لا أظن أن التاريخ سيعالج مسألة بدء محاكمة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي باعتبارها قضية فساد سياسي عادية، فقد وجّه الادعاء اتهاماً إلى الرجل بأنه شكّل "عصابة إجرامية"، وحصل على "رشوة مالية ضخمة" من الرئيس الليبي معمر القذافي، لتوظيفها في حملته للانتخابات الرئاسية.
والمتوقع أنه كلما تأكدت الإدانة فإن ملفاً آخر سيجري إبرازه، وهو قيادة ساركوزي وفرنسا حملة الناتو لإطاحة القذافي. فكما هو معروف قادت باريس حملة سياسية وإعلامية ضخمة من أجل إطاحة الرئيس الليبي الراحل، واتهمته بالإبادة الجماعية لشعبه.
تقاليد السياسة الخارجية الفرنسية
خلال حملة الناتو التي دمرت تماسك الجيش الليبي، اتهم القذافي الرئيس الفرنسي بالخيانة. وتسربت تكهنات إعلامية آنذاك أن ثمة أموراً مريبة أو مخالفة للقانون بين الرجلين، بل تحدثت أوساط إعلامية عن معلومات مخابراتية عديدة عن تورط سابق للرئيس الفرنسي في الحصول على تمويل ليبي.
لكن، صوت العنف كان أعلى، وكانت الساحة تضج بأفكار مضطربة وغموض حول التغيير، ولم يتوقف أحد إلا قلة تناقش مصالح الجانب الفرنسي والغربي في هذا التدخل، وحتى من فعل ذلك كان على استحياء، فالتيار الساحق يسير في اتجاه توهّم آمالاً عريضة في ما يتعلق بمستقبل المنطقة.
ومنذ أسابيع قليلة، ناقشتُ هنا تقاليد السياسة الخارجية الفرنسية، التي تتحرك وتبدو في أغلب الوقت أقوى كثيراً من قدراتها الحقيقية على التأثير، وهنا كنت وما زلت أعتبر هذا من مزايا ومهارة هذه الدبلوماسية ونجاحها في أن تستمر في التأثير والنفوذ بشكل أكبر من قدراتها.
ورغم أن غالبية مبادراتها لا تحقق شيئاً في معظم الوقت، أو تنتج كيانات أو مؤسسات شكلية لا تتناسب مع الضجة التي أحدثتها في البداية، والأمثلة كثيرة، أشهرها منذ سنوات الاتحاد من أجل المتوسط، وأخيراً الأزمة اللبنانية، ومع ذلك يحقق كل هذا حضوراً ما في الساحة الدولية، يجعلها ما زالت مختلفة عن غالبية الدول الأوروبية الأخرى، التي تحولت إلى قوى متوسطة وصغيرة دولياً بشكل متصاعد، ربما باستثناء ألمانيا التي ما زالت تحمل إمكانات تأثير متزايدة، وإن كانت لا تزال قيد التبلور.
ونعود إلى قضيتنا الرئيسة، وكيف أنها ليست فساداً سياسياً عادياً، وكيف يأخذنا هذا إلى مناقشة أزمة بالغة الأهمية، وهي أسباب تخبط وإخفاق الحراك السياسي، الذي شهدته المنطقة في ضوء مسألة ساركوزي. والمعروف أن تدخل الناتو أدى إلى تدمير شديد لقدرات الجيش الليبي، وامتد إلى عدد من منشآت الدولة، وانحاز هذا التدخل العسكري إلى دعم ميليشيات التطرف، ثم زاد الطين بلة بعد سقوط النظام، واغتيال القذافي، إلى الانسحاب وترك الميليشيات تسيطر على الساحة، لتكمل هدم مؤسسات وكيان الدولة، وجرى التعامل مع الجيش الليبي وكأنه من الأعداء المتهمين بالخيانة من دون أي أدلة، وتركت الأمور للفوضى والانهيار من دون أي محاولة جادة لوقف هذا التدهور.
والقول بأن هذا التدخل الفرنسي الأطلنطي كانت مهمته بعد التخلص من النظام، ترك الشعب الليبي ليقرر بإرادته الحرة عملية الإصلاح وبناء الدولة، قول حق يراد به باطل، فقد يكون هذا منطقياً، بل وأخلاقياً لو كانت هناك معارضة منظمة وقوية قادرة على إعادة البناء، بشرط توافر بنية تحتية مؤسسية للدولة الليبية.
لكن، هذه لم تكن أبداً الحال في ليبيا كما هو معروف للعالم كله، ولدى دول شمال المتوسط، خصوصاً فرنسا وإيطاليا، التي كانت دوماً قريبة من الأوضاع الليبية، من باب حرصها على مصالحها السياسية والاقتصادية، بل وتتنافس تاريخياً على هذه المصالح علناً، بل وبتجرؤ شديد.
ازدواجية المعايير
يلزم أيضاً أن نضع في الخلفية أن لفرنسا دوراً معروفاً في صياغة منظومة الفكر التنويري والليبرالي حتى قبل الثورة الفرنسية، وأنها حاولت في صراعها التاريخي مع بريطانيا، الذي كانت كفة الأخيرة فيه هي الراجحة، أن تغازل نضال بعض الشعوب ضد الاحتلال البريطاني بطرح نفسها نصيراً للحق والاستقلال.
من هنا كان دعمها المعروف مثلاً للزعيم مصطفى كامل، وكان دورها أيضاً في فضح تجاوزات بريطانيا في مصر وغيرها، ثم تنكّرت لكل هذا بعد توقيعها اتفاقية سايكس بيكو، التي اقتسمت فيها مع المملكة المتحدة النفوذ في المنطقة العربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن، فرنسا بعد ذلك تورطت خصوصاً في الجزائر وفيتنام بممارسات عنف وضيق أفق، بينما كانت بريطانيا أكثر حصافة وحكمة، ولم تنزلق إلى تلك الأفعال التي أدت إلى هزائم فرنسية أشد قسوة ومهانة في المستعمرتين السابقتين، وهو تقريباً ما تجنبته لندن خلال انسحابها الذي كان أغلبه طوعياً، أو أقل دموية من مستعمراتها السابقة.
إذاً، لا يمكن إنكار أن لفرنسا تاريخاً طويلاً من المعايير المزدوجة، ومن التحالفات الهشة الضيقة الأفق السريعة الزوال، التي تشعر الحلفاء بأنها شريك لا يمكن الاطمئنان إليه.
ومن كل ما سبق، وإذا وضعت كل الخيوط معاً سنجد مجمل تصرفات ساركوزي ليست فقط لا أخلاقية، وتُناقض كل القيم التي طرحتها الادعاءات الفرنسية، بل أكثر من هذا، فهي ضيقة الأفق ولا تستند إلى رؤية متكاملة لبناء النفوذ والمكانة في منطقة وثيقة الصلة بأمن ومصالح فرنسا.
وأهم من كل ذلك يلقي هذا الضوء الحقيقي على أسباب فشل الحراك السياسي في المنطقة، وعدم نضجه واعتماده على الخارج، وأنه قد آن الأوان لأن يدرك هذا الخارج أن طريق الإصلاح يحدث فقط من الداخل عندما يختمر، وأن التدخل القسري لا يعيق الإصلاح فحسب، بل ربما يعيد الأمور إلى مناطق أكثر صعوبة، ويصبح مصدر معاناة للشعوب، خصوصاً أن من تدخل لا يملك الأهلية القانونية والأخلاقية.