أمام لبنان بضعة أيام كي يتبين ما إذا كان الحجر الذي رماه زعيم تيار "المستقبل" رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في المياه الراكدة، لتأليف الحكومة اللبنانية برئاسته، سيؤدي غرضه، فيخرج البلد من الفراغ الحكومي القاتل، ويعيد إحياء المبادرة الفرنسية لمساعدة لبنان على إعادة إعمار بيروت وتجنب الانهيار المالي الكامل، الذي بدأت تباشيره تظهر نتيجة قرب نفاذ احتياطي مصرف لبنان المركزي بالدولار الأميركي، الذي يستخدم لدعم استيراد سلع أساسية، لتغطية الانخفاض الدراماتيكي لسعر العملة اللبنانية.
فالاستشارات النيابية لتسمية الرئيس المكلف، حدد رئيس الجمهورية ميشال عون موعدها الخميس في 15 أكتوبر (تشرين الأول)، في وقت سيجري فيه الحريري اتصالات مع الأفرقاء المعنيين حول استعداده لترؤس حكومة على أساس المبادرة الفرنسية. وانشغل فريقه في رصد ردود الفعل على العرض الذي قدمه على أن يطلق مشاوراته مطلع الأسبوع.
فتح الحريري باب ترؤسه الحكومة الجديدة مرة أخرى، بعدما كان قراره عدم الترشح للمهمة، والامتناع عن تسمية مرشح جديد بالاشتراك مع رؤساء الحكومة السابقين، أسوة بما حصل حين سمى السفير مصطفى أديب في 31 أغسطس (آب) الماضي، ثم اعتذر نتيجة إصرار "حزب الله" وحركة "أمل" على تسمية وزير المال والوزيرين الشيعيين الآخرين، عن تأليف الحكومة بعد 27 يوماً على تكليفه.
تعويم مباردة ماكرون بعد نسف نصر الله برنامج الإصلاح
البحث عن جواب عما إذا كانت مبادرة الحريري ستفتح كوة في الجدار يبدأ من أسباب تعديل موقفه السابق، الذي كانت مصادره تسربه نقلاً عنه (عدم الترشح أو تسمية رئيس مكلف) بعد اعتذار مصطفى أديب، وما يعتبره إفشال "الثنائي الشيعي" مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون. وتقول مصادر الحريري إنه صحيح القول إنه لم يكن في أجواء الترشح أو تسمية مرشح جديد، لكنه كما قال في مقابلته التلفزيونية ليل الخميس 8 أكتوبر، إنه مرشح طبيعي ودائم للرئاسة الثالثة "من دون جميلة أحد"، باعتباره زعيم تيار سياسي كبير وكتلة نيابية كبيرة، ورئيساً سابقاً للحكومة.
ويختصر مصدر قريب من الحريري تفسير ما أقدم عليه بالقول لـ"اندبندنت عربية" إنه فعلياً "إعادة ترشيح مبادرة الرئيس ماكرون للانطلاق مجدداً بعد الانتكاسة التي منيت بها، جراء اعتذار أديب بسبب شروط (الثنائي الشيعي) على شكلها ومخالفة أمين عام (حزب الله) حسن نصر الله الاتفاق بين الأفرقاء السياسيين مع ماكرون خلال زيارته بيروت بداية سبتمبر (أيلول) الماضي، على برنامجها الإصلاحي فقام بنسف هذا البرنامج المفصل في خطابه الأخير قبل عشرة أيام".
العودة إلى الشقين السياسي والإصلاحي للمبادرة
يكرر المصدر ما ذكره الحريري في مقابلته التلفزيونية، بأنه بعد اعتذار أديب وإعلان ماكرون في 27 سبتمبر الماضي، أنه يترك للأفرقاء اللبنانيين أن يبادروا إلى مخارج من الجمود محملاً بعضهم تباعاً، مسؤولية "خيانة" الاتفاق معه، "حزب الله" و"حركة أمل" والحريري الذي عاد فقال إنه صحح موقفه (بقبوله تولي وزير شيعي حقيبة المال لمرة واحدة)، لم يحصل أي حوار بين هؤلاء الأفرقاء، ولم يتحادث أحد مع أحد، وهذا لا يجوز في وقت البلد فيه في قلب الانهيار. ويشير المصدر إلى أن الحريري وجد أن لا بد من تحريك الجمود، فأبدى الاستعداد من أجل تولي المسؤولية على قاعدة الإفادة من شقي المبادرة الفرنسية. الشق السياسي القاضي بتأليف حكومة مصغرة من المستقلين الأخصائيين غير الحزبيين، مع الإبقاء على تنازله باستثناء وزارة المال من المداورة في الحقائب لمرة واحدة، وتسمية الوزير الشيعي من قبل رئيس الحكومة، من أجل تنفيذ الشق الثاني الإصلاحي العاجل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحريري تجاوز التحفظات الخارجية على عودته
هل من تغيير في المواقف الدولية والإقليمية من هوية رئيس الحكومة، دفعت الحريري إلى المجاهرة بترشيحه، على الرغم من ربطه هذا الترشيح بإعادة تأكيد الأفرقاء التزامهم بالبرنامج الإصلاحي، الذي ورد في ورقة ماكرون؟
فما كان شائعاً قبل شهر، ألا حماس أميركي ولا عربي لعودة الحريري إلى رئاسة الحكومة. كما أن الأيام التي سبقت مقابلة الحريري التلفزيونية شهدت اتصالات من باريس، للاستفسار عما إذا كانت القوى السياسية تتشاور حول اسم ما لرئاسة الحكومة. وعلمت "اندبندنت عربية" أنه حين قال بعض السياسيين للمتصلين بهم من قبل معاوني ماكرون، إن رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي أطلق فكرة تأليف حكومة تكنو سياسية، تضم 14 وزيراً من الاختصاصيين وستة وزراء دولة (بلا حقائب لطمأنة القوى السياسية إلى عدم استبعادها وخصوصاً حزب الله)، وأن ميقاتي قد يكون هو المرشح كونه صاحب الفكرة، كان جواب باريس استبعاد أي من رؤساء الحكومات السابقين (الحريري وميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام) بحجة أن الشارع وثوار 17 تشرين يرفضون عودة الطاقم القديم إلى الحكم، باعتباره سبب الأزمة العميقة التي يمر فيها لبنان، لكن الحريري ينفي هذه الاستنتاجات أو المعطيات.
هستيريا رفع الدعم وقرب الانهيار المالي
تعتبر أوساط كتلة "المستقبل" النيابية التي ترصد تعقيدات الوضع اللبناني وامتداداته الخارجية، أن الحريري أقدم على خطوته من دون الاستناد إلى أي تغيير في مواقف الدول المعنية غير المتحمسة لعودته إلى الرئاسة الثالثة، مع أن لكل منها أسبابه. ويرى مراقبون أن زعيم "المستقبل" تجاوز في ما طرحه، المواقف الخارجية، وكان دافعه الوضع المأساوي الذي قد يذهب إليه البلد في المرحلة المقبلة، نتيجة غياب أي دعم مالي من الخارج ينقذه من الانهيار، في حال بقي بلا حكومة، إذ إن هستيريا رفع الدعم عن استيراد المواد الأساسية (دواء وغذاء ومحروقات) بدأت تظهر في الأسواق التي تشهد شحاً في أدوية، وتعاني محطات الوقود تقنيناً في بيع البنزين، وترتفع أسعار مواد أساسية أو يخبئ التجار جزءاً منها في انتظار بيعها بأسعار أعلى حين يرفع الدعم، بما يشبه الفوضى والتآكل التدريجي لانتظام تزود المواطن العادي بيومياته. والسلع الرئيسة يجري تهريبها إلى سوريا من البقاع الشمالي، حيث تحفل مواقع التواصل الاجتماعي بصور الشاحنات التي تسلك المعابر غير الشرعية، ما يزيد استنزاف احتياطي مصرف لبنان بالدولار الأميركي. وفضلاً عن ذلك، يشهد لبنان ظواهر محزنة مثل تسبب الفقر بموجة هجرة غير شرعية في أوساط الفقراء، لا سيما في مدينة طرابلس الشمالية ومحيطها المُعدم، لعائلات في قوارب الموت إلى قبرص، فيقضي أطفال وشبان في البحر نتيجة الأمواج العالية.
مظاهر السلاح ودعوات التقسيم والحرب الطائفية الباردة
يشدد بعض محيط الحريري، وحتى بعض المراقبين الحياديين الذين استحسنوا ما قاله في مقابلته التلفزيونية، على أن التردي الاقتصادي الاجتماعي وسط عجز الدولة وغياب حكومة فاعلة تنقذ الوضع، أخذ يشهد تحللاً للدولة، بحيث يزداد ظهور السلاح هنا وهناك، سواء لأسباب سياسية، أو لأسباب تتعلق بفلتان المجموعات المسلحة والعشائر، لا سيما في منطقة بعلبك الهرمل للأخذ بالثأر. وهو ما دفع الحريري إلى التحذير من حرب أهلية في البلد، ومن دعوات إلى الفيدرالية والتقسيم.
وفي هذا السياق يشير سياسي بارز إلى أن هناك حرباً طائفية باردة في البلد، انطلاقاً من الحساسية السنية - الشيعية، وتصاعد التناقضات المسيحية – الشيعية، خصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس الماضي، الذي أطلق تكهنات عن وجود سلاح أو ذخيرة لـ"حزب الله" فيه، على الرغم من نفي نصر الله ذلك. كما أن الساحة المسيحية تشهد دعوات إلى التقسيم والفيدرالية موجهة ضد الجانب الشيعي، حيث تشهد قاعدة "التيار الوطني الحر" بزعامة مؤسسه رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيسه النائب جبران باسيل، مع أنهما حليفان أساسيان للحزب، مراجعة لمدى صلاحية ما سمي "تفاهم مار مخايل" بين عون ونصر الله عام 2006. ويشحن الموقف المسيحي حيال "الثنائي الشيعي" رفض تكريس وزارة المال له، حيث إن عون والبطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، كانا منسجمين مع موقف الحريري ورؤساء الحكومات السابقين، بالإصرار على المداورة الكاملة في الحقائب وعدم تخصيص أي حقيبة لأي طائفة.
رد حزب "القوات" على الحريري
في انتظار ردود الفعل الجدية على طرح الحريري، الذي انتقد حلفاءه الذين كانوا رفضوا كل لسببه، ترشحه لرئاسة الحكومة، صدر بيان عن "الدائرة الإعلامية" في حزب "القوات اللبنانية" رفضت ما ساقه من مآخذ وفنّدتها، فاعتبرت أن "المحطات التي تعطل فيها عمل الحكومة لم تكن مرتبطة بالخلافات بين (التيار الوطني الحر)، و(القوات اللبنانية) كما حاول أن يوحي الرئيس الحريري، لأن هذه الخلافات كانت تقنية حول ملفات كان في طليعتها ملف الكهرباء". وأعلن أن الحريري وباسيل رفضا إحالة تلزيم الكهرباء على دائرة المناقصات. وذكر حزب "القوات" بأن تفاهم معراب بين "القوات" و"التيار الحر"، تضمن اتفاقاً على تسمية الحريري لرئاسة الحكومة، نافياً ما قاله زعيم "المستقبل" عن أنه كان اتفاق محاصصة، بل نص على الكفاءات في التعيينات، وفق آلية لم يتبناها الحريري. كما رفض البيان اتهام الحريري "القوات" بأنها سبب خياره انتخاب عون للرئاسة. وشدد على أنه كان على الحريري أن "يتذكر نقاط الالتقاء الكثيرة والكبيرة جداً في الطروحات السياسية بين القوات اللبنانية وتيار المستقبل، بدل التلهي بترهات متجزأة على هامش أصل المشكلة".
وقال مصدر في "القوات" إنها تفضل "حكومة مستقلة من رئيسها إلى أعضائها وفي المرتين السابقتين لم نُسمِّ الحريري والأمور لم تتغير".
ارتياح إلى رفض الحرب الأهلية ونظرية "المؤامرة"
كما صدر تعليق من النائب وائل أبو فاعور حول قول الحريري إن رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، طالبه بالقبول بإسناد حقيبة المال إلى وزير شيعي في شكل دائم، مؤكداً أن الأمر التبس على الحريري، وأن جنبلاط اقترح ذلك هذه المرة مع عدم تخصيص حقيبة لطائفة، لكن لم تكن ردة فعل على الموقف من ترشيح الحريري.
وفي حين لم يصدر أي تعليق رسمي من الرئيس عون و"التيار الحر" الذي كان قد رفض ترشيح الحريري سابقاً، كان لافتاً أن الأخير ركز على دعوة "التيار" إلى حسم موقفه، هل سيسير مع مشروع "حزب الله" باستخدام فائض القوة لأهداف خارجية، أم مع مشروعه بإنقاذ لبنان من الانهيار وإعادة إعمار ما تهدم في بيروت بعد انفجار المرفأ، مشيراً إلى تمايز ظهر بين "التيار" وبين "الثنائي الشيعي" حول تأليف الحكومة برئاسة مصطفى أديب. وإذا غيَّر "التيار" توجهاته من الحريري قد يحصل على أكثرية أصوات البرلمان.
وغلب الصمت على موقف "الثنائي الشيعي" حيال العرض الذي قدمه الحريري حول العودة إلى جوهر المبادرة الفرنسية، معتبراً أنها آخر فرصة للبنان، وعلى الرغم من تحميله "حزب الله" مسؤولية إفشالها، فإن تأكيده في رفضه الحرب الأهلية، وأنه يترك العمل السياسي إذا كان هناك قرار يطالبه بحمل السلاح، لقي ارتياحاً في الأوساط الشيعية، خصوصاً أنه شدد على أنه ليست هناك من مؤامرة على "حزب الله"، بل إن المؤامرة هي على الشعب. ومع ذلك، فإن الإعلام المقرب من الحزب ركّز في التعاطي مع طروحات الحريري على أن هدفه هو العودة إلى رئاسة الحكومة.
ويراهن الحريري على تكهنات بأن "الثنائي الشيعي" يراجع موقفه من إحباط مبادرة ماكرون، باعتبار أن أضرار ذلك في غير مصلحة جمهوره مثل كل اللبنانيين، ولأنه لا بدائل عنها.