كان عمري ست سنوات في عام 1956 عندما قرر والداي العودة إلى أيرلندا من لندن، في أوج انتشار وباء شلل الأطفال في مدينة كورك، على بعد ثلاثين ميلاً من المكان الذي كنا نعيش فيه. حينئذ، اعتقد والدي أننا سنكون بأمان في منزلنا الواقع في أعماق الريف، وقد شجعهما عدم وجود إصابات في البلدة الأقرب إلينا.
وكما هي الحال مع فيروس كورونا، ينتشر فيروس شلل الأطفال من دون أعراض، ما يجعل من الصعب تحديد وجهة ضربته المُقبلة. لذا، دخلنا في حجر صحي، لكنه لم يكن حجراً مُطبقاً لأن والدي كان يتنقل بين كورك ولندن لأغراض العمل.
ولو سأل والداي الأطباء المحليين عن مستوى الخطر الكامن في العودة إلى البلاد، لتم إخبارهما ربما أن 98 إلى 99 في المئة من المصابين بالفيروس لا يعانون أكثر من التهاب الحلق والتعب والصداع والإمساك، وفي بعض الحالات ألم خلف العنق. وكانت أقلية صغيرة فقط سيئة الحظ، ومعظمهم من الأطفال الصغار، هم الذين يصابون بالشلل مدى الحياة أو يموتون.
ولسوء الحظ، كنت أنا وأخي أندرو من بين أولئك القلائل غير المحظوظين. فقد تم تشخيصي وإدخالي إلى المستشفى وكدت أفارق الحياة. وعلى الرغم أنني تعافيت في النهاية، إلا أن عضلات ساقي أصبحت ضعيفة بصفة دائمة وأعاني من عرج واضح.
وفي مدينة كورك، قال مسؤولو الصحة العامة مراراً إنه لا بديل عن ترك الوباء يستنفد نفسه، من خلال ما يسمى الآن بـ"مناعة القطيع". وقد كان الأطباء الأكفاء وأصحاب الخبرة يرفضون عزل مدينة كورك وسكانها عن طريق قطع خطوط السكك الحديدية والطرق المؤدية إلى بقية البلاد. كما لم يروا أي جدوى من إلغاء المباريات الرياضية ومنع إعادة فتح المدارس لأنهم كانوا مقتنعين بأن هذا لن يوقف الفيروس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا الصدد، قال الدكتور جيرالد مكارثي، المسؤول الطبي عن الصحة في المقاطعة إنه "لو كان الأمر بيدي، لن أتخذ أي احتياطات أخرى مفرطة، باستثناء عزل كل حالة تُكتشف في المستشفى على نحو مبكر". وإلى جانب المسؤولين الآخرين عن مكافحة الوباء، احتار من غضب الآباء من مغامرة مسؤولي الصحة العامة على ما يبدو بحياة أطفالهم، حتى لو كانت احتمالات أنهم لن يصابوا بأذى كبيرة.
لكن ما أخفق أولئك المسؤولون المتحمسون في الصحة العامة في فهمه، هو أن الوباء المهدد للحياة مثل شلل الأطفال يُنتج رعباً مطلقاً يجب على أي شخص يدير أزمة تفشي المرض أخذه في الاعتبار. فقد كان الناس في ريف كورك يمشون عبر الحقول بدلاً من سلوك طريق يمر قرب منزل يقطنه شخص مُصاب. ولقد اضطرت الشرطة إلى توصيل الطعام إلى منازل بعض المصابين، مخافة أن يتضوروا جوعاً.
من الناحية الطبية، ربما كان أطباء كورك على حق، لكنهم كانوا ساذجين في افتراض أن السكان الخائفين تماماً لن يتحركوا وسيتركون الوباء ينتشر بينهم من دون مطالبة السلطات ببذل قصارى جهدها لوقف تقدمه. في نهاية المطاف، تجاوز القلق على صحة أسرهم المخاوف المتعقلة بمصلحة "القطيع" أو المجتمع الأوسع.
وبعد مرور أكثر من نصف قرن على وباء كورك، وجدت الحكومة البريطانية ومستشاروها الطبيون أنفسهم في معضلة مماثلة. ومن الواضح أنهم فكروا في التزام "مناعة القطيع" والسير على خطى السويد، لكنهم ابتعدوا عن الفكرة عندما قوبلت برد فعل شعبي سلبي شديد. ففي 13 مارس (آذار)، قبل عشرة أيام من الإقفال العام (الحجر)، قال كبير المسؤولين العلميين السير باتريك فالانس، إن "هدفنا هو بناء درجة معينة من مناعة القطيع بالتزامن مع حماية الفئات الأكثر هشاشة".
وبالطبع، تبين أن حماية الفئات الأكثر هشاشة هو بالضبط ما لم تفعله الحكومة، كما أظهرت الوفيات الجماعية في دور الرعاية. وعلى المنوال نفسه، سرعان ما أنكرت البلدان في جميع أنحاء العالم سعيها لتحقيق "مناعة القطيع،" بعد أن تحولت هذه العبارة مرادفاً للقتل الرحيم تحت رعاية الدولة. وبصرف النظر عن ضحايا دور الرعاية، أشار النقاد إلى أنه بالإضافة إلى الذين فارقوا الحياة، فإن كثيرين سيُصابون بإعاقة دائمة، ناهيك عن غياب أي ضمانة في كل الأحوال على أن الإصابة الجماعية بالعدوى ستحقق مناعة طويلة الأمد.
وتبقى دينامية الأوبئة، من حيث انحسارها وتمددها المميت، معقدة وعصية على التنبؤ، وتشمل أكثر من نسبة ثابتة من الأشخاص المصابين بالمرض.
ومع ذلك، فإنه بعد ستة أشهر من التشهير بـ"مناعة القطيع" في جميع أنحاء العالم بوصفها مماثلة لتسميم الآبار، قد تتبنى بريطانيا في الخفاء أو بشكل تلقائي هذه السياسة.
ويعود هذا التغير المفاجئ الزاحف، (بغض النظر عن مدى قابلية تحقيق "مناعة القطيع") إلى أن سياسة الإغلاق العام البديلة تبدو أكثر فأكثر مثل صفقة فاشلة، تتسبب في دمار اقتصادي مقابل تراجع مؤقت للوباء. وفي الواقع، لا تعرف هذه السياسة نجاحاً سوى في البلدان المنظمة للغاية على مستوى الدولة والمجتمع، كما هو الحال في الصين أو ألمانيا، بحيث يمكن إلى حد كبير العودة للحياة الطبيعية مع كبح حالات انتشار جديدة. ويُساعد على ذلك إذا كانت البلدان عبارة عن جزر، مثل نيوزيلندا وتايوان، لكن هذه الميزة تتلاشى بمجرد استئناف حركة النقل بشكل كامل.
علاوة على ذلك، لا ينجح قمع الفيروس إلا إذا كان القضاء عليه شبه تام وكان هناك نظام فعال للعثور على الحالات الجديدة واختبارها وعزلها. ومن الواضح أن بريطانيا ليست واحدة من الدول التي يمكنها القيام بذلك بنجاح، فقد سببت لنفسها أسوأ السيناريوهات من خلال فرض إغلاق عام كان كافياً لتدمير الاقتصاد، ومع ذلك لا تزال غير قادرة على السيطرة على الفيروس.
وفي الواقع، لم تُستوعب بعد خطورة هذه الكارثة في بريطانيا، لكن مقدار الفشل أصبح لا جدال فيه. وقد أنشأت الحكومة صرحاً هائلاً من الإجراءات وأنظمة الطوارئ، لكن تجاهلها يتم بشكل متزايد، فلا يخضع سوى 18 في المئة من المصابين بأعراض فيروس كورونا للعزل الذاتي، في حين أن 11 في المئة فقط من المخالطين يمتثلون لتعليمات البقاء في المنزل، وفقاً لمسح شمل 32000 شخص قامت بتكليفه وزارة الصحة.
وبعبارة أخرى، أصبحت بريطانيا مثل كثير من البلدان التي أنجزت تقارير حولها في الشرق الأوسط والاتحاد السوفياتي السابق، حيث يلتزم الناس شكلياً فقط بالقواعد الرسمية. ولقد كان محزناً ومخيفاً أيضاً مشاهدة بوريس جونسون أثناء خطابه للأمة يوم الاثنين، وهو يتظاهر بمحاربة الوباء المنتشر من خلال تعديل ساعات العمل في الحانات والمطاعم وتشديد القواعد الخاصة بارتداء الكمامات.
إن الخلل الحقيقي (الذي يستحيل ربما تصحيحه في هذه المرحلة المتأخرة) يكمن في أن الحكومة تعاني من عجز عملياتي مزمن، وعلى خلاف شعارها الناجح في الانتخابات العامة، أصبحت لا تعرف ببساطة كيف تنجز الأمور، لا قضية بريكست ولا غيرها.
ففي محاضرة له الأسبوع الماضي، أشار السكرتير السابق لمجلس الوزراء غوس أودونيل، إلى أن جميع المؤشرات ذات الصلة تُظهر أن أداء حكومة جونسون في التعامل مع الوباء، كان أسوأ بكثير من أداء الحكومات الأخرى في الاتحاد الأوروبي. وتزيد الوفيات الإضافية المسجلة في بريطانيا هذا العام، البالغة 65700، أربعة أضعاف عن ألمانيا، وضعفيْن ونصف عن فرنسا، وتتجاوز عدد الوفيات الإضافية في إيطاليا وإسبانيا. ويقول أودونيل إن الحكومة كانت في "وضع رجال الإطفاء" [تخمد النيران بعد اندلاعها] لمدة طويلة.
لكن في الواقع، كانت في "حالة ذعر"، وبسبب تخبطها وعدم كفاءتها، هناك كثير مما يدعو إلى الذعر.
© The Independent