على بعد أقل من ثلاثة أسابيع على موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، تبدو الولايات المتحدة على موعد مع القدر المشحون بالمخاوف من جراء قراءات استشرافية، وتقديرات موقف مسبقة، جميعها تقود إلى القطع بأن العنف سيكون رفيق درب عملية اختيار الرئيس القادم، بينما البعض الآخر من الأميركيين الأقحاح، إن جاز التعبير، يوقنون بأن احتمالات الصراع والحرب الأهلية في الداخل الأميركي واردة جداً من وراء الأيام المقبلة، وبسبب المواقف الحدية التي تدفع الديمقراطيين والجمهوريين إلى ساحة الوغى الفكري والأيديولوجي، والتي لن تلبث حكماً أن تتحول إلى صدامات على الطرقات الأميركية، ربما شهدنا الأشهر القليلة المنصرمة أمثلة سيئة الذكر منها وعنها، ولم يعد الأمر تنافساً انتخابياً، بل صراعاً يكاد يقضي على الصورة الاتحادية الأميركية...
هل كانت هذه الانتخابات لا بد منها حتى تتحقق تنبؤات عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ في حق الولايات المتحدة؟
تقارير أمنية أميركية مخيفة
ربما لا يكون هنا مجال البحث في أسباب انفجار فقاعة العنف على هذا النحو في الداخل الأميركي، فيما الأهم هو الحالة التي وصل إليها منسوب هذا العنف، وما يمكن أن تقود إليه الأوضاع في البيت المتصدع.
في أوائل شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، أي قبل 50 يوماً من موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، كانت المباحث الاتحادية FBI تعرب عن قلقها من تزايد المواجهات العنيفة بين الفرقاء السياسيين قبيل موعد الانتخابات الرئاسية.
أمام جلسة للكونغرس قال مدير الجهاز "كريستوفر راي"، إن جهازه يراقب توتراً أقوى على الشوارع وبين المجموعات، وهناك من يهاجم المظاهرات لتحويلها إلى ساحة عنف، وأضاف أمام نواب الشعب: "بات لدينا وقود إضافي لإشعال العنف. لدينا مجموعات تتبنى وجهات نظر متعارضة تزيد من خطورة الوضع. لقد رصدنا ذلك في مدن عدة. وهذا أمر يقلقني".
العنف الأميركي يتصاعد بشكل يعيد مخاوف الاحتراب الأهلي بين الأميركيين، وما أعلن، الخميس الماضي، من اتهامات لستة أشخاص كانوا يعدون للإطاحة العنيفة ببعض مسؤولي الحكومة وعناصر إنفاذ القانون في ولاية ميتشيغان، وفي مقدمتهم حاكمة الولاية "غريتش ويتمر"، التي أعدوا لاختطافها أمر يفوق أي تصور. هنا التساؤل: هل كان جو بايدن على حق حين أشار إلى أن هناك "قوى ظلامية" تبث التفرقة بين الأميركيين، وتثير الفزع، وتنشر الكراهية، ما يستنزف الأمة، لا سيما وأنها قوى ماضوية تفرق جمع ما قد التأم شمله، وتبقي الجميع غارقاً في مستنقع الإعاقة؟
من الواضح أن بايدن "الرجل الأنجلو ساكسوني"، قد تبين له بوضوح أعمال المتطرفين لا سيما دعاة تفوق العرق الأبيض، الداعين للانقلاب على الولايات المتحدة التي أرسى قواعد مساواتها إبراهام لنكولن، وناشطو إلغاء الرق، هاربيت تويمن، وفريدريك وغلاس، أي تغيير شكل ومعالم وملامح أميركا التي شكلت ملاذاً ووطناً للجميع بغض النظر عن خلفياتهم.
نتيجة الانتخابات وفتيل الاشتعال
هل ستكون نتيجة الاقتراع المقبل القشة التي ستقصم ظهر الاتحاد الأميركي الذي دام قرابة ثلاثة قرون، وستمثل لحظة الإعلان عن نتيجة انتخابات الرئاسة الأميركية مهما كان شأنها، فتيل الاشتعال للحريق الكبير؟
مرة جديدة تطفو على السطح تقارير وزارة الأمن الداخلي الأميركية، والتي أشارت في تقريرين أخيرين لها إلى أن تهديدات المتطرفين المحليين المتصلة بالعملية الانتخابية ستزداد على الأرجح في الفترة التي تسبق 3 نوفمبر المقبل.
أحد التقريرين يشير بشكل حاسم إلى أن المتطرفين المحليين من ذوي الأيديولوجيات المختلفة، قد يشكلون تهديداً متزايداً للحكومة والأهداف المتعلقة بالانتخابات في الفترة التي تسبق التصويت.
في هذا الإطار لا يمكن للمرء أن يوفر الرجوع إلى الوراء ولو قليلاً والتوقف عند الاحتجاجات التي اندلعت على مستوى البلاد، بشأن العدالة العرقية ووحشية الشرطة في التعاطي مع المتظاهرين، والصدام العلني بين جماعات اليسار الراديكالي ومجموعات اليمين الأصولي المتطرف.
يكاد المراقب للمشهد يوقن كذلك بأن كلا الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، يقودان البلاد إلى دائرة الصدام لا محالة، إذ تفيد القراءات الأولية، إلى رفض أي منهما الاستعداد للاعتراف بالهزيمة، وفوز الطرف الثاني، الأمر الذي سيجعل الأمر ربما متجاوزاً لقدرات المحكمة العليا على فض النزاع.
خذ إليك على سبيل المثال ما يعتقده الجمهوريون، ففي الليلة الثالثة من مؤتمرهم العام، في أواخر أغسطس (آب) الماضي، خيروا الشعب الأميركي بين ترمب أو الفوضى إذا ما وقع اختيارهم على منافسه الديمقراطي جو بايدن.
في المؤتمر عينه كان مايك بنس نائب ترمب، يعتبر أن انتخاب ترمب لولاية جديدة أمر بالغ الأهمية للحفاظ على القانون والنظام والنجاعة الاقتصادية، ومحذراً من أن بايدن لا يعدو كونه مجرد واجهة لليسار.
لكن الجمهوريين يواجهون أزمة كبرى استدعت تصريحات كبار ركائز الحزب وأعمدته السياسية في البلاد، أزمة يمكن بدورها أن تحيل نهار أميركا إلى قلق، وتجعل من ليلها أرقاً، فالرئيس ترمب يرفض حتى الساعة التعهد بنقل سلمي للسلطة في حال هزيمته، الأمر الذي يثير ردود فعل منددة في المعسكر الديمقراطي عند السياسيين والعقلاء، بينما تدفع التصريحات عينها غلاة التطرف في الحزب الديمقراطي لا سيما حلقات اليسار وجماعات الاشتراكيين الجدد، إلى إعداد وسائل خارجة عن الطروحات السلمية للتعاطي مع الأمر حال حدوثه بالفعل... ما الذي سيتبقى من أميركا الديمقراطية إذن، حال جرت المقادير بمثل هذا السيناريو؟
دماء على هامش الانتخابات
لعل الذين يتابعون تحركات المشهد الأميركي في الأيام والساعات الماضية، يروعهم اعترافات الأميركيين بأن الدماء مقبلة، على هامش الانتخابات، وهي ليست تنبؤات ذاتية تسعى لتحقيق ذاتها بذاتها، بل مقدمات تقود إلى نتائج، ومن بين أصحاب تلك الأصوات يجيء صوت الباحث السياسي الأميركي ستيفن إيبرت، ففي حوار له مع موقع "سفوبودنايا بريسا" الروسي، أشار إلى أنه كان من الطبيعي أن تقوم الأطراف المختلفة في زمن الانتخابات الأميركية، بتشويه سمعة بعضها البعض، غير أن الأمر قد وصل الآن حداً مغايراً، إذ انقسم الأميركيون إلى شعبين من دون أدنى اهتمام بفكرة الحفاظ على حقيقة الشعب الواحد.
اعتاد الأميركيون أن يتلاسن المرشحان، لكن لم يصل المشهد من قبل درجة الأفضليات الأخلاقية والتمايز السياسي المانوي الذي يقوم به كل طرف في مواجهة الطرف الآخر.
يقطع إيبرت بأن الوضع في الأسابيع المقبلة سيكون سيئاً للغاية، وأن أنصار ترمب حال خسارته سوف يخرجون إلى الشوارع.
ولعله من الواضح أن إيبرت ينتمي إلى اليسار، ولهذا يحاول دفع تهمة العنف عن الجماعة المؤدلجة التي ينتمي إليها، بقوله أعضاء اليسار غير مسلحين، بينما اليمينيون عموماً مسلحون جيداً.
هنا تقتضي الحقيقة القول إنه وإن كان أعضاء اليمين متزودين برشاشات نصف آلية، فإن اليسار كذلك لم يفوت الفرصة، وبات جاهزاً على النحو عينه بأدوات مشابهة، ولو لم ترق إلى نفس تسليح الجماعات اليمينية المتطرفة، وهذا ما شاهدناه في تظاهرات الأشهر الفائتة، فقد كان هناك وسط صفوف المعترضين على ترمب من يحمل أسلحة تبدأ بالحجارة وصولاً إلى الرصاص، وقد حاولوا بعنف إشعال ممتلكات للدولة، مما يعني أن العنف ليس حكراً على اليمينيين فقط.
ولعل الناظر لحال الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين، يمكنه أن يصدر حكماً بضمير مستريح حول مستقبل العنف، فقد شهدت البلاد حوادث بين البيض والسود، وأعمال عنف ضد الجاليات المسلمة، كما عادت نيران العداء للسامية لتشتعل من جديد، وبات الرصاص ينهمر على المعابد... هل هي بدايات لحرب أهلية؟
أميركا وحديث الحرب الأهلية
هل المشهد الأميركي الآني وعند لحظة معينة تسخن فيها الرؤوس، يمكن أن يقود إلى فكرة جنونية لم تكن لتخطر على قلب أو عقل أي عاقل خارج الأراضي الأميركية، فضلاً عن أميركي يعيش على ترابها؟
دعونا نتوقف مع عدد من الأصوات التي تناولت إشكالية الحرب الأهلية في الداخل الأميركي، وهي أصوات مختلفة من أميركيين وغيرهم، وإن أجمعوا برمتهم على فكرة واحدة، وهي "الخطر مقبل لا محالة".
يكتب المحلل السياسي الفرنسي "تيري ميسان" والمعروف بمواقفه اليسارية في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي يقول "إنه مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، انقسمت البلاد إلى معسكرين يشتبه كل طرف بالطرف الآخر في التخطيط لانقلاب"...
هل جاءت أنباء ولاية ميتشيغان لتعزز من رؤية "ميسان"، والمتهم من كثيرين بأنه رجل التهويل في الكلام، والترويج لفكرة المؤامرة في كل صوب وحدب؟
مثير جداً الانقسام الداخلي حتى داخل الحزب الواحد، فالجمهوريون ليسوا على قلب رجل واحد، وهناك من يتمنى لترمب الفشل، وإن كان غير قادر على الإفصاح عن مشاعره رسمياً.
والديمقراطيون الذي يتطلعون لهزيمة ترمب، بات جناح أقصى اليسار في داخلهم مهيمناً ومسيطراً، بما يزعج القواعد الحزبية التقليدية، والديمقراطيون والجمهوريون غير الحزبيين من ناحية، والجاكسونيون الذين أصبحوا الأغلبية داخل الحزب الجمهوري من دون أن يشاركوه أيديولوجيته، كلهم يسودهم الشقاق والفراق، وغياب القلب الواحد.
يمكن للمرء أن يحاجج بأن ميسان عدو أيديولوجي على الأقل للولايات المتحدة، ولهذا فإنه لا يمكن أن تؤخذ قراءاته على محمل الجد، لكن ماذا لو كانت هناك أصوات أخرى من عمق الحياة الأكاديمية الأميركية تقول بما ذهب إليه ميسان؟
فريدمان ومخاوف رجل العولمة
عرف العالم برمته وليس الأميركيون فحسب، توماس فريدمان، صحافي "نيويورك تايمز" الأشهر بوصفه داعية العولمة، والمبشر بفجر الزمن النيوليبرالي والأخذ على عاتقه الترويج للنموذج الأميركي في كافة بقاع وأصقاع المسكونة.
في أوائل يونيو (حزيران) الماضي ومن خلال العمود الشهير الذي يكتبه في "نيويورك تايمز"، أشار فريدمان إلى مخاوفه العميقة من المخاطر المحدقة بالولايات المتحدة الأميركية.
يقول فريدمان "نحن نقترب من حرب أهلية ثقافية، وفي هذه المرة نحن لسنا محظوظين لأن أبراهام لنكولن ليس رئيساً"، ويضيف "أنا لست متأكداً من عقد انتخابات حرة نزيهة في نوفمبر المقبل، أو نقل السلطة بطريقة سلمية في يناير (كانون الثاني)، فنحن نقترب من حرب أهلية ثقافية".
يقارن فريدمان بين ترمب ولنكولن، والأخير هو الرجل الذي أعاد توحيد أميركا وجنبها أهوال الانقسام وأنهى تمرد الجنوبيين. كان لنكولن بحسب فريدمان قادراً على الغوص عميقاً في روحه والعثور على كلمات تداوي جراحات الأميركيين، كان يفعل ذلك من غير ضغينة أو حقد على أحد، ومن دون تفرقة أو تمييز، من أجل بناء سلام عادل ودائم بين كل الولايات.
يضعنا فريدمان أمام حقيقة مثيرة لم تكن حاضرة في زمن أبراهام لنكولن وهي وسائط التواصل الاجتماعي لا سيما فيسبوك ورجله مارك زوكربيرغ، وهناك حيث مشاعر الكراهية وعبارات تهييج الجماهير، تحت راية مزيفة من حرية الرأي، يحدث تخريب الديمقراطية الأميركية، مما جعل الباحثين العلميين في أميركا يتحدثون عن أن المصابين بفيروس كورونا المزعجين الموجودين في غرفة مغلقة هم أكثر من ينشرون العدوى، وبنفس السياق فإن أكثر الناس إثارة للبغض وإزعاجاً على الإنترنت هم من أكثر الذين ينشرون الوباء السياسي، لأن نموذج فيسبوك يقود إلى تشجيع ومكافأة الغضب لأنه يؤدي لمشاركة واسعة... هل هناك من الأكاديميين الأميركيين من يوافق فريدمان؟
تشومسكي وتيرتشين... مخاطر اللحظة
قبل ثلاث سنوات كان البروفيسور بيتر تيرتشين، أستاذ علم البيئة والرياضيات في جامعة "كونيتيكت" الأميركية يتوقع أن يكون عام 2020 لحظة مفصلية في تاريخ أميركا معتبراً أنها بداية السقوط... هل كان الرجل رائيا أم متبنياً؟
في الغالب لم يكن هذا أو ذاك، وإنما جاءت قراءته بناء على دراسة التاريخ وتحليل المجتمعات السابقة والتجارب التي مرت بها.
في تقرير عرضته في شهر أغسطس (آب) عام 2017 صحيفة "اندبندنت" البريطانية، نجد أن "تيرتشين" استخدم نماذج رياضية للتنبؤ بأحداث سياسية، أهمها نشوب اضطرابات سياسية بالولايات المتحدة، هذه الاضطرابات ستجلب على أميركا انخفاضاً في مستوى المعيشة، وتردياً للأوضاع الصحية في البلاد، وستصل ذروتها عام 2020".
استخدم "تيرتشين" الرياضيات للتنبؤ بالنشاط البشري الذي كان بين عامي 1500 ق.م، و1500 ب.م، موضحاً أنه من خلال دراسة التاريخ وتحليل المجتمعات الماضية، والمعايير الاجتماعية الحالية، يتبين لنا أن الولايات المتحدة تقترب من ذروة الأزمة، والتي قد تشكل علامة للنهايات، وعلى العالم الاستعداد لاضطرابات سياسية...
هل من صوت آخر له أهميته في داخل المجتمع الأميركي يخطو على درب "تيرتشين"؟
الشاهد الثاني الذي يحدثنا عن أزمة عالمية غالبية أسبابها الولايات المتحدة الأميركية، نعوم تشومسكي، عالم اللغويات والمنظر السياسي الناشط والبالغ من العمر 91 عاماً.
في أواخر سبتمبر الماضي وعبر موقعProgressive International كان الرجل يحذر من أن البشرية تشهد أخطر لحظة في تاريخها بسبب أزمة المناخ، وخطر نشوب حرب نووية، وتصاعد الاستبداد، لكن ماذا عن المشهد الأميركي بالنسبة له؟
تابع تشومسكي نحو 22 انتخاباً رئاسياً في حياته، لم يشعر في أي منها بالمخاوف على أميركا والعالم مثلما يشعر حالياً، لا سيما في ظل رفض ترمب إخلاء البيت الأبيض إذا أعلنت خسارته للانتخابات.
لكن السؤال المثير أيضاً: لماذا لم يتوقف كثيرون عندما يقول ترمب ومساءلة دقة ما يقوله وصحته من عدمه؟
كثير من الأميركيين يعتقدون جازمين أن الدولة الأميركية العميقة تعمل بكل قواها ضد ترمب، ولهذا نجد جماعات مثل "كيو إن"، يدعمون الرجل بكل قوة، حتى وإن أدى الأمر إلى نوع من الصدام المسلح.
لا يخفي تشومسكي توجهاته اليسارية، ولهذا يذهب إلى أن المسألة باتت تتعلق بمن ينبغي للأميركيين التصويت ضده، وهو هنا ترمب، بما يعمق المشهد الثقافي والخلافي، ويفتح المجال لتحقيق قراءة تمثل سيناريو مرعباً بدوره، سيناريو انهيار أميركا لـ"يوهان غالتونغ"... ماذا عن ذلك؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غالتونغ وسيناريو انهيار أميركا
بعد انتخاب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن عام 2000، توقع عالم نرويجي يدعى "يوهان غالتونغ"، أن انهيار الولايات المتحدة الأميركية سيأتي في مدة أقصاها 25 عاماً، مؤكدا أن اختيار بوش الابن تحديداً سيسرع من عملية الانهيار بخمس سنوات، لا سيما وأن تصرفات الرئيس الابن العسكرية والسياسية كان تساعد على ذلك... من غالتونغ أول الأمر؟
إنه عالم الاجتماع النرويجي الشهير المولود في 24 أكتوبر (تشرين الأول) 1930، كما أنه عالم رياضيات في ذات الوقت، والمؤسس الرئيس لمعهد بحوث السلام في أوسلو عام 1954.
وبحسب الموسوعة العالمية "ويكيبيديا"، وضع غالتونغ العديد من النظريات المؤثرة، مثل التمييز الإيجابي والسلبي، العنف الهيكلي، نظريات الصراع وحل النزاعات، مفهوم بناء السلام، كما أسس النظرية البنيوية للإمبريالية، ونظرية الولايات المتحدة بكونها جمهورية وإمبراطورية في ذات الوقت.
كيف يصل غالتونغ إلى توقعاته، وفي المقدمة منها استشرافه لحال ومآل الاتحاد السوفياتي، والذي حدث بالفعل، ناهيك عن قراءات عدة في هذا الإطار الرؤيوي والمستقبلي؟ الجواب المفيد يرجع إلى كون الرجل عالم اجتماع ورياضيات في ذات الوقت، ولهذا فقط طور قبل عدة عقود نظرية "تناقضات وتناقضات التعزيز المتبادل"، والتي يستخدمها في حساباته الأولية، ويعتمد هذا النموذج على مقارنة بين نمو وسقوط عشر إمبراطوريات.
هذا النموذج النظري استخدمه "غالتونغ" عام 1980 لرسم التأثير المتبادل لمختلف التناقضات الاجتماعية داخل الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي جعله يتنبأ بموت الإمبراطورية في غضون عشر سنوات وهو ما حدث بالضبط في ذلك الوقت.
يتطلب فكر "غالتونغ" العميق دراسات معمقة مستقلة لفهم آلية العمل التي ينطلق منها الرجل في رؤيته الاستشرافية العلمية. وفي الحالة الأميركية كان "غالتونغ" قد نشر في عام 2004 قراءة أشار فيها إلى أربعة عشر تناقضاً كفيلة بانهيار الولايات المتحدة وتراجع وسقوط الإمبراطورية الأميركية، هذا بالمقارنة بخمس تناقضات فقط أدت إلى سقوط الاتحاد السوفياتي، وعليه يمكن للقارئ أن يتخيل مقدار الضرر الذي سيلحق بالولايات المتحدة.
انطلق "غالتونغ" في رؤيته لانهيار الإمبراطورية الأميركية من عند غزو العراق عام 2003، ولعل هذا الطرح يجمعه مع المؤرخ الأميركي بول كينيدي، والذي يتحدث عما يسميه "أكلاف فرط الامتداد الإمبراطوري"، كما يرى أن الولايات المتحدة سوف تمر بمرحلة ديكتاتورية فاشية، وهي في طريقها إلى التراجع.
تستوقفنا القراءة الأخيرة، فيما العالمون ببواطن الأمور في الداخل الأميركي يتساءلون عما ستؤول إليه الأوضاع في أعقاب 3 نوفمبر، وهل سيحدث صدام بين النخبة السياسية والقوات المسلحة الأميركية، وليس سراً أن الأخيرة لديها خطط محكمة وإن في ظل الدستور الأميركي لحفظ الاستقرار في البلاد، وإن كلفها ذلك المواجهة المسلحة مع قوات الحرس الوطني، والتي قد يجنح بعضها إلى البعض، ناهيك عن بقية الجماعات اليمينية ذات التسليح عالي المستوى... فهل ستكون هذه حقبة الفاشية التي يخبرنا عنها غالتونغ؟
الخلاصة عند غالتونغ ومن دون اختصار مخل، أنه كلما أصبحت التناقضات أعمق، زاد احتمال حدوث أزمات اجتماعية، الأمر الذي ينذر بالانهيار.
غير أنه يتحتم علينا الإشارة إلى أن ما يتحدث عنه غالتونغ هو نهاية الجمهورية الأميركية، الأمر الذي يعود بنا إلى كتاب رجل استخبارات الظل الأميركي "جورج فريدمان" والمعنون "الإمبراطورية والجمهورية في عالم متغير"، حيث يبقي سؤاله مثيراً للتفكير: هل أميركا إمبراطورية أم جمهورية؟
ستبقى أميركا عند غالتونغ جمهورية، وربما لن تضحى إمبراطورية ثانية، الأمر الذي يوضحه بقوله، الإمبراطورية لا تتشكل فقط من خلال العنف في جميع أنحاء العالم، أي استخدام القوات المسلحة، كما تفعل واشنطن منذ بوش الابن، فالعنف هيكل عابر للحدود، فيما يبقى الهدف من الإمبريالية جعل النخبة في المحيط تؤدي المهمة للمركز. هل بدأت دول المحيط في الناتو على سبيل المثال تتنكر للمركز في واشنطن؟
وفقاً لغالتونغ انهيار الإمبراطورية الأميركية يأتي "عندما ترفض النخبة خوض حروب الولايات المتحدة، وتزهد في الاستفادة من المركز".
الخلاصة عند ابن خلدون
عند عالم الاجتماع العربي الكبير ابن خلدون، تنهار الدول عندما تنهار العصبية المؤسسة لها، والعصبية هي "أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتآلب معهم على أن ينالهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، وقد تعصبوا عليهم إذ تجمعوا على فريق آخر قيل تعصبوا".
هل يمكن إسقاط العصبية في الدول الحديثة على الفكرة المؤسسة للدولة؟
قطعاً نعم، وقد كان هذا الداعي الرئيس لتفكك جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق... فهل حان القدر المقدور في الزمن المنظور مع الولايات المتحدة؟