تحدٍ جديد يواجهه اللبنانيون الذين يرزحون منذ أكثر من عام تحت عبء أسوأ أزمة اقتصادية ومالية ونقدية على الإطلاق، يكمن في بدء العد العكسي لنفاد احتياطات المصرف المركزي المستخدمة لدعم السلع والمواد الأساسية.
ولم يعد خافياً أن هذا الاحتياطي الذي تدهور من 30 مليار دولار في العام 2019 إلى 19.5 مليار قبل شهرين من نهاية السنة، بات في مستوى حرج جداً بعدما استُنفد في عملية الدعم التي يعوّل عليها اللبنانيون لتخفيف وطأة ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية، غافلين تماماً عن كون هذا الاحتياط يمثل أموالهم المودعة في المصارف، والعالقة فيها منذ بدء أزمة السيولة في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي.
ولن يبقى من مجموع المليارات الـ19 ونصف إلا مليارين ونصف للإنفاق على الدعم، باعتبار أن مجموع 17 ملياراً يشكل الاحتياطي الإلزامي للمصارف لدى المصرف المركزي، ولا يمكن المس به في أي شكل من الأشكال. وبحسب التقديرات المستندة إلى فرضيات الإنفاق في الأشهر الماضية، فإن المبلغ المتبقي لا يكاد يكفي لأكثر من شهرين إذا استمرت وتيرة الدعم على حالها. لذلك يسعى المصرف المركزي إلى إطالة أمد هذه الفترة عبر اعتماد آليات دعم جديدة، تستند في شكل أساسي على تقليص حجم المواد المدعومة، بحيث تقتصر على السلع الأساسية الملحة.
دياب يحذر من "انفجار اجتماعي"
وفي ظل هذه الظروف الصعبة، قال رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، الجمعة، إن أي تحرك لرفع كل الدعم عن سلع أساسية في الوقت الراهن غير مقبول، وسيُحدث "انفجاراً اجتماعياً".
وأكد دياب، الذي استقال قبل شهرين بعد انفجار هائل دمر كثيراً من مناطق بيروت، وفاقم أزمة البلاد الاقتصادية، أن ما جرى إنفاقه على استيراد الأدوية والمواد الغذائية والطحين والمحروقات، بلغ منذ بداية هذا العام نحو أربعة مليارات دولار.
وأوضح أن البنك المركزي والمسؤولين الداعمين لمثل هذا القرار المتعلق بالدعم سيتحملون المسؤولية، مضيفاً "قدرة اللبنانيين على تحمل الألم تترنّح، ولبنان يمر بمرحلة عصيبة، والتجاذبات السياسية والمصالح الحزبية والشخصية كانت ولا تزال تضع أنفسها أولوية على مصير الوطن".
تشكيل الحكومة حاجة مُلحّة
تابع دياب "نقول بالفم الملآن، لا لرفع الدعم عن الدواء والطحين والمحروقات، ويمكن اعتماد قاعدة ترشيد الدعم ليستفيد المحتاجون، وإلغاء الدعم سيؤدي إلى نتائج كارثية، وودائع اللبنانيين يجب أن تعود إليهم، وهذه مسؤولية المصارف ومصرف لبنان والدولة".
وقال "الظروف لا تحتمل مضيعة الوقت، والمطلوب اليوم تشكيل حكومة قادرة على التعامل مع التحديات الكبيرة التي تواجه لبنان، لأن البلد لا يستطيع الانتظار أكثر. ولا يجوز أن يبقى لبنان عالقاً في أزماته، وهناك حاجة ملحة لتشكيل حكومة للتعامل مع تداعيات انفجار مرفأ بيروت".
الصرخة بدأت ترتفع في الدرجة الأولى عند أصحاب المستشفيات، حين قرر المركزي وقف دعم المستلزمات الطبية الذي يشكل حوالي 4 في المئة من مجموع الدعم، وما تعادل قيمته 112 مليون دولار، فيما يشكل دعم الأدوية ما يقارب 13 في المئة وما يعادل 325 مليون دولار. وحذر نقيب أصحاب المستشفيات سليمان هارون من الانعكاسات السلبية لقرار رفع الدعم عن مواد التعقيم، التي تشكل في ظل تفشي وباء كورونا حاجة ملحة للمستشفيات، كاشفاً أن رفع الدعم سيؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار، حينها سيضطر المريض إلى تحمل فارق السعر، نظراً للأوضاع المالية السيئة التي تمر بها المستشفيات.
ما هو الدعم وماذا يطال؟
وقبل الدخول في آليات رفع الدعم، لا بد من التذكير بالمواد التي يطالها والخلفيات وراء إقرارها. فمسألة دعم السلع الأساسية الثلاث المتمثلة في الدواء والقمح والمحروقات ليست جديدة، وتدخل ضمن سياسة الحكومات المتعاقبة، وينفذ المصرف المركزي القرارات الحكومية. لكن رزمة الدعم توسعت هذه السنة مع الارتفاع الكبير لسعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية، واقترحت وزارة الاقتصاد توسيع الدعم ليشمل سلة أكبر من المواد الغذائية والاستهلاكية والخدماتية تصل لـ300 سلعة. لكن ما حصل هو أن هذا الدعم لم يصل إلى الشرائح المحتاجة، إذ عمد التجار إما إلى تخزينه وبيعه بأسعار أعلى مستغلين الدعم، وإما إلى تهريبه إلى سوريا. وهذا المسار مضى عليه أكثر من خمسة أشهر، خصوصاً بالنسبة إلى التهريب الذي بدأ مع الدولار النقدي، واستُكمل مع المحروقات والمواد الاستهلاكية والغذائية الأخرى.
2.6 مليار سنوياً للدعم
تُقدّر الأموال المنفقة على الدعم سنوياً بـ2.6 مليار دولار، علماً أن المصرف المركزي ينفق سنوياً حوالى عشرة مليارات دولار ما بين تمويل الاستيراد ودعم الليرة ضد المضاربات. ويشكل الفيول حصة الأسد من الدعم، إذ بلغت فاتورته 1.3 مليار دولار، ما يقارب الملياري دولار سنوياً على أقل تقدير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويدعم المصرف المركزي السلع الأساسية (الدواء والمحروقات والقمح) على سعر 1500 ليرة مقابل الدولار، فيما يدعم السلة الباقية على أساس 3900 ليرة للدولار. وقد تبين أن أكثر المستفيدين من هذا الدعم هم التجار على حساب اللبنانيين. من هنا، بدأ التفكير الجدي بإعادة النظر في آليات الدعم من قبل المركزي، لتمديد آجال الاستفادة للمواطنين والحد من جشع التجار.
آليات الدعم الجديدة
عليه، فإن آليات الدعم الجديدة التي سيعتمدها المركزي كما كشفت مصادره ترتكز على التالي:
-إعادة النظر في سلة المواد المدعومة الـ 300 تمهيداً لتقليص عددها، بحيث تقتصر فعلياً على المواد الملحة، بعدما تبين أن السلة تتضمن مواد من الكماليات التي لا تحتاج إلى الدعم (كالكاجو مثلاً). وكانت هذه المواد أدخلت في السلة إرضاءً لتجار من أصحاب النفوذ والعلاقات الجيدة مع أركان السلطة.
-الاستمرار في دعم السلع الأساسية وفق السعر الرسمي حتى نهاية السنة، وذلك في انتظار تشكيل حكومة جديدة تضع خطة اقتصادية في هذا الشأن.
-استمرار الدعم لمادة الفيول بنسبة 90 في المئة، والطحين والمواد الطبية بنسبة 85 في المئة على السعر الرسمي، وإلزام التجار بالدفع نقداً وليس عبر الحسابات المصرفية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى السلة المدعومة بنسبة 100 في المئة على أساس سعر 3900 مقابل الدولار. وفي هذا السياق، صدر تعميم عن المركزي يحدد هذه الآلية لبدء اعتمادها من قبل التجار.
-إعداد البطاقة التموينية التي تخول المستفيدين منها الإفادة من الدعم عبر مبالغ تودع في البطاقة.
التضخم وانفلاش الكتلة النقدية
وإذ تجدد مصادر المصرف المركزي التأكيد أن الدعم هو قرار حكومي ولا علاقة للمصرف المركزي به، بل هو ينفذ سياسة الحكومة عبر وضع الآليات التقنية، من خلال بيع الدولار على أساس السعر الرسمي أو السعر المعدل على المنصة الإلكترونية لزوم السحب وتمويل التجارة، تؤكد أن حاكم المصرف المركزي لا يخفي قلقه من ارتفاع التضخم إلى نسب غير مسبوقة، كذلك انفلاش كتلة النقد بالليرة، التي بلغت منذ مطلع السنة الحالية وحتى مطلع أكتوبر (تشرين الأول) حوالي 13 ألف مليار ليرة، أي بزيادة بلغت نسبتها 125 في المئة، بينما بلغت الأموال المتداولة بالليرة 23 ألف مليار ليرة مقابل 5800 مليار ليرة للعام الماضي. وهذا ما يدل على الانفلاش الكبير للكتلة النقدية بالليرة، الذي يهدد بمزيد من الانهيار العملة الوطنية مقابل الدولار، خصوصاً وأن هذه الكتلة في التداول تستعمل لشراء الدولار ليس بهدف المضاربة على الليرة وإنما تحسباً لمرحلة ما بعد رفع الدعم، حيث ينتظر أن يقفز الدولار قفزات جنونية من دون أي رادع ما لم تدخل البلاد في مرحلة تشكيل حكومة، ووضع برنامج مع صندوق النقد الدولي، يعيد ثقة الأسواق المحلية والخارجية. ذلك أن أي قرار برفع الدعم ما لم يكن مقروناً بإجراءات رقابية احترازية، ستكون له عواقب تضخمية خطيرة في السوق.
ويرمي المصرف المركزي من وراء تعميمه الأخير إلى لمٓ الكتلة النقدية بالليرة من السوق. ويلاحظ من الإجراءات التي يتخذها المركزي أنه يعمل على شراء الوقت وضمان الاستقرار في حده الأدنى، في انتظار تشكيل حكومة جديدة قادرة على استعادة الثقة والإعداد لبرنامج اقتصادي، يخرج البلاد من أزمتها ويؤمن دخول الأموال من الخارج.