يعيشون حياة مختلفة عن الناس، الشمس عدوتهم تتربص بهم سوءاً، لذا ينتظرون غروبها ليظهروا في الظلام، وهؤلاء هم أطفال القمر أو "مرضى الجلد المصطبغ"، وهي تسمية تطلق على مَن يعانون حساسية من الأشعة فوق البنفسجية، وهو مرض نادر يصيب شخصاً بين 250 ألفاً في العالم، وينتشر خصوصاً في منطقة شمال أفريقيا، ويبلغ عددهم في تونس حوالى 850 شخصاً.
"تعلّمنا العيش والتأقلم مع الحجر في صمت قبل أن يعرفه باقي سكان الأرض. ذلك قدرنا"، هكذا تختزل نادية مرضها وعزلتها الدائمة والإجبارية في كلمات، وتضيف "أنها حرمت من العمل الخارجي لأنه يستحيل توفر ظروف تلائم وضعها الصحي، لذلك اختارت مهنة تحبها وتمكنها من العمل في بيتها، وتجنبها التعرض لأشعة الشمس"، واختارت نادية الكتب والبيانو رفيقين لها، فهي محرومة من كل أشكال الترفيه كبقية أترابها.
أضواء الشهرة
نادية الجربي لم تتمكن من مواصلة دراستها، وتقول إن "مرضها حال دون ذلك"، لكنها لم تستسلم واختارت أن تواصل التحدي، وتعودت التعامل مع مرضها، وصارت لديها القدرة على التعايش معه، وكانت حالتها دافعاً لشقيقتها التي اختارت أن تصبح طبيبة متخصصة في هذا النوع من الأمراض.
لكن تجربة لمياء الحكيم (28 عاماً) مختلفة تماماً مع الاشتراك في آلام المرض. لمياء تعشق أضواء الشهرة بالرغم من الأضرار التي تسببها لها الأنوار، فهي بطلة فيلم "بنت القمرة" الذي يتحدث عن أطفال القمر، وهي نجحت في فرض نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي، فضمت صفحاتها الرسمية آلاف المعجبين، وهي كذلك عضو بلدي في إحدى بلديات العاصمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول لمياء إنها صنعت من الضعف الذي عانته قوة، واستلهمت من مرضها حب التميز، وهدفها تغيير نظرة المجتمع إليها، وكذلك تغيير نظرة أطفال القمر إلى أنفسهم. وتضيف، "رسالتي لهم هي البحث عن القوة بداخلهم وترجمتها إلى نجاح، فقد عشت فترات صعبة جداً جعلتني أفكر بجدية في تغيير مجرى حياتي نحو الأفضل، فتميزت في دراستي وحصلت على شهادة في البيولوجيا، ونجحت في اقتحام عالم السينما، وأمضيت كل أوقاتي التي يقضيها أبناء جيلي في التمتع بحرارة الشمس والسباحة، في الرسم والمطالعة".
وتقول لمياء إن أكثر ما يؤلم أطفال القمر عدم قبول الآخرين لهم، وعدم فهم اختلافهم، وهي تدعو أبناء "جلدتها" إلى أن يغيروا نظرتهم إلى أنفسهم حتى يغير المجتمع نظرته إليهم.
وعدد هؤلاء ليس كبيراً في تونس أو في العالم، وهم لا يطلبون الكثير، فقط أن يتقبلهم المجتمع. يعيشون بيننا بصمت فلا نكاد نراهم، والليل هو منفذهم الوحيد لاكتشاف ما يحدث خارج أسوار بيوتهم التي هي ملاذهم وسجنهم المحتوم الذي يحميهم من حرقة الشمس وأذيتها.
على قيد الحياة
ويقول الدكتور محمد الزغل أحد أبرز الأطباء الذين اشتغلوا على هذا المرض منذ أكثر من 30 سنة، إنه منتشر بين حالات زواج الأقارب، وهو وراثي غير معد، وسابقاً كان أمل الحياة لدى الأطفال المصابين به ولا يلقون رعاية لا يتجاوز الـ 15 سنة، أما اليوم وبفضل الوقاية فأصبح من الممكن لهؤلاء المرضى أن يعيشوا حياة مديدة. ويشدّد الدكتور زغل أحد مؤسسي جمعية مساعدة أطفال القمر غير الحكومية، على أن الوقاية هي الوسيلة الوحيدة لإبقاء هؤلاء المرضى على قيد الحياة، ويضيف أن طفل القمر يولد سليماً من دون أية عوارض للمرض، لكن عند تعرضه للشمس يحمر وجهه ويستمر الاحمرار لأيام، ويكون مصحوباً بتسلخات جلدية تتحول في ما بعد إلى بقع بنيّة، ومع مرور الأشهر يمكن أن تتطور إلى سرطان جلدي.
ويجب على المصاب بهذا المرض عدم التعرض لأشعة الشمس أو الأشعة فوق البنفسجية، وأن يضع المراهم الواقية من الشمس كل ساعتين، كما يلزمه ارتداء نظارات شمسية ولباس خاص عند الخروج نهاراً.
الدعم النفسي
واكتشف هذا المرض للمرة الأولى سنة 1870 من قبل الدكتور موريتز كابوسي في فيينا، الذي لاحظ وجود بقع داكنة أشبه بالنمش على وجوه أطفال تعرضوا لأشعة الشمس، تطورت خلال سنوات قليلة إلى تقرحات جلدية. ويُصنف مرضى "جفاف الجلد المصطبغ "بحسب درجات خطورة الإصابة إلى ثلاثة أصناف.
وتقوم مؤسسات المجتمع المدني في تونس بمحاولة تخفيف وطأة المرض على عائلات المصابين، في ظل عدم تصنيف المؤسسات الحكومية له كمرض مزمن يستوجب تغطية اجتماعية كاملة. ومن بين هذه الجمعيات جمعية مساعدة أطفال القمر التي تأسست منذ عشر سنوات، وتضم في صفوفها أطباء متخصصين وأولياء أطفال مصابين بهذا المرض، وتسهر الجمعية على مساعدة المرضى وعائلاتهم من خلال تقديم الدعم النفسي والتوعية في البداية، كما تؤكد الدكتورة عزة البحوري رئيسة الجمعية.
كما تتولى توفير المراهم الواقية للمرضى وفوانيس الانارة المضادة للأشعة فوق البنفسجية، والأشرطة اللاصقة المانعة لتسرب الأشعة من النوافذ، إضافة إلى الملابس الواقية.