الفيضان المأساوي في السودان يستدعي بالتأكيد كل الدعم والمؤازرة، خصوصاً أنه غير مسبوق عبر قرن، وحجم ضحاياه يفوق المائة، كما أن حجم المتضررين يصل إلى نصف مليون نسمة في 17 ولاية سودانية، كما يصل حجم المنازل المهدمة والمتضررة إلى نحو 100 ألف مبنى.
المشاهد والصور التي تداولها الناس على منصات التواصل الاجتماعي عبر العالم كله كانت كفيلة بحشد الدعم الإنساني والإغاثي للسودان وأهله، وإبراز حجم من التعاطف خصوصاً من العالم العربي قد يكون غير مسبوق، وربما يكون قد أزاح في طريقه عادة التراشق التي يمارسها الناس على منصات التواصل وهم أطراف في إقليم مضطرب، اليوم يبدأ انحسار الماء، كما يشهد بذلك الناس في مواقعهم على طول نهر النيل بالسودان، ومع هذا الانحسار ربما يكون من المهم إبداء عدد من الملاحظات بمنطق التقييم ومحاولة الاستفادة من درس فيضان مارسه نهر النيل.
وربما تكون أول هذه الملاحظات أن الفيضان قد أعطى إنذارات مبكرة ومحسوسة قبل أكثر من شهر من حدوثه كان المطلوب الانتباه إليها، منها ارتفاع معدل هطول الأمطار على الهضبة الإثيوبية، وهو ما امتد إلى الأراضي السودانية في ولاية النيل الأزرق، وتسبب ذلك في انهيار سد بوط مما أسفر عن انجراف 600 منزل بالماء وتضرر آلاف الناس وكذلك نفوق ماشية.
هذا الإنذار لم يتم التعامل معه بالقدر المطلوب من الاهتمام من جانب الحكومة السودانية ربما لم تستعد له بالقدر الكافي، صحيح أن الفيضان السوداني هذا العام جاء عنيفاً وغير مسبوق من مئة عام، ولكن سبق وقد شهد السودان فيضانا عام 1988 تسبب أيضاً في خسائر إنسانية ومادية بالجملة، وبالتأكيد لو كانت حالة الطوارئ قد أعلنت من جانب الحكومة قبل الكارثة وليس أثناءها، لو كان تم تنظيم جهود المجتمع المدني بالمشاركة مع الحكومة لإعانة الناس بشكل معد مسبقاً ومخططاً له، ربما كان حجم الخسائر أقل.
وبطبيعة الحال لا تقع كل المسؤولية على الحكومة الانتقالية الحالية، ولكن هي مسؤولية مشتركة لكل الحكومات التي سبقتها، التي كان مطلوباً منها وضع خطط مواجهة الفيضانات، ورصد التمويل اللازم لهذه الخطط بتطهير المصارف وتقوية السدود الصغيرة، وإقامة مخرات للأمطار والسيول، وكذلك الاهتمام بالبنية التحتية بشكل عام، لكان كل ذلك إجمالاً من شأنه أن يخفف من أثر الكارثة الإنسانية الراهنة.
هذا التقاعس التاريخي للحكومات السودانية، ربما يفسره أن البشير رئيس الدولة الذي حكم على مدى ثلاثين عاماً كان يجمع الأموال في منزله بعيداً عن خزينه الدولة، كما خرجت الموارد الطبيعية للسودان كالنفط والذهب من الموازنة العامة لجيوب المتنفذين، وتمويل أمن النظام السياسي على مدى سنوات طويلة، وعلى ذلك فإن فساد النخب السياسية على عهد البشير أحد الأسباب الرئيسة فيما يعانيه السودانيون اليوم بسبب هذا الفيضان.
ولا يبدو لنا أن النخب الديمقراطية بريئة تماماً من التسبب في مآسي السودانيين؛ ذلك أن فيضان 1988 كان في عهد الصادق المهدي، وتسبب بدوره في خسائر كبيرة، وقتها كانت النخب السياسية مشغولة بالصراع السياسي عن تحسين أحوال الناس، وهو مشهد ربما نرى شذرات منه حالياً، ذلك أن الصحافي السوداني محمد إبراهيم قد قارن على صفحته على فيسبوك بين اهتمام الصحافة العربية بفيضان السودان وبين نظيرتها السودانية بشأن الكارثة، وكانت النتيجة لصالح الميديا العربية، حيث اهتمت الميديا السودانية بأخبار كلها متعلقة بالحالة السياسية وتطوراتها، سواء تصريحات المسؤولين أو التطورات الخاصة، وكان ذلك بينما تهدم المنازل ويغرق الناس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبنفسي بحثت عن التحديثات على صفحة قائد الثورة السودانية المجيدة تحالف الحرية والتغيير بفيسبوك أيضاً، وقد وجدت حتى كتابة هذه السطور أن أحدث الأخبار يعود ليوم 1 سبتمبر (أيلول)، والخبر المتصدر هو عن اتفاق جوبا بين الحكومة والجبهة الثورية، كما لم نشهد تحركاً من حزب سياسي سوداني لإغاثة الناس.
وهكذا يثبت السودانيون أن اهتمامهم بالسياسية يفوق أي شيء آخر، وربما هذا ما يفسر كثرة الانتفاضات ضد النظم السلطوية في التاريخ السوداني الحديث، ولكن في المقابل فإن نجاحهم في بناء تحول ديمقراطي مستقر ما زال محل تساؤل، وهو ما يطرح أفكاراً بشأن ضرورة المواءمة بين ضرورات التنمية ومتطلبات الحريات السياسية، وذلك في هيكلة النظام السياسي القادم للسودان، وكذلك دراسة عما إذا كان النظام البرلماني المعمول به تاريخياً في السودان ويتم التمسك به حتى الآن يمكن أن يلبي هذه الضرورات من عدمه لحياة الناس اليومية وأمنهم الإنساني تحت مظلة الصراع الحزبي المعتاد.
الملاحظة الثانية في مسألة الفيضان السوداني هي حجم الدعم الفوري الذي حظي به السودان من محيطه العربي على الصعيد الإغاثي والإنساني، فقد تحركت الجامعة العربية بصندوق إغاثي، وسيرت مصر والإمارات والسعودية جسوراً جوية. في المقابل فإن الاتحاد الأفريقي لم يقدم على القيام بالتحركات المطلوبة لدعم السودان، ولو على مستوى إطلاق النداءات الإغاثية للسودان حول العالم، كما لم تقدم إثيوبيا أي دعم ولو رمزياً للسودان.
الملاحظة الثالثة بشأن الفيضان السوداني أنه قد تم استخدامه في التراشق المرتبط بسد النهضة، خصوصاً على منصات التواصل فمارست الكتائب الإلكترونية المأجورة إطلاق إشاعات بشأن مسؤولية مصر والسد العالي عن الفيضان السوداني بالمخالفة للواقع حيث إن النهر يجري من المرتفع الجنوبي نحو السهل الشمالي وليس العكس، كما تم تداول فكرة أن الملء الأول لسد النهضة مسؤول عن نوع من أنواع جرف الطمي، وهي مسألة بالتأكيد تحتاج دراسة ولا يمكن إطلاقها دون ضوابط.
على المستوى الإيجابي، فإن هناك تطورين إيجابيين؛ الأول أن الفيضان قد كشف عن قدرات الشباب السوداني في الدعم والتنظيم وجلب المساعدات، حيث تحركت قوافل شبابية من الخرطوم نحو الولايات المتضررة وقدموا عوناً ودعماً للناس العزل المحيطة بهم الماء من كل جهة، بينما يحملون أثاثهم البسيط على رؤوسهم، وكان المجتمع المدني السوداني ربما أكثر فاعلية وحيوية من حكومة تنقصها الإمكانيات.
أما التطور الإيجابي الثاني أن الفيضان قد جرف في طريقه ركاماً من التراشق بين أبناء وادي النيل بسبب سد النهضة والاستثمار السياسي فيه من جانب قوى إقليمية مارست بث سمومها بين الشعبين المصري والسوداني من منصات التواصل الاجتماعي، ولكن جاء الفيضان ليقوم من تحت هذا الركام المعدن الذهبي للعلاقات العاطفية بين الشعبين ويدعم المصريين السودانيين على نحو غير مسبوق ويطالبوا لهم بالمساعدة ويستحسنون أداء حكومتهم في تقديم الدعم للسودان، وهو ما وصفه وزير الإعلام السوداني فيصل محمد صالح "نحن مغمورون بمحبة المصريين"، وهو قول صحيح بالتأكيد.
الملاحظة الأخيرة هي أن المأساة الحقيقية المترتبة على الفيضان تبدأ بعد انحسار الماء، إذ سينشط البعوض في المياه الآسنة وترتفع معدلات الملاريا المميتة، وكذلك تنتشر الكوليرا، فضلاً عن احتياجات إعادة الإعمار للمنازل المهدمة والتعويضات المطلوبة كي يستأنف الناس حياتهم.
كل هذه الأمور تتطلب تخطيطاً لتمويل السودان في هذه الملفات الصحية واللوجيستية على مدى طويل نسبياً، وأن يتحول الدعم الإغاثي إلى دعم سياسي لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وبذلك يستطيع الاقتصاد السوداني أن يتأهل لتلبية احتياجات البلاد والناس ولكن ذلك لن يكون إلا بانتباه النخب السياسية السودانية بأن الديمقراطية لها جناحان؛ أحدهما التقدم الاقتصادي والتنموي.