جلس جونسون على المقعد الأمامي في مجلس العموم مغلول اللسان، شارد العينين وفاغر الفم، مواجهاً إهانته المحتومة، إذ لم يملك سوى ذلك النوع الخاص به من الكرامة.
في تلك الأثناء، عمل إد ميليباند على أن يسرد له بهدوء ويفصل أمامه أكاذيبه الواحدة تلو الأخرى، التي أوصلته إلى تلك النقطة. لم يكن بإمكان جونسون فعل أي شيء سوى هز رأسه وإصدار همهمات تمثيلية قصيرة وهامسة من أنفه. وأثناء ذلك، بدأ خداه يرتعشان مثل الكيس المنتفخ لـ"طائر الفرقاطة" الرائع.
ربما علم أن أعمال حياته أوصلته إلى هذه اللحظة، فقد اتبع الشاب بوريس جونسون الكذب في شأن الاتحاد الأوروبي، وجعله طريقة لصنع اسمه قبل 35 سنة، حين عمل مراسلاً لصحيفة "ديلي تلغراف" في بروكسل. وقريباً، سيكون الكذب في شأن الاتحاد الأوروبي الطريقة التي سيخسر بها اسمه.
يكاد لا يهم أنه قبل لحظات، وقف هناك باعتباره رئيس وزراء بلاده، مشيراً بإصبعه إلى الأمام، ومدعياً أن "الاتحاد الأوروبي يعتقد بجدية أن لديه القدرة على تفكيك بلدنا".
لكنهم لا يمتلكون تلك السلطة، وفي الواقع يبدو أن الشخص الوحيد الذي يتمتع بهذه السلطة هو بوريس جونسون، ولربما ضيعها عن طريق الصدفة.
لم يعد كثير من الناس يأخذون تلك الخزعبلات على محمل الجد. وفي الحقيقة يتمثل بيت القصيد في كل هذا بأن مجلس العموم شهد أكثر ليالي "بريكست" فظاعة طوال خمس سنوات بائسة، حينما قدم جونسون تشريعاً فعلياً يضمن ألا يأخذه أي شخص على محمل الجد مرة أخرى.
وهذا الواقع الصريح يكاد لا يحتاج إلى تشبيه، فقبل تسعة أشهر توصل جونسون إلى اتفاق الانسحاب مع الاتحاد الأوروبي، وعمد إلى تطهير حزبه من كل شخص يعارض الاتفاق، ثم دعا إلى انتخابات عامة لضمان تمرير الصفقة والفوز بها بفارق كبير.
والآن يجبر هؤلاء النواب أنفسهم لا على مجرد خرق القانون وحسب، بل على نقض الوعد الذي أجبرهم على قطعه لناخبيهم، بعد أن قرر أن شروط اتفاقه مع الاتحاد الأوروبي لم تعد تعجبه.
وإذا كان علينا إجراء مقارنات فإننا لا نجد كثيراً منها، وكل ما يمكنني التفكير فيه يتمثل في قصة من حفلة وداع عزوبية حضرتها صدفة قبل 15 سنة، حين أصبح العازب مخموراً للغاية، وبدأ يلوم أصدقاءه "المملين" على عودته إلى الفندق بحلول الساعة 10:30 مساء. ولا يزال من غير المعروف تماماً من أين جرى شراء لفافة شريط لاصق، لكن الشيء المؤكد أن العازب المذكور ربط نفسه به احتجاجاً على الأمر وذهب للنوم.
في الصباح، عند استيقاظه مربوطاً بالشريط اللاصق وبطريقة ما بالستائر أيضاً، بدا من الطبيعي أن يلقي اللوم على بقية الحفل بسبب "التمادي في الأمر كثيراً".
هذا حتماً ما وصلنا إليه مع "بريكست"، باستثناء أن العالم هذه المرة هو الذي يراقب، وليس فقط المدير الليلي لفندق "بورتسموث بريمير إن".
لم يطلب من إد ميليباند حتى الإشارة إلى عبثية المناسبة، لكنه فعل ذلك على كل حال، موضحاً بفارغ الصبر كيف أن كل المبررات المختلفة التي قدمت الأسبوع الماضي عن نية الحكومة سن تشريع يسمح بخرق القانون، بدت جميعها متساوية في السخافة.
في الأسبوع الماضي، كتب جونسون مقالاً لصحيفة "تليغراف"، فيما أجرى وزراء آخرون في الحكومة مقابلات صحافية سعياً منهم لشرح كيف أن اتفاق الانسحاب ليس مجرد تهديد بتفكيك المملكة المتحدة، بل يشكل أيضاً تهديداً لاتفاق "الجمعة العظيمة" الذي وقع في 1998 وأنهى الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا الشمالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من المؤسف أن أسبوع الهراء هذا يأتي في ضوء حملة انتخابية شاملة لُخصت في شكل إستراتيجي بقضية واحدة تتعلق بالفضائل الشامخة لتلك "الصفقة الجاهزة"، وكل ما يقال عن إيرلندا الشمالية الآن، ليس مثل ما قيل عنها قبل تسعة أشهر. حينئذ قيل إن الاتفاق يشكل "صفقة عظيمة لإيرلندا الشمالية". والآن يُقال إن الاتحاد الأوروبي يهدد إيرلندا الشمالية بنقص الغذاء.
لكن هل فهمها؟ وهل قرأها حتى؟ للإجابة على كل هذه الأسئلة، لم يستطع جونسون سوى إرخاء كتفيه وإطلاق زفير شديد، كما لو أنه يحاول بطريقة ما أن يبصق لسانه على أرضية مجلس العموم مثل حشوة مستهلكة من التبغ الذي كان يمضغه.
وفي أعقاب صحوة جونسون البائسة، جاء المشتبه فيهم المعتادون البائسون، ووقف بيل كاش على قدميه غاضباً أكثر من أي وقت مضى، لكن تجاه نفسه هذه المرة، إذ لم يكن اتفاق الانسحاب الذي دافع عنه ووقع عليه، سوى محاولة في الواقع من قبل الاتحاد الأوروبي لتحويلنا إلى "قزم تافه ضعيف، ودولة تابعة ومستعبدة اقتصادياً".
في المقابل، اكتمل هذا التحول إلى حد كبير، ولم يكن من فعل الاتحاد الأوروبي. إذ تكشف مشاهدة نائب استمر في البرلمان خمسة عقود، وهو يعوي في الهواء الخانق داخل المجلس حول عواقب أفعاله المباشرة بشكل مطلق والمتوقعة بصورة كبيرة، بل جرى التحذير منها مسبقاً باستمرار، تكشف عن واقع أقرب ما يكون إلى عالم الأقزام، فقد انحدر الرجل الأكثر ضآلة في جيله السياسي إلى تلك النهاية المريرة.
وحضر هناك أيضاً النائب برنارد جنكين الذي شرح بشغف كيف "أن المملكة المتحدة ارتكبت خطأً في توقيع اتفاق الانسحاب،" وأنه لم يبق سوى تمزيقها الآن كي تحترمنا الدول الأخرى.
بطبيعة الحال، لطالما اتجه "بريكست" باستمرار نحو هذا النوع من النهاية، على الرغم من أنه لا أحد منا ربما توقع أن تكون بهذه السريالية. لقد وقف أنصار بريكست في مجلس العموم بعد اكتمال انتصارهم واستعادة سيادتهم، وبدأوا يصبون غباءهم الساحق على الاتحاد الأوروبي، ثم يصرخون بغضب.
وكما حدث، فقد تطلب الأمر من ذلك الأعزب أكثر من عشر سنوات كي يستكمل انحداره ويعترف بالمسؤولية 100 في المئة، لكن هذا لن يحدث بالطبع أبداً مع بريكست. وحتى فترة عشر سنوات تحتاج إلى ذرة من العار كي تبدأ. وفي المقابل فمن الصعب بشكل متزايد رؤية الجمهور يتحرك بمثل هذا البطء كي يتصرف مع الأمر.
© The Independent