بدأ التململ بين مكوني مجلس السيادة الانتقالي الحاكم في السودان المدني والعسكري يتحول إلى تلاوم وإلقاء تبعات الفشل على الآخر في إدارة أزمات البلاد، خصوصاً الاقتصادية. فالانتقادات التي وجهها رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان لحكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، كان العنوان الأبرز لها هو الصراع حول استثمارات وشركات الجيش، التي ذكر حمدوك أنهم يعملون على معالجتها.
وبالنظر إلى محاور أخرى وصل عندها الخلاف بين شريكي الحكم إلى طريق مسدود، فإن دور الجيش كمؤثر على الاقتصاد السوداني ضئيل، حسب ما ذُكر، وأن كل شركاته لا تتجاوز واحداً في المئة من مجمل الناتج القومي.
ويلفت ذلك إلى ضيق من وجود المكون العسكري في الحكومة، وهو ما عبر عنه البرهان بأنه حملة لتفكيك القوات المسلحة. وتحت ظلال هذه الحملة هناك تصدعات نشطة بين المكونين العسكري والمدني تتغذى على الأجندة الحزبية، والخلاف حول محاكمة الرئيس السابق عمر البشير، والخلاف حول حل الأزمات التي تمسك بخناق البلد.
محاصصات سياسية
تدير قوى "الحرية والتغيير" معضلة وجودها بين المكون العسكري وحاضنتها السياسية، المكونة من الأحزاب المتفرقة التي لم تجتمع على رؤية واضحة، بإصرار واضح على تمرير أجندة القوى السياسية من خلالها.
وبينما هناك أحزاب ترغب في تسريع الفترة الانتقالية الموصلة إلى تغيير الوجوه، إلا أنها ليست حريصة كل الحرص على تسريع الانتخابات التي ستكشف عن ضعفها وتضعضعها وانحسار شعبيتها، لذلك تخفي رضاها عن هذه الفترة بتذمر لا يصمد في وجه تلويح المجتمع الدولي بضرورة تذليل العقبات إيذاناً بالتحول الديمقراطي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في خضم هذا التفاعل الذي نشر أجواء سلبية عما يمكن أن يسفر عنه التحول الديمقراطي، يقترب البرهان وحمدوك أكثر فأكثر من حافة السقوط، إذ إن إصرارهما على طلب الاستقرار والإصلاح في مساحة مناورة محدودة، أنتج سلسلة من تصاعد التوتر.
أما مساحة المناورة الكبرى فتشغلها القوى السياسية والعسكرية الأخرى، وفي هذا الخصوص لم تعد المطالبة بتفكيك الجيش أو إعادة هيكلته خلال الفترة الانتقالية خفية، فمن بين ثنايا الاتفاق الذي وُقع بين "تجمع المهنيين" و"الحركة الشعبية" لتحرير السودان جناح عبد العزيز الحلو، هناك مطالبة بهيكلة القوات المسلحة، وهو ما ظلت تنادي به الحركة منذ بدء الفترة الانتقالية.
ويلقي ذلك بضوء كثيف على رفض الحلو قيادة نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان حميدتي لوفد مفاوضات السلام الجارية حالياً في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، إذ انسحب وفده من المفاوضات يوم 20 أغسطس (آب) الحالي احتجاجاً على ذلك.
محاكمة البشير
خلاف آخر وصم العلاقة بين المكونين العسكري والمدني في قضية تسليم الرئيس السابق عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي تتهمه بارتكاب جرائم حرب في دارفور، فبينما أعلنت "قوى الحرية والتغيير" عن تسليم البشير، أعرب المجلس العسكري عن موقفه الرافض لذلك، و"أن محاكمة البشير ستتم داخل البلاد لأن القضاء السوداني مؤهل وقادر على ذلك"، وهو ما يتم الآن، ولكن يذهب كثيرون بأن ذلك لن يوقف مطالبة المحكمة الجنائية الدولية.
وهذا الخلاف والتردد في تسليم البشير ظل يحدث قبل قيام الثورة وسقوط النظام، عندما طالبت قوى المعارضة الصادق المهدي زعيم "حزب الأمة" القومي بإسداء النصح للبشير بضرورة الرحيل بشكل سلس وتسليم نفسه للجنائية الدولية.
وفي خضم تلك المطالبات برز تردد المهدي، بالنظر إلى الكسب السياسي الذي يمكن أن يحققه من ذلك، وفي نفس الوقت وجود نجله اللواء عبد الرحمن في وظيفة مساعد الرئيس البشير في القصر الجمهوري، ما جعل المطالبة بالتنحي أو تحقيق الانتفاضة الشعبية وصولاً لإسقاط النظام، خياراً صعباً.
ومع مرور الوقت وظف المهدي ملاحقة الجنائية الدولية للبشير، من أبواب متناقضة. فبعد أن وجه الصادق المهدي إدانته للمحكمة الجنائية الدولية عند إصدارها مذكرة للقبض على البشير أثناء حضوره قمة الاتحاد الأفريقي الـ25 في جوهانسبرغ في يونيو (حزيران) 2015، انقلب من اتهامها إلى الدفاع عن استقلاليتها، متهماً المسؤولين في جنوب أفريقيا بالتآمر على إخفاء البشير وتسهيل طريق الهروب لعودته إلى السودان.
مشاريع طفيلية
يعود قوام القوة الاقتصادية في السودان إلى إرث الاستعمار، مستنداً إلى النفوذ السياسي الذي تحقق للحكومة الوطنية بعد الاستقلال عام 1956، بالإضافة إلى اقتصاد إقطاعي كان يديره زعماء الأحزاب الطائفية (الأمة والاتحادي الديمقراطي).
وفي عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري، أمم الشركات وحولها للقطاع العام، وعلى الرغم من عدم وصف عهده بفساد شبيه لما تم في عهد الإنقاذ، إلا أنه أعطى الأولوية للمؤسسات الخاصة للتنمية التي تقودها الدولة، ما أدى إلى تهميش القوات المسلحة. عمل النميري على تأميم شركات القطاع الخاص ودمجها لتحويلها إلى ملكية تسيطر عليها الدولة، وأنهى المنافسة بين الشركات. وعندما أتت الإنقاذ حولت هذه الشركات إلى قطاع خاص، ولكن مملوكة للجيش ولأفراد في النظام.
كما أنه في ظل حكم البشير ولارتفاع الإنفاق العسكري بسبب حرب الجنوب ودارفور، نفذ النظام برنامجاً شاملاً بإنشاء شركات واستثمارات اقتصادية جنباً إلى جنب، مع إصلاح الصناعة الدفاعية التي تقلصت بفعل العقوبات الأميركية. واعتمد نظام الإنقاذ في ذلك على إيران والصين، الأمر الذي جعل التركيز يزداد عليها بسبب حرب دارفور والرقابة الدولية على الأسلحة في مناطق النزاعات في أفريقيا. كما أدت الأزمة الاقتصادية إضافة إلى الفساد ورفع يد الدولة عن حقوق مؤسسة الجيش، إلى قيام مشاريع طفيلية لتزويد القوات المسلحة بالموارد.
أنشأ البشير شركات موسعة هيمنت على الاقتصاد مسنودة بالقوة السياسية. زاحمت مؤسسات الجيش في عهد الإنقاذ القطاع الخاص، وحصلت على كثير من الامتيازات بصفتها جهة سيادية، سواء بالحصول على أراض للمشاريع خارج منافسة القطاع الخاص أو من طريق إعفائها من الضرائب والإعفاءات الجمركية لوارداتها من السلع والمعدات، واتسمت بانعدام الشفافية والإفصاح والإقرار الضريبي والرقابة على المشروعات.
صورة سلبية
انتهجت حكومة الإنقاذ السابقة خطاً لاستثمار القوات المسلحة في إدارة الشركات وأعمال التجارة والمقاولات، بدأته منذ محاولات أفراد من المؤسسة العسكرية التدخل في قطاع النفط عند استكشافه وإنتاجه منذ بداية تسعينيات القرن الماضي. ولكن تسبب الصراع بين ممثلي شركات الجيش وشركات الإسلاميين، إلى أن يؤول بعدها امتياز النفط إلى شركة كونكورب (شيفرون سودان)، ثم تنازلت عنه بعد ضغوط لصالح الحكومة.
وبالغ الجيش في أداء الأدوار الاقتصادية بغرض الربح، ولكن لا ننسى أن هناك عائقاً رئيساً من تضخم هذا الدور، وهو العقوبات الأميركية المفروضة على السودان، التي التف عليها النظام بالتعاون مع الصين.
وتمخضت عن الاستثمار النفطي في فترة الإنقاذ صورة سلبية عن الاستثمار المحلي والأجنبي، ووضع العراقيل في وجه المستثمرين بسبب غياب منافسة القطاع الخاص الذي حلت محله شركات النظام، بالإضافة إلى بروز نشاط السمسرة مع الشركات الأجنبية.
أدار الجيش في عهد الإنقاذ عدداً من المؤسسات الصناعية والتجارية والسياحية، وعلى الرغم من تحقيقها أرباحاً عالية، إلا أنها لم تكن تدخل خزينة الدولة كما أنها أسهمت في بروز حالات الفساد المالي لدى العسكريين. وهذا ما أدى إلى تلخيص الصورة النمطية التقليدية الشائعة في معظم البلدان، بأن تدخل الجيش في السياسة والاقتصاد يؤدي دوماً إلى عدم الاستقرار السياسي وتدهور الاقتصاد. وفي حقيقة الأمر أن لهذه الصورة أكثر من جانب. فالتدخل المعني هنا هو في الاقتصاد المدني مثل المصانع والشركات التجارية والخدماتية وغيرها، وليس مصانع الأسلحة والذخيرة التي نشطت أيضاً بدعم إيران والصين، كما لا يتضمن الإنفاق العسكري وهو أحد بنود الموازنة العامة.
توافق العسكريين
يبدو أن المؤسسة العسكرية على استعداد للتفاوض بشأن بعض هذه الشركات، إلا أن النجاح في تقييد نشاطها سوف يشكل قدراً من الصعوبة. وإذا ما وضعنا في الحسبان الظروف التي يمر بها السودان والقوات المسلحة، وما يتبع ذلك من شعارات وطنية وأرباح تجارية، سوف تعزز دفاع الجيش عن مؤسساته لأن بقاءه يرتبط بها. لم تصل الاتهامات المتبادلة بين المكونين المدني والعسكري حتى الآن إلى مواجهة أكثر خطورة، لكن ربما يكون التحذير من أن المعركة لا تزال على الأبواب.
ويُتوقع أن يؤدي تربص المكون المدني بالعسكري إلى إظهار حالة توافق وانسجام بين القوات المسلحة وبقية القوى العسكرية خصوصاً قوات الدعم السريع، وذلك لمواجهة الترقب وإبعاد التصدع الذي تُتهم "قوى الحرية والتغيير" بأنها ترغب في حدوثه. وظهرت مقدمات ذلك الآن، إذ لم تنجح محاولات إثارة الأجواء بلفت نظر القوات المسلحة لتمدد قوات الدعم السريع، وتبدو إلى الآن الأدوار بين البرهان وحميدتي، الذي سيكون داعماً لهذا الدور، متناغمة وتسودها حالة من الوفاق مرتبطة بوحدة الهدف.