على الرغم من اكتساب العالم خبرة في مواجهة فيروس كورونا المستجد فإن تفشي موجة ثانية قد يكون بمثابة انهيار سريع للتماسك الذي أبداه الاقتصاد العالمي، أخيراً، ويعطل عملية التعافي بعد تكبد خسائر بتريليونات الدولارات.
وفي هذا الصدد، قال محللون مختصون، إن الاقتصاد العالمي لا يتحمل موجة ثانية لتفشي كورونا، وهناك توافق دولي على عدم تكرار سيناريو الإغلاق الكامل إلا أنه قد يكون مطروحاً حسب قوة الموجة، موضحين أن عقاراً فعالاً هو الأمل الوحيد لاستمرار وتيرة تعافي الاقتصاد العالمي وتعويض الخسائر التي تكبدها.
وكان صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير أكثر تشاؤماً حول الاقتصاد العالمي، متوقعاً أن يكون الركود الاقتصادي هذا العام أعمق مما كان متوقعاً في بداية أزمة كورونا، بينما قدر البنك الدولي أن فيروس كورونا سيتسبب في تقلص الناتج العالمي بـ5.2 في المئة خلال 2020، وهو ما سيكون أعمق انكماش منذ الحرب العالمية الثانية.
ومما لا شك فيه أن كل هذه الأرقام السلبية تعقد الأمور أكثر وأكثر لدول العالم وحكوماتها التي باتت في حيرة، إذ إنها تعمل جاهدة لفتح الأعمال وتحريك العجلة الاقتصادية للحد من آثار الأزمة، كما أنها في الوقت نفسه قلقة ومتخوفة من موجة ثانية قد تكون أقوى وأقسى من الأولى.
معاناة العالم
بعد مرور ثمانية أشهر على ظهور فيروس كورونا، لا زالت معاناة العالم مع المرض مستمرة مع جهود متواصلة لإيجاد لقاح للوباء.
وفي هذا الشأن، قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، الاثنين 31 أغسطس (آب)، إن المنظمة دعت دول العالم إلى مواصلة قيود العزل المفروضة لمواجهة الفيروس، مضيفاً أن رفع القيود دون السيطرة على الوباء سيكون "وصفةً لكارثة".
وأقر تيدروس بأن كثيراً من الناس ضاقوا ذرعاً بالقيود وينشدون العودة إلى الحياة الطبيعية، وأضاف في مؤتمر صحافي "نريد أن نرى الأطفال يعودون إلى المدارس ويعود الناس إلى أماكن العمل، لكننا نريد أن نرى إنجاز ذلك بأمان".
وتابع "لا يمكن لأي دولة أن تتظاهر بأن الوباء قد انتهى... الحقيقة هي أن هذا الفيروس ينتشر بسهولة. رفع القيود من دون سيطرة هو وصفة لكارثة".
ضرر بالغ
من جهته، توقع محلل الاقتصاد العالمي علي حمودي، أن حدوث موجة ثانية من إصابات فيروس كورونا المستجد سيكون لها ضرر بالغ للغاية على الاقتصاد العالمي إذا قررت الدول العودة لعمليات الإغلاق الواسعة.
وقال حمودي "إن هناك شكوكاً تحوم حول التزام الأفراد إذ سيلتزم الأفراد بقواعد التباعد الاجتماعي إذ حدثت موجة ثانية، كما رأينا في المملكة المتحدة، شوهد المزيد من الأشخاص وهم يخالفون قواعد الإغلاق بمجرد أن بدأ الطقس يزداد تحسناً، حتى في أوائل يوليو (تموز) على الرغم من نصيحة الحكومة بعدم السفر إلا إذا كان ضرورياً، توافد العديد من البريطانيين على الخارج إلى إسبانيا وإيطاليا والبرتغال".
ويرى حمودي أنه بدلاً من أن نرى عمليات إغلاق ثانية واسعة النطاق التي قد تطبقها الحكومات، أعتقد أنه من المحتمل أن يكون هناك إغلاقات انتقائية في بعض البلدان والولايات وقطاعات الاقتصاد، لذلك لا أتوقع أن نرى إغلاقات كاملة للاقتصاد، كما رأينا في مارس (آذار) وأبريل (نيسان) من هذا العام.
ورجح حمودي أن تستمر سياسات البنوك المركزية للإنقاذ إذا لزم الأمر، والشيء الوحيد الذي من المتوقع أن يظل داعماً للاقتصاد هو السياسة النقدية، مضيفاً "من المهم أن نلاحظ أن احتمال حدوث الموجة الثانية يعتمد على مدى سرعة إيجاد لقاح معتمد وفعال، وما إذا كانت أنظمة الرعاية الصحية حول العالم لديها القدرة على التعامل مع تدفق المرضى بكثرة إذا لزم الأمر".
رعب صناع السياسات
وفي هذا الشأن، قال وائل حماد، المدير الإقليمي لشركة "آي سي أم كابيتال"، إنه مع الحديث الدائم عن موجة ثانية للوباء وزيادة احتمالات إعادة إغلاق لاقتصادات الدول من جديد يعود الرعب مرة أخرى ليظهر على وجوه صناع السياسات المالية والنقدية، ولا سيما أنهم لم يستفيقوا بعد من آثار الموجة الأولى، لا بل ولم يكن لديهم الوقت الكافي لإحصاء الخسائر الناجمة عن الإغلاق الأول.
وأضاف حماد "معظم الدول أصبحت تمتلك دراية أكثر عن المرض وخبرة أفضل في التعاطي معه، من حيث الإجراءات الحكومية المتخذة في الأماكن العامة أو من حيث الجهد الطبي المبذول في تطوير القطاع الصحي لرعاية المصابين واتخاذ بروتوكولات علاجية ناجعة لهم وتطوير لقاحات بشكل أسرع، فمن هذا المنظور قد نشهد إجراءات إغلاق محدودة ومدروسة، بحيث تؤدي الغرض المنشود منها من غير تعطيل مفاصل الاقتصاد، حيث إن هذا الأمر يبدو أكثر واقعية من تخيل سيناريوهات قاتمة أخرى تؤدي إلى عواقب يصعب تخيلها".
وأكد حماد أنه لا يختلف أحد على أن التداعيات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية لقيود الإغلاق كإجراء احترازي لمكافحة انتشار الوباء كان ولا زال تحدياً كبيراً يقف في وجه انتعاش الاقتصاد العالمي بالسنوات المقبلة حتى بعد إعادة فتح الكثير من الدول لحركة التجارة والسفر.
وأشار إلى اتجاه العديد من الشركات لتقليص عملياتها أو إغلاقها كلياً، الأمر الذي أدى إلى تسريح ملايين الموظفين والعمال من وظائفهم إضافة للضرر الذي لحق بقطاعات مهمة بعينها كقطاع الطيران والسياحة وقطاع الخدمات الأخرى والتي هي مصدر رئيس لنمو العديد من الاقتصادات، الأمر الذي دعا إلى دق ناقوس الخطر من قبل الجهات المعنية للفتح التدريجي للاقتصاد لتفادي الانهيار.
وذكر حماد أن بعض المنظمات الدولية كمنظمة العمل الدولية ذهبت إلى دعوة حكومات العالم لاستجابات سياسية عاجلة وواسعة النطاق وهادفة لحماية جيل كامل من الشباب من آثار الأزمة على فرص عملهم بشكل دائم، حيث إنها تخشى أن يكون للوباء تأثير مدمر على تعليم وتدريب الشباب وإمداد سوق العمل بالموارد البشرية اللازمة في الوقت الحالي وفي المستقبل.
شتاء صعب
محمد مهدي عبد النبي مستشار أسواق المال العالمية قال، بدروه، إن هناك اتفاقاً بين قادة العالم على عدم تكرار تجربة الإغلاق الكامل حتى في ظل تزايد أعداد الإصابات على أبواب موجة ثانية قد تكون أكثر قسوة في ظل سعي الكثير لكتابة النهاية لوباء كورونا بتخفيف القيود المتبعة طيلة الفترة الماضية، فالمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل تتوقع شتاء صعب إلا أن الانتعاش الاقتصادي قد يجنب بلادها مخاطر الإغلاق الكامل مستقبلاً.
وأشار إلى انتقاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشدة قبل أسبوع النتائج العكسية التي سببها إغلاق الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي، محذراً من إعادتها وتكرار العبث بالحياة اليومية والاقتصادية لملايين العمال في القارة الأوروبية.
وأضاف مهدي أنه مع نهاية وباء كورونا باعتماد لقاح فعال، يجب أن تتفق اقتصاديات الدول الكبرى على تجنب أخطاء ما مضى، بدعم من تململ اجتماعي عالمي من سطوة الوباء على تفاصيل الحياة العامة وإعادة تشكيل الاقتصاد مجدداً، فإن العالم ما زال يتعلم من تجربة كورونا ويطور من أدائه العام في التعامل معها تمهيداً لتجاوزها على المدى القريب.
وأوضح أن تجربة كورونا عبر العالم خلال الستة أشهر نتج عنها خسائر هائلة، فالخسائر البشرية تقارب 900 ألف حالة وفاة حتى الآن، أما الخسائر الاقتصادية، فتتمثل في انكماش نمو الاقتصاد العالمي في خضم الإغلاق العام بسبب كورونا والذي يقدر بسالب 3 في المئة خلال 2020 مقابل سالب 0.1 في المئة فقط جراء الأزمة المالية العالمية 2009 .
كما أكد أن نتائج تلك التجربة كانت قاسية على كل الدول ومتشعبة الأخطاء من الجميع، يبررها عامل المفاجأة الذي كان يمتلكه كورونا، مروراً بافتقاد العالم المعاصر لخبرات التعامل مع وباء بهذا الحجم والانتشار، وصولاً لخلل الأولويات في التركيز والإنفاق المناسبين على الصحة العامة العالمية.
وبين أن تجاوز المبررات السابقة دفع دول العالم لإنفاق نحو 11 تريليون دولار استُثمرت في الإجراءات التحفيزية لمواجهة كورونا، حسب البيان الأخير لصندوق النقد الدولي، لنتساءل أمامها بحق هل باستطاعة الاقتصاد العالمي تحمل أكثر من هذا، خاصة مع طلب أكثر من 100 دولة مساعدات مالية عاجلة من الصندوق.
مخاوف موجودة
محلل أسواق السلع والمعادن النفيسة، جون لوكا، قال من جانبه، إن مخاوف موجة ثانية ما زالت موجودة وتهدد استقرار أسواق الأسهم والأصول بكافة أنواعها، فالفترة التي عاصرت أظهرت تفضيل الأفراد الاحتفاظ بالسيولة وعدم ضخها في ظل حالة من عدم اليقين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح لوكا أن مخاطر موجة ثانية قد تعصف باستقرار أسواق النفط مع انكماش الطلب المتوقع، كما سيؤثر على أسواق الأسهم التي استعادت عافيتها إلى حد ما، وبدأت تحقيق مستويات قياسية لا سيما بالولايات المتحدة الأميركية، مضيفاً "يتوقع زيادة الإقبال على الملاذات الآمنة الأمر الذي سيزيد الطلب على الذهب مما ينعش أسعار الذهب لتجاوز مستويات 2000 دولار للأوقية، ثم إلى 2300 دولار".
ونوه إلى أن النظام المالي العالمي لا يتحمل تقديم برامج تحفيز مالي مثل ما قدمته خلال الجائحة والتي فاقمت أوضاع الديون وزادت مستويات السيولة في الأسواق بشكل يهدد ظهور فقاعة من الديون إذ فشلت الشركات في سداد القروض مع موجة تفش ثانية.
إذ رصدت حكومات دول العالم ما يجاوز 10 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي، عبر سياسات مالية ونقدية، هذا بحسب أحدث تقييم صادر عن إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للأمم المتحدة.
من جهتهم، ذكر المحللون أن الخسائر غير المسبوقة على للاقتصاد العالمي طالت جميع الدول، ومن المتوقع أن تستمر فترة كبيرة لمعالجتها وستختلف الأمور من دول لأخرى حسب ملاءمتها المالية والاحتياطات النقدية التي ستمكنها من الإنفاق على خطط التحول المطلوبة باقتصاد مع بعد كورونا.
وفي هذا الصدد، ذكر أيضاً معهد التمويل، أن أسواق المال ترحب بحزم التحفيز التي تقرها الحكومات، إلا أن التعافي الاقتصادي قد يأتي على حساب الإنتاجية الأقل ومعدلات الدين المرتفعة، مضيفاً أن حزم التحفيز العالمية تقدر بنحو 11 تريليون دولار، وهناك حزم قيد الموافقة قيمتها 5 تريليونات دولار، وأغلب تلك الحوافز تحصل عليها الدول من خلال إصدارها سندات في الأسواق المالية.
فيما قدر محللون أن تتجاوز حزم التحفيز 20 تريليون دولار مع إقبال الاقتصادات الكبرى على إقرار مزيد من برامج التحفيز المالي والنقدي لدعم تعافي الاقتصادات ومع تكشف الأضرار الحقيقة لفيروس كوفيد-19.