قبيل موعد الذكرى السنوية للموجة الثانية من انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) العراقية، أصدر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أمراً ديوانياً بتشكيل لجنة عليا لتقصي الحقائق عن أحداث العنف التي رافقت الاحتجاجات منذ انطلاقها مطلع أكتوبر 2019.
وبحسب نص الأمر الديواني، ترتبط اللجنة بمكتب رئيس الوزراء، وتتألف من قضاة متقاعدين وخبراء قانونيين لم تعلن أسماؤهم حتى الآن، ولعل اللافت في الأمر أنه نص على أن اللجنة مخولة بالاستعانة بخبراء دوليين ومحليين لإنجاز أعمالها.
لا كبير أمام القانون
في غضون ذلك، قال الكاظمي إن "تشكيل اللجنة يمثل إعادة لولادة قيم الدولة الساعية إلى العدل والإنصاف، والتي تتعامل بمسؤولية مع حقوق شعبها"، وأن تشكيلها "لا يهدف إلى الثأر أو الانتقام، بقدر ما يمثل موقفاً مسؤولاً من الدولة أمام دماء شعبها، وإن من تورط بدم العراقيين لابد أن يمثل للعدالة، ولا كبير أمام القانون، وعلى المستهترين بأرواح العراقيين أن يتقوا غضبة الحليم إذا غضب".
ولفت إلى أنه حمل أمانة المسؤولية، وهي حفظ العراق وسلامته ووحدته، وأن "من يتعرض لسمعة العراق وعلاقاته الدولية فعليه أن يراجع نفسه، فالثقة بالأجهزة الأمنية استعادة دورها بحسب الاختصاص القانوني، وسنلاحق كل متجاوز على أمن العراق". مشيراً إلى أن "الحكومة طبقت أغلب مفردات منهاجها الوزاري خلال خمسة أشهر فقط، واليوم نطلق لجنة تقصي الحقائق كجزء من هذا المنهاج".
مسألة حساسة
ويبدو أن فتح التحقيقات في مثل هذه القضايا يمثل "مسألة حساسة" بالنسبة لجميع القوى السياسية، حتى غير المتورطة في عمليات قمع المحتجين، بحسب أستاذ العلوم السياسية إياد العنبر، الذي يشير إلى أن أية إدانة للقائد العام السابق للقوات المسلحة عادل عبدالمهدي، أو قيادات أمنية وسياسية رفيعة في هذا الملف، يمثل "باكورة فتح ملفات أخرى بالغة الحساسية، تهدد وجود القوى السياسية، ومن بينها ملف سقوط الموصل وحوادث أخرى، فضلاً عن ملفات فساد"، مبيناً أن "المنظومة السياسية ستمثل العائق الأكبر أمام اللجنة".
وبالرغم من اعتقاد العنبر أن غالبية اللجان المشكلة تمثل بوابة تسويات سياسية، يعتقد أن أحد أبرز الإشكالات الأخرى أمام إمكان أن تفضي اللجنة إلى نتائج حقيقية، هو "رهان حكومة الكاظمي المستمر على الوقت، واتخاذها استراتيجية الهرب إلى الأمام في مقابل أي أزمة"، لافتاً إلى أن "جميع قرارات الحكومة وإصلاحاتها تشير بشكل مباشر إلى احتياجها إلى وقت طويل، ابتداء من ورقة الإصلاحات الاقتصادية، ومروراً بتحديد موعد اعتباطي للانتخابات، وليس انتهاء بهذه اللجنة".
ويضيف في تصريحاته أن "الكاظمي يحاول أن يروج لمنجز من خلال تشكيل اللجنة فقط، وليس خروجها بنتائج"، مؤكداً أن "حسم هذا الملف يتطلب وقتاً طويلاً، وسيلقى على عاتق الحكومة المقبلة التي قد لا تضعه ضمن أولوياتها".
ويلفت العنبر إلى أن "كل تلك العوامل لا تعطي انطباعاً إيجابياً في شأن اللجنة، إذ كان على الحكومة تشكيل محكمة جنائية خاصة بالتنسيق مع مجلس القضاء الأعلى تتابع تلك الملفات، وما عدا ذلك فستكون كبقية اللجان السابقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استراتيجية متأنية وصدام حتمي
وبالرغم من حديث التسويات المتكرر إزاء أية لجنة حكومية للتحقيقات، إلا أن باحثين يرون أن الكاظمي يحاول بشكل متأنٍ تفكيك منظومة الفصائل المسلحة والجهات السياسية الداعمة لها، وجمع ما يكفي من "أدلة الإدانة" قبل الشروع في مواجهة مباشرة.
ويستبعد رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث منقذ داغر، أن تمثل اللجنة "بوابة تسوية لمصالح سياسية"، مضيفاً أن "استراتيجية الكاظمي في المرحلة الحالية تعتمد جمع الأدلة وتأجيل الصدام مع تلك الأطراف، لحين ترميم أدواته السياسية والعسكرية".
ولا يعتقد داغر أن يكون سياق عمل اللجنة مغايراً لـ "اللجان السابقة من حيث عدم استهدافها لشخصيات وازنة، سواء كانت سياسية أم تنتمي لمنظومة الجماعات المسلحة"، مبيناً أن ما يمنع ذلك هو "عدم ضمان نتائج المواجهة مع تلك الأطراف في المرحلة الحالية".
ويوضح أن "الكاظمي يحاول في الوقت الراهن جمع أكبر قدر ممكن من الأدلة، والعمل على نزع الشرعية من الجماعات المسلحة وداعميها السياسيين". وفيما يلفت إلى أنه نجح إلى حد ما في "نزع القوة الناعمة للجماعات المسلحة، وكسر شرعيتها على المستوى السياسي والشعبي"، يشير إلى أن "تلك الاستراتيجية تمثل نقطة انطلاق في المواجهة الحتمية مع الجماعات المتورطة في قتل العراقيين".
ويختم، "الكاظمي يعمل في سياق تمكين الدولة والحصول على تأييد شعبي، فالإحصاءات تبين نسبة غير مسبوقة ومتنوعة الأطياف للتأييد الشعبي لرئيس الوزراء، مما سيمكنه من بناء تحالف سياسي قوي".
"تسوية مع الجمهور الغاضب"
ومع عدم إطاحة اللجان التحقيقية السابقة بمتورطين كبار سواء في قضايا الفساد أو القتل، إلا أن تلك اللجنة ربما ستثير المخاوف داخل الأجهزة الأمنية، وتمنع القيادات الأمنية من القيام بأية انتهاكات مستقبلية، بحسب مراقبين.
ويشير المهتمون إلى أن توقيت الأمر الديواني المتزامن مع ذكرى الموجة الثانية للانتفاضة العراقية، يعطي انطباعاً بكونها محاولة "تسوية مع الجمهور الغاضب"، إذ يقول الصحافي العراقي أحمد حسين، إن "تلك الخطوة تأتي ضمن خطوات عدة انتهجها الكاظمي خلال الفترة الماضية، تصب في إطار الترويج الانتخابي المبكر".
ولعل ما يجعل تلك اللجنة غير مقنعة لناشطي الانتفاضة، بحسب حسين، هو "فشل سابقاتها في الإطاحة بشخصيات سياسية وازنة"، مبيناً أنها ستكون امتداداً للجان التحقيق السابقة في قضايا أخرى كمكافحة الفساد، من جهة استهدافها "شخصيات وسطية".
"قتلة واضحون"
أما في إطار ناشطي الانتفاضة، فيبدو أن أية تحقيقات لن تكون مقنعة من دون توجيه اتهامات صريحة بقتل المحتجين إلى رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي.
في السياق، يقول الناشط علي رياض إن "الجهات الرئيسة المتورطة بقتل المحتجين واضحة، ابتداء من رئيس الوزراء السابق وقواته الأمنية، مروراً بالقناص الذي قتل 38 متظاهراً في وضح النهار بتواطؤ حكومي واضح، فضلاً عن فصائل مسلحة بعضها أعلن بشكل صريح مسؤوليته عن قتل المتظاهرين". مضيفاً، "نحن إزاء قضية إعدام تشارك فيها سياسيون وقادة عسكريون بقصد واضح، كما وثقت كاميرات المحتجين في فترة الانتفاضة".
واعتبر أن "أية لجنة لا توجه اتهامات مباشرة لشخصيات وازنة ابتداء من عبدالمهدي، فلن تكون مقنعة للمحتجين"، مشيراً إلى أنه "لا يمكننا السماح بوضع دماء المحتجين على طاولة مفاوضات سياسية".
ويلفت إلى أن "أية نتائج مغايرة لطموح المحتجين بالقصاص الكامل من جميع المتورطين، ستؤدي إلى ثورة أكبر بكثير من السابقة"، مبيناً أن "المحتجين لن يسمحوا بأن تكون اللجنة بوابة براءة للمتورطين الكبار في دماء العراقيين".
واستشهد بأن تقرير لمنظمة العفو الدولية مطلع 2020، "مثّل خريطة حية تظهر تعمد عناصر مكافحة الشغب إعدام المتظاهرين، من خلال خلق خط وهمي في ساحات الاحتجاج لا يمكن تجاوزه".