تعود أفغانستان من جديد إلى التداول الإعلامي، وهذه المرة من بوابة المصالحة التي ترعاها واشنطن، وسبق أن استضافت روسيا العام الماضي، منتدى الحوار الأفغاني، وعززت موسكو في الآونة الأخيرة علاقاتها مع حركة طالبان.
ومثلما لواشنطن أهدافها المعلنة وغير المعلنة، وراء مشاركة حركة "طالبان" في مستقبل أفغانستان، تعمل موسكو أيضاً عبر التقارب معها، على منع تنظيم "داعش" من إقامة قاعدة له في أفغانستان، تهدد دول آسيا الوسطى، ولاحقاً روسيا.
صرح زامير كابولوف ممثل روسيا الخاص إلى أفغانستان، نهاية عام 2015، بأن "داعش" هو العدو الأول لروسيا و"طالبان"، وأشار المسؤول الروسي إلى أن "مصلحة طالبان تتوافق مع مصالحنا"، كاشفاً عن وجود قنوات اتصال لتبادل المعلومات مع الحركة.
وبالإضافة إلى تصريحات مبعوث الكرملين الخاص لأفغانستان حول توافق نظرة موسكو و"طالبان" من تمدد "داعش"، أيضاً هناك الموقف المشترك من الطرفين الرافض للوجود الأميركي وحلف شمال الأطلسي في أفغانستان، وتبرر موسكو التقاء مصالحها مع "طالبان" بأن الحركة تنظيم محلي، لا طموحات له بتشكيل دولة خلافة تتمدد إلى دول أخرى، عكس "داعش".
ووفقاً لبعض الإحصاءات، التحق حوالى 7 إلى 10 آلاف من مواطني آسيا الوسطى والقوقاز بتنظيم "داعش"، بالإضافة إلى إمكان تجنيد العديد من الموجودين في روسيا، ما يشكل تحدياً كبيراً لموسكو، وأي خلل أمني في محاربة هذا التنظيم من شأنه أن يشكّل حاضنة ملائمة لهؤلاء العائدين إلى بلدانهم الأصلية.
فإذا تدفق العائدون لأي سبب كان إلى آسيا الوسطى، بإمكان "داعش" أن يفتح جبهة جديدة له هناك، وستكون أفغانستان بوابة هذا التدفق، لا سيما أنه يصعب السيطرة على الحدود بين أفغانستان وهذه البلدان الحبيسة في جغرافيتها البرية حيث لا شواطئ لها على البحار المفتوحة.
تميّز تاريخ معظم جمهوريات آسيا الوسطى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بالعنف العرقي والديني والقمع السياسي، كما تعتبر شعوب هذه الدول من بين أفقر شعوب العالم، فأوزبكستان وتركمانستان من أكثر الجمهوريات انغلاقاً وشمولية في العالم، أما طاجيكستان فقد أمضت عقد التسعينات في خوض حرب أهلية، وشهدت قيرغيزستان ثورتين واضطرابات عرقية، وحدها كازاخستان من بين الدول الخمس، توافدت إليها الاستثمارات الدولية الكبرى في قطاع الطاقة، وبرزت كدولة مستقرة.
وتتخذ غالبية السلطات في آسيا الوسطى إجراءات مشددة للقضاء على التشدد الإسلامي، في ظل غياب الحياة السياسية الديمقراطية، وبعد ظهور تنظيم "داعش"، خطر جديد يلوح على المنطقة تصفه أجهزة الأمن بأنه الأكثر خطورة، في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي.
وحظّرت أوزبكستان إطالة اللحى والملابس الإسلامية، وتدقق قيرغيزستان في اختيار أئمة المساجد والخطباء، أما في طاجيكستان فقد أعلن غول مراد خليموف، قائد القوات الخاصة في الشرطة الطاجيكية، نفسه عضواً في تنظيم "داعش" عام 2016، حيث هاجم الحكومة وروسيا، ويعتبر المراقبون هروب قائد قوة الشرطة الخاصة إلى التنظيم المتطرف دليلاً على أن الوضع ليس مستقراً كما تشير الشواهد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتميز مقاتلو آسيا الوسطى، منذ بداية ظهورهم في أفغانستان، بالمستوى التعليمي العالي، فقد شهد الاتحاد السوفياتي غياب الأمية في شكل شبه كامل، حيث وصلت معدلات القراءة والكتابة إلى 97 بالمئة، وهي الأعلى بين الدول الإسلامية، في مقارنة مع الجارة أفغانستان، والتي لا يتجاوز فيها معدل القراءة والكتابة 30 بالمئة.
وجعلهم هذا الأمر يقفزون إلى مواقع متقدمة وبسرعة في معظم التنظيمات التي انتموا إليها، فهم يملكون المعرفة الكافية لصنع العبوات الناسفة، وهو ما يحتاجه "داعش" وباقي التنظيمات المشابهة، وتفسير الموضوع وببساطة هو أنه تسنّت لهم قراءة الكثير من كتيبات كيفية عمل متفجرات وقنابل لأنهم ليسوا أميين، ووفق دراسة أعدها مركز "يورو آسيا"، فإن مقاتلي آسيا الوسطى بارعون أيضاً في استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، ويستخدمون ذلك لمصلحة "داعش".
يبرع أولئك على وجه الخصوص في استخدام المواقع المعروفة بين المتحدثين باللغة الروسية، وهذا يساعدهم على نشر رسائل "داعش" بين شباب آسيا الوسطى، حيث يتفشى الفقر والهجرة للعمل في روسيا في ظروف سيئة، وتتميز رسائل تلك الجماعات بالجاذبية من الناحية الدينية، وتشير يانا بارتشوك، المتخصصة في شؤون آسيا الوسطى، إلى أن "داعش" تحديداً لا يجذب هؤلاء برسالته الدينية فقط، بل أيضاً بإلاغراءات المادية.
لكن ليس دقيقاً القول أن انضمامهم إلى هذه التنظيمات سببه الدافع المادي فقط، بل استخدام العامل الديني أيضاً، وإلا لشاهدنا المئات وربما الآلاف منهم يقاتلون في صفوف الميليشيات التي تقاتل في جبهات متعددة انفصالية وغيرها.
ويرى بعض الخبراء أن هناك العديد من العوامل والمقومات التي قد تساعد في انتشار "داعش" في بعض دول آسيا الوسطى، خصوصاً أن العديد من التنظيمات والشخصيات المتشددة في المنطقة (كحركة أوزبكستان الإسلامية) قد أعلنت مبايعة التنظيم ودعمه.
ولا يقتصر هذا القلق والخوف من نفوذ "داعش" وامتداده إلى آسيا الوسطى على زعماء هذه الدول وقادتها، بل أخذ القلق ينتاب دول أبعد من آسيا الوسطى، فقد أعربت الولايات المتحدة عن تخوفها من امتداد "داعش" الى الجمهوريات الإسلامية في وسط آسيا.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد كتب على تويتر في 16 شباط (فبراير) عام 2019 أن "واشنطن تطلب من بريطانيا وفرنسا وألمانيا والحلفاء الأوروبيين الآخرين، استعادة أكثر من 800 مقاتل من "داعش" احتجزناهم في سوريا من أجل محاكمتهم"، ولم تستجب الدول الأوروبية لطلب ترمب، ولا تزال دول الاتحاد الأوروبي متشددة في التعامل مع عودة المقاتلين الذي يحملون جنسياتها وينتمون لتنظيمات متطرفة.
ولا يقتصر ملف المقاتلين الأجانب على التنظيمات الدينية المتطرفة، فمنظمة "أنتيفا" التي ألقى ترمب عليها باللوم في أعمال العنف التي اجتاحت عدة مدن في الولايات المتحدة، خلال التظاهرات المنددة بمقتل جورج فلويد، شارك أعضاء منها في القتال إلى جانب الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني داخل الأراضي السورية، وتعود أصول المقاتلين من المنظمة الذين شاركوا بالقتال في سوريا إلى عدة دول أجنبية، وليس فقط الولايات المتحدة. وكان موقع "Rollingstone" نشر عدة مقابلات مع أعضاء من المنظمة عام 2018، أثناء قتالهم في شمال شرق سوريا.
واتهم ترمب، منظمة "أنتيفا" اليسارية بأنها تقف خلف أعمال الشغب والنهب في الولايات المتحدة، مشيراً إلى أنه يعتزم تصنيفها "منظمة إرهابية".
بعد هزيمة "داعش" في العراق وسوريا خلال الأعوام الأخيرة، تتصدر عودة المقاتلين الأجانب الذين انضموا لصفوف التنظيم والتنظيمات المتطرفة الأخرى، مخاوف بلدانهم الأصلية ما يشكل مصدراً للقلق المتزايد من دول الاتحاد الأوروبي، وترجمة التكرار الروسي في أكثر من مناسبة خلال الأشهر الماضية حول "أن عملاً عسكرياً محتملاً في إدلب، سيكون محدوداً ومدروساً" بأنها رسالة إلى الأوروبيين، بحيث أنه لن يتم إعطاء فرصة لتسرب المقاتلين الأجانب والعودة إلى بلدانهم، وخصوصاً أصحاب الجنسيات الأوروبية.