الحض يتحول إلى إلزام. فما بدأ كنصح من رئاسة الحكومة للعاملين البريطانيين بالعودة إلى مكاتبهم إذا كان ذلك مأموناً الآن، يُقَال لنا إنه سيصبح حملة حكومية كاملة لتشجيع الناس على العودة إلى مكاتبهم السابقة في مراكز البلدات والمدن في مختلف أرجاء المملكة المتحدة.
وثمة كلام عن أن الحملة ستشمل إعلانات في الصحف وملصقات. ويبدو أن في مقدورنا أن نتوقع تأكيداً على المنافع الاجتماعية والصحية لعودة العاملين إلى حياتهم المكتبية السابقة للإغلاق (الحجر).
لكن ملخصاً وجهته الحكومة إلى بعض المؤسسات يشير إلى أن عصا سترافق الجزرة أو على الأقل تخويفاً من عصا.
فقد أُلمِح في شكل غامض نسبياً إلى أن الذين لن يعودوا إلى مكاتبهم السابقة سيكونون أكثر عرضة للصرف من الخدمة إذا قررت الشركات إعادة هيكلة بنيتها.
ويشعر بعض المسؤولين الحكوميين البارزين بقلق واضح من الأثر الاقتصادي لاستمرار عمل ملايين العاملين من المنزل على الرغم من أن الداعي الرسمي إلى ذلك انقضى ولم يعد موجوداً.
وتفيد تقارير بأن الوزراء أصيبوا بالذعر حين تنقلهم مع سائقيهم عبر المراكز الفارغة للمدن، بسبب غياب الناس عن الشوارع والأثر غير المباشر لغياب الأعمال التي توفر الدعم للعاملين المكتبيين.
وتشعر بعض مجموعات الضغط التي تمثل الشركات بقلق أيضاً. فقد حضت المديرة العامة لاتحاد الصناعة البريطاني كارولين فيربيرن هذا الأسبوع الحكومة على تشجيع الناس على العودة إلى أماكن عملهم السابقة، واصفة المكاتب بأنها "عوامل حيوية في تحريك (عجلة) اقتصادنا".
ويمكن للمرء أن يتخيل الشعار "عودوا إلى المكاتب وأنقذوا الاقتصاد" يحل محل التوجيه القائل "ابقوا في البيت وأنقذوا الأرواح" التي رافقت الحجر في مارس (آذار).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن من المهم النظر في صحة هذا الموقف في الواقع. فما أهمية ما يمكن أن نسميه "اقتصاد المكاتب" في المشهد الاقتصادي الأوسع؟
من الواضح تماماً السبب الذي يجعل غياب العاملين المكتبيين مضراً بالاقتصاد في الأجل القريب.
ولا يحتاج المرء سوى إلى التفكير في متاجر السندويتشات والمقاهي والحانات والمطاعم ووكالات الأخبار والنوادي الرياضية ومحال تنظيف الملابس الواقعة في مراكز المدن أو البلدات والتي تهبط أعداد عملائها منذ مارس.
ويُعَد تراجع أعمال "بريت آه مانجيه"Pret a Manger، السلسلة الواسعة الانتشار والتي أصبحت مرادفاً لوجبة الغداء المكتبية الجاهزة، بنسبة 60 في المئة في الأشهر الستة الماضية مرآة ما أصاب الأعمال الأخرى تلك.
ثم يجب النظر في أحوال شركات النقل التي تنقل الناس من منازلها في الضواحي إلى مراكز المدن. فقد انهارت أعداد ركاب القطارات والحافلات والمترو، ما أصاب المؤسسات التي تديرها بخسائر مالية مدمرة.
ويبدو أن الفجوة المالية في"ترانسبورت فور لندن" TFL، التي تدير "مترو أنفاق لندن"، تبلغ خمسة مليارات جنيه إسترليني (حوالي 6.67 مليار دولار).
ولا تستطيع الحكومة تحمل ترك هذه المؤسسات تنهار وتفلس، فذلك سيحرم موظفي المستشفيات والعاملين الرئيسيين الآخرين من وسائل النقل التي تقلهم إلى العمل، فتضطر إلى إنقاذ هذه المؤسسات بمليارات الجنيهات من المال العام.
وهنا يبدو الالتزام المالي مفتوحاً عملياً، وهو يفسر جزئياً السبب الذي يجعل الحكومة حريصة على عودة العاملين إلى التنقل.
لكن ما مدى أهمية المكاتب في الاقتصاد ككل؟
تستقطب الرحلات بغرض التنقل أو العمل نصف الرحلات البرية بالقطارات. ويتخذ جزء مهم من قطاعي الضيافة والبيع بالتجزئة الكبيرين لدينا من مراكز المدن مقراً، على الرغم من صعوبة تقدير مدى اعتمادهما على العاملين المكتبيين مقارنة بالسياح والزائرين العاديين.
ولإعطاء فكرة عامة عن أهمية هذين القطاعين، تبلغ حصة البيع بالتجزئة خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي والضيافة اثنين في المئة.
ولا شك أنهما وازنان في الاقتصاد الأوسع.
لكن من المهم مقارنة حجمهما بقطاعات أخرى في الاقتصاد المكتبي التقليدي. فالمصارف وشركات التأمين تبلغ حصتها سبعة في المئة من الاقتصاد. وتسجل شركات المحاماة ومؤسسات المحاسبة ووكالات الاستشارات الإدارية مساهمة تبلغ سبعة في المئة أيضاً. وثمة سبعة في المئة أخرى هي من نصيب شركات تكنولوجيا المعلومات. واللافت في هذه الأنواع من شركات خدمات الأعمال مدى ترحيبها بالعودة إلى المكاتب.
فقد أظهر استطلاع أجرته "هيئة الإذاعة البريطانية" هذا الأسبوع أن 50 من كبرى الشركات البريطانية لا تخطط لإعادة الموظفين جميعاً إلى المكاتب بدوام كامل في المستقبل القريب.
ويعود السبب إلى حد ما إلى مخاوف العاملين من عدوى محتملة بفيروس كورونا، لكن الأمر يشير أيضاً – وهذا مما تدعمه الاستطلاعات – إلى أن إدارات هذه المؤسسات تنبهت إلى أن عمل جزء كبير من الموظفين من المنازل كان مرضياً لها.
ويميل جزء أكبر حتى من الموظفين في هذا النوع من شركات الخدمات المهنية إلى العمل من المنزل أيضاً.
وفي ضوء ذلك، يبدو من قبيل المبالغة القول أن الاقتصاد البريطاني ككل لن يتمكن من التعافي حتى تمتلئ المكاتب مجدداً.
ومن المنطقي تماماً القول، كما يفعل البعض، بأن المستقبل سيشمل نسبة أكبر بكثير من العمل من المنازل على أساس دائم، وأن ذلك سيؤدي إلى إعادة هيكلة الاقتصاد – إذ ستقل المحال والحانات والنوادي الرياضية وما إلى ذلك في مراكز المدن وستزيد في مناطق قريبة من أماكن عيش الناس وعملهم الآن.
وقد يتوافر لدى العاملين المكتبيين مزيد من الدخل المتاح للإنفاق في هذه المؤسسات المحلية الجديدة لأنهم لن يضطروا إلى إنفاق مال كثير على التنقل.
لا يعرف أحد بالطبع في شكل حاسم كيف سينتهي المطاف، لكن من الواضح أن أزمة كوفيد أدت إلى عدد من الاحتمالات في هذه المسائل.
ومن المفهوم أن تحاول الحكومة تشجيع الناس على العودة إلى المكاتب. ويرجح أن ثمة تكاليف وخسائر اقتصادية مرتفعة إذا لم يعاود المتنقلون والعاملون المكتبيون التدفق في الأشهر المقبلة. لكن الخطر يتمثل في مقاومة الحكومة موجة من التغيير الاقتصادي الهيكلي البارز (ستدرس "اندبندنت" تشعبات هذا المنحى في مقالات مقبلة).
فمقاومة من هذا النوع في ضوء الدروس التاريخية تنتهي عادة بخيبة أمل.
© The Independent