرانك شيران. هذا الإيرلندي بدأ سائقاً للتاكسي، قبل أن تستدرجه المافيا الإيطالية إليها ليقوم بالأعمال القذرة. مرة أخرى، يرينا سكورسيزي أنه سيد إيقاع، وأستاذ سرد، وهو على مشارف الثمانين من العمر. نجده يلعب المشاهد كعازف بيانو يضرب على المفاتيح بأصابعه، من خلال فيلم يدس بعض المرارة في القلب.