خلال السنوات الطويلة التي تعاون فيها كورت فايل كموسيقي لامع مع برتولت بريخت كان من الواضح أن شهرة هذا الأخير تطغى تماماً على شهرة زميله الموسيقي وكان فايل راضياً بذلك في أغلب الأحيان بل يعتبر أنه يحقق مكاسب معنوية من خلال ارتباطه بالكاتب الكبير، وإن كان يعرف أنه لا يقل عنه موهبة وحضوراً في فنون القرن العشرين. لكن مشاعر فايل تبدلت حين شاطر بريخت منفاه الأميركي وراحا يعملان معاً من جديد. فلئن ظلت شهرة بريخت طاغية على فايل، راح هذا الأخير يشعر بالمزيد من القهر لا سيما أن عمله مع كتاب آخرين ثبّت مكانته وعزز شهرته ما جعله يتردد في العودة إلى الانضمام إلى الثنائي الذي يجمعه بصاحب "أوبرا القروش الثلاثة". ويقال إن الحسرة ظلت تتآكله حتى نهاية حياته شاعراً بالظلم. ومن هنا كان التساؤل: لو كان فايل حياً في العام 1985 حين صدر أهم ألبوم تكريمي له بعنوان "ضياع بين النجوم" يضم مختارات بديعة من أغانيه الفردية والجماعية بأصوات عدد من كبار مطربي تلك المرحلة، هل كان شعر بأنه قد نال تعويضاً أخيراً؟
تعويض سخيّ من برودواي
مهما يكن، في عام 1985 كان أكثر من ثلث قرن قد مرّ منذ رحيله وكان أضحى جزءاً من التاريخ. ثم إن تعويضاً سخياً كان قد أُسبغ عليه قبل ذلك عبر عدد من مسرحيات موسيقية قُدّمت له في أميركا، التي عاش فيها حتى بعدما عاد بريخت إلى ألمانيا، وتمكنت من أن "تفصله" نهائياً عن بريخت وتبرز اسمه في كل عمل بوصفه مبدعه الأول. ولعل مغناة "سيدة في الظلام" التي قُدمت للمرة الأولى في برودواي عام 1941 وتلألأ فيها اسم فايل أكثر إشعاعاً من اسمي آيرا غرشوين ككاتب للنصوص الغنائية، وموس هارت ككاتب للنص المسرحي، أوصلته إلى تلك الذروة التي كان يشعر دائماً بأنه كان يجب أن يقف عليها وحيداً في أعمال بريختية مثل "ماهاغوني" و"الخطايا السبع الرئيسية" وغيرهما.
هنا في "سيدة في الظلام" كمغناة – وهي تحولت لاحقاً إلى أعمال سينمائية وإذاعية وغير ذلك مرات ومرات -، برز اسم كورت فايل متفرداً كما حال سترافنسكي أو آلبن برغ وغيرهما من كبار ملحني الأوبرا الذين تحمل الأعمال أسماءهم فيما نُسي كاتبوها. ومع ذلك كانت هذه المغناة ترتبط أساساً بتجربة حقيقية عاشها الكاتب موس هارت، وأحب أن يعبر عنها فنياً، جاعلاً في طريقه، للتحليل النفسي الحقيقي، عملاً فنياً كبيراً، وهو ما كان وعد به على أية حال طبيبه النفسي الذي شفاه قبل سنوات من تجارب ومنغصّات عاشها، فكان رضاه عن النتيجة دافعاً لتحويل التجربة إلى مغناة تضج بالحياة، مع فارق أساسي جعل البطولة تذهب إلى امرأة لا إلى رجل.
أغاني تملأ الأحلام
والمرأة هنا هي لايزا إيليوت التي تشغل منصب مديرة التحرير في مجلة للأزياء النسائية تحمل اسم آليور". وتشعر لايزا ذات حقبة بقدر كبير من التعاسة واللاجدوى في حياتها كما في عملها ما يجعلها تلجأ إلى التحليل النفسي تبثه همومها. ولكن بخاصة عبر ثلاث مجموعات من أحلام تُغنى فيها أغنيات جماعية وفردية سوف نكتشف لاحقاً أنها كانت السبيل الأنجع لشفاء لايزا من حالتها. ولعل من الجدير بالذكر أن جزءاً كبيراً من شهرة الممثل والمغني الكوميدي داني كاي اللاحقة والذي يلعب دور البطولة في مواجهة لايزا كمصور للأزياء تتسبب علاقته بها بحالة نفسية، جاءت من غنائه المدهش أغنية عنوانها "تشايكوفسكي" يذكر فيها خلال أقل من 35 ثانية أسماء خمسين من كبار الموسيقيين الروس!
المهم حققت هذه المغناة نجاحاً هائلاً وجعلت اسم كورت فايل في الواجهة ما أشعره بأن جزءاً كبيراً من "كرامته الفنية" قد رُدّ إليه! ودفعه ذلك إلى التجوال مع عروض تالية للمغناة في العديد من المدن الأميركية. وكان من شأنه أن يكرر التجربة في أوروبا لولا أن العمل لم يُقدّم في القارة العجوز إلا بعد سنوات عديدة من موته. والأدهى من ذلك أنه حين اقتُبست المغناة في فيلم من بطولة جنجر روجرز اقتطع منها عدد كبير من الأغنيات كما اقتطع بعض أجزاء الأحلام بينما تحولت أغنية الختام "سفينتي" التي كانت الوحيدة التي تغنى خارج الأحلام، إلى أغنية تنشد في خلفية الأحداث.
مهما يكن من أمر، حقق كورت فايل بهذا العمل حلمه بالشهرة وبالوقوف على القمة، حتى وإن عادت لاحقاً أغنيات "أوبرا القروش الثلاثة" لتُعرف كأغنيات مستقلة يتبارى كثر في غنائها معترفين بالفضل فيها لذلك الموسيقي الطموح الذي حقق خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته ما عجز عن تحقيقه خلال السنوات الأربعين الأولى هو الذي عاش خمسين عاماً بين 1900 و1950.
أمنية لم تتحقق
ولئن كان بريخت قد عاد إلى ألمانيا بعد منفاه، وعاش آخر سنواته في وطنه، فإن فايل لم يقيّض له ذلك، بل مات في منفاه النيويوركي يوم الرابع من نيسان (أبريل) 1950، في وقت كان يقول للمقربين منه إن أمنيته الكبرى هي العودة إلى ألمانيا وتقديم أعماله فيها.
إذاً بعد ذلك أعيد الاعتبار الفني لكورت فايل على أكثر من صعيد، وصار واحداً من كبار موسيقيي القرن العشرين، خصوصاً أنه كان موسيقياً امتزجت لديه الطليعية الألمانية بالحداثة الأميركية بالنزعة التمردية التي نشأت في فيينا أوائل القرن وأنتجت أحلى إبداعات الموسيقى الاثني عشرية، بالجاز الصاخب الآتي من أفريقيا، وأغاني الكاباريه البرلينية.
منذ بداياته عرف كورت فايل بثوريته، فهو المولود في ديشاو في 1900، كان لا يزال يافعاً حين تمرد على أهله وتوجه إلى برلين حيث درس مع الموسيقيين الكبيرين آلبن برغ وأنغلبرت همبردنغ. وخلال العامين 1919 - 1920 قاد الأوركسترا الأوبرالية في ديشاو، ثم تحوّل مرة أخرى إلى برلين حيث تابع دراسته وبدأ يؤلف قطعاً للآلات الوترية، وكانت قطعه الأولى تجريبية وتجريدية. أما الأوبرا الأولى التي لحنها فكانت بعنوان "الأطراف" وهي من فصل واحد أنجزها في 1926. وفي العامين التاليين أنجز عملين أوبراليين آخرين، جعلاه يعتبر مع بول هندميث، أفضل مؤلف أوبرالي شاب في ألمانيا. وكانت تلك هي المرحلة التي التقى فيها ببريخت وبدأ التعاون معه، وكان أول عمل لهما هو "صعود مدينة ماهاغوني وسقوطها" (1927) الذي يسخر من الحياة في مدينة أميركية متخيلة. وفي العام التالي كانت "أوبرا القروش الثلاثة" المأخوذة عن مسرحية للإنكليزي جون غاي، نقلت أحداثها إلى برلين القرن العشرين وفي أوساط الحثالة، وقد كتب لها فايل موسيقى سرعان ما اشتهرت في أوروبا كلها، بل فاقت شهرتها شهرة المؤلف الموسيقي نفسه، خصوصاً أنها سرعان ما ترجمت إلى 11 لغة وتعرف العالم كله على موسيقاها معتبراً أياها موسيقى الحداثة الألمانية نفسها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
راح يكرر نفسه
غير أن الإجماع الذي ساد من حول هذا العمل سرعان ما انفرط بالنسبة لأعمال كورت فايل التالية، حيث بدا وكأنه يكرر نفسه. مهما يكن فإن مشكلات فايل في تلك الآونة لم تكن فنية بحتة، بل كانت سياسية أيضاً، إذ في 1933 اضطر لمبارحة برلين هرباً من اضطهاد النازيين الذين اعتبروا عمله الموسيقي "عملاً منحطاً مؤلفه يهودي منحط".
حين بارح فايل برلين أمضى بضع سنوات بين باريس ولندن، ثم توجه العام 1935 إلى نيويورك حيث كان النجاح الذي حصده كبيراً، عبر العديد من الاستعراضات الأوبرالية التي راح يمزج فيها موسيقاه الألمانية الطليعية بالجاز والحداثة الأميركيين، وكان من أبرز أعماله خلال تلك المرحلة "جوني جونسون" (1936) و"درب الخلود" (1937) إضافة طبعاً إلى "سيدة في الظلام". ومنذ ذلك الحين لم يتوقف فايل عن العمل وكان تعاونه بخاصة مع نصوص لماكسويل أندرسون وموس هارت وآيرا غرشوين شقيق جورج غرشوين. إضافة إلى ذلك، كتب كورت فايل في تلك المرحلة الكثير من الأغاني والأعمال الموسيقية لا سيما كونشرتو للبيانو وسيمفونيتين، لكن هذه الأعمال لم تلفت إليه الانتباه الذي كان قد واكب أعماله الأوبرالية.