ظاهرة تفاقمت بشكل يستفز المارة في الشوارع الكبرى بتونس العاصمة. عشرات الرجال والنساء يفترشون الأرض ليلاً ونهاراً، كأنهم خارج زمن المدينة وحراكها، إذ تحولوا لمنظر عابر لا يختلف عما تعيشه عواصم كثيرة من دول العالم، لكنه يثير كثيراً من الأسئلة المرة عن الواقع الذي وصلته تونس.
لكل مشرد حكاية
عندما تتأمل وجوه المشردين، ترى تفاصيل الألم وقهر الزمن في نظراتهم، ولكل منهم حكاية فيها المرارة والحزن، وعلى الرغم من محاولاتهم التهرب من المسؤولية في ما آلت إليه أوضاعهم، فإن كثيراً منهم قست عليهم الحياة وأجبرتهم على العيش في الشوارع.
في ظلال شجرتين وارفتين وسط شارع الحرية، أحد أكبر شوارع تونس، وعلى مقربة من جامع الفتح، يتقاسم عدد من المشردين المكان، لكل واحد منهم مملكته الخاصة التي لا تتجاوز مساحة فراشه.
حميدة بن محمد إحدى المشردات، تقيم هناك منذ ثلاث سنوات، ظلمتها الحياة مرات ومرات بحسب ما أخبرتنا، فكونها مجهولة النسب فقد عاشت طفولتها بأحد مراكز الرعاية الاجتماعية، وحياتها كانت مأساة متكررة، وبعد أن فقدت عملها في إحدى المؤسسات الصغيرة التي أفلست، طردها صاحب الغرفة التي كانت تستأجرها لعجزها عن دفع الأجرة، فوجدت نفسها في الشارع رفقة عدد من القطط تؤنس وحدتها.
حميدة وصفت حياتها بأنها تعيش كل يوم في انتظار الآخر، وتعيش على صدقات من يمرون بالشارع في انتظار أن يأتي فرج من السماء، مشيرة إلى أن الشتاء شهر المعاناة، "إذ نعيش مثل القطط نبحث عن زاوية نختفي فيها بعيداً من المطر، الذي يزيد أحزاننا ويأسنا من الحياة".
كلنا مظلومون
في زاوية أخرى، يضطجع الشيخ إبراهيم الذي يعيش تحت الشجرة منذ عشرات السنين، ويقدم نفسه على أنه ضحية ظلم الحياة، ودائماً تغيب التفاصيل عن سبب وجوده هناك، ولكن تحضر عبارات تشعر الجميع بأنه ضحية غُلب على أمرها. والماضي الذي يرفض الحديث عنه أو لماذا وصل به الحال هكذا، يجعل من روايته التي تبدأ وتنتهي بالشكوى أقرب إلى التراجيديا منها للحقيقة، فهو يشكي ظلم البلدية التي تمنعه من بيع علب المحارم الصغيرة، حين كانت وسيلة لكسب العطف والمال من المارة، معتبراً أن الحياة بالنسبة له تتوقف تحت شجرة تحولت إلى ملجأ له ولكثيرين.
التشرد والتسول والتحايل
هذه الظواهر التي كثُرت في شوارع تونس، اعتبر الباحث الاجتماعي سامي نصر أنها ليست جديدة، ولكنها تنامت بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة، ومن الظواهر المسكوت عنها، باعتبارها من وصمات العار في المجتمع، وتشعر الجميع بالوجع بسبب وجودها، وهو موضوع من المحرمات الحديث عنه اجتماعياً، لأن ظاهرة التشرد مرتبطة بظواهر التسول والتحايل، وهناك من يستعمل المشردين في التسول.
وبحسب نصر، فإن انتشار هذه الظاهرة مسؤولية الدولة بدرجة أولى جراء الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، بينما يتحمل المجتمع المدني المسؤولية بالدرجة الثانية، حيث توجد في تونس أكثر من 23 ألف جمعية، وبها عدد كبير يتلقى تمويلات خارجية، لكن هناك تجاهلاً مقصوداً لهذه الفئة من المهمشين، خصوصاً في شهر رمضان، حيث تقوم بعض الجمعيات بتقديم وجبات إفطار لهم، ويختفي هذا النشاط مع انقضاء شهر الصوم.
وأضاف الباحث أن الأهم في التعاطي مع هذه الظاهرة ما يمكن تسميته بغياب التضامن التلقائي في المجتمع، الذي غاب بسبب الأزمة الاقتصادية، ففي المجتمعات التي فيها تضامن تلقائي يغيب فيها التشرد أو يتضاءل وجوده، واليوم نعيش حال الفردانية المطلقة في الواقع التونسي.
موارد المجتمع المدني محدودة
في المنطقة ذاتها، تقيم ثريا وزوجها في خيمة صغيرة يعيشون تحتها، وإضافة لإعاقتها الجسدية فإنها تتقاسم مع زوجها أمراضاً عضوية عدة، تمنعهم من العمل، فيعيشون على معونات المحسنين أو بعض الجمعيات التي تساعدهم.
الناشطة في المجتمع المدني سامية بن محمد التي تقوم بتقديم مساعدات بسيطة لهؤلاء المشردين، نوهت في حديثها بأن "الجمعيات تقدم لهم وجبات إفطار وبعض الحاجات الحياتية مثل الصابون ومعجون الأسنان، لكن ارتفاع أعداد المشردين وتفرقهم في مناطق متباعدة يجعل الاهتمام بهم مستحيلاً، كما أنهم يرفضون التنقل لتسلم المساعدات من مقار الجمعيات، وليس لهم مكان وجود ثابت، مما يعسر عملنا لإيصال المساعدات إليهم"، معترفة بأن هناك تقصيراً جماعياً بحق هؤلاء الذين ألقت بهم الظروف الصعبة في شوارع المدينة.
الحلم ببطاقة العلاج المجاني
ثريا إحدى المشردات، اتخذت مدخل مؤسسة حكومية أغلقت أبوابها مقراً لها، حيث تقيم منذ عام مفترشة بوابة المدخل، تعرضت لحادث مروري تسبب في عجزها عن العمل. تقول، "أعيش وحيدة وأقصى أحلامي أن أنال بطاقة العلاج المجاني في المستشفيات الحكومية" أو الكارنيه الأبيض بحسب المتعارف عليه في تونس. واصفة حياتها بالقاسية، وأنها تعرضت للعنف والاعتداء مرات عدة. مضيفة، "الحياة ليست سهلة لامرأة تعيش في الشارع".
دور بلدية تونس
رئيسة بلدية تونس سعاد عبدالرحيم قالت إن "البلدية قامت بتوفير مقر مجهز لإيواء المشردين، ويتم التنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية وولاية تونس والمجتمع المدني لتوفير الإطارات البشرية من إداريين ومتخصصين وعمال لتسيير هذا المرفق، حتى يتسنى نقل هؤلاء وضمان المأوى الكريم لهم".
وأضافت أن البلدية "تحاول توفير معدات وتجهيزات تتلاءم وطبيعة هذه الفئة، نظراً لخصوصية حياتهم، بينها تجهيزات طبية ومرافق صحية وحياتية خاصة"، منوهة بأن رعاية هذه الفئة من مشمولات وزارة الشؤون الاجتماعية، إلا أن البلدية تتدخل في بعض الحالات بالمساعدة بحسب الإمكانات المتوافرة، وبما يسمح به القانون.