بعد مسيرة فنية غنية استمرت قرابة 60 عاماً، ترك خلالها تأثيراً بالغاً في أجيال عدة من الفنانين الهنود، رحل في كالكوتا الممثل الهندي سوميترا تشاترجي عن 85 عاماً إثر إصابته بفيروس كورونا. كان الراحل أحد أساطير السينما الهندية، في سجله ما لا يقل عن 200 فيلم. وبعد انتشار خبر رحيله كتب الروائي بيشواناث غوش في مقال له، "لقد سقطت الشجرة، لكن ظلها باق". هذا الذي يُعد ثروة وطنية في الهند كان انتهى للتو من تصوير بعض الفصول من فيلم مخصص لسيرته.
طيلة سنوات، ارتبط اسم تشاترجي إلى حد كبير بالعملاق ساتياجيت راي، الذي أسهم في انطلاقه يوم أعطاه الدور الرئيس في "عالم أبو" 1959) الجزء الأخير من ثلاثيته "أبو" عن الشاب البنغالي الذي كبر على مرأى من المُشاهد ومسمعه. في هذا الفيلم، كان تشاترجي أبو في عمر متقدم بعض الشيء، ابن الريف الذي أصبح كاتباً بعد نزوحه إلى المدينة.
درس تشاترجي الأدب في جامعة كالكوتا، وبدأ حياته المهنية مذيعاً باللغة البنغالية في إحدى الإذاعات، وكان رجلاً متعدد الموهبة والاهتمام، تراوحت نشاطاته الفنية بين الرسم وكتابة الشعر وحتى إدارة مجلة أدبية وتأليف المسرحيات. انخرط أيضاً في أعمال تلفزيونية كثيرة، وعلى رغم شهرته الواسعة ومكانته الكبيرة في الوجدان البنغالي، ظل على هامش بوليوود (السينما الهندية الشعبية). لم تغره الأضواء على حساب قناعاته وخياراته الفنية. في المقابل، لم تستغل السينما الغربية مواهبه، إذ كانت مشاركته في أفلام غير هندية نادرة، مع ذلك رأيناه في دور خاطف إلى جانب هيو غرانت وجون هرت في "الليل البنغالي". هناك من يعتبره الفنان الذي غير وجه السينما الهندية، من خلال تكريس تقنيات تمثيل جديدة وحضور آسر. بدأ تشاترجي في المسرح، واعتلى الخشبة منذ مرحلة المدرسة الابتدائية. السينما جاءت لاحقاً عندما أخذه راي تحت جناحه. يردد أنه كان يزور موقع تصوير فيلم راي، "صالون الموسيقى" 1958، مجرد زيارة، عندما وقع اختيار المخرج عليه. آنذاك، لم يكن يعتبر نفسه مستعداً للسينما، ولم يجد نفسه فوتوجينياً. لكن وهو يغادر الاستوديو في ذلك اليوم ناداه راي ليعرفه على الممثل شهابي بيسواس قائلاً له، "هذا سوميترا، سيلعب أبو في فيلمي القادم".
الثنائي السينمائي
روى تشاترجي لاحقاً أنه لم يقتنع بنفسه ممثلاً، سوى عندما وقف قبالة كاميرا راي. من قلب هذه التجربة الأولى، وُلدت الأفلام اللاحقة بينه وراي، حد تحولهما إلى ثنائي مهم في تاريخ السينما. كرت سبحة الأعمال ليصل عددها إلى 14. كل دور اضطلع به كان مختلفاً عن الدور التالي. لم يحصره راي في خانة محددة. كان حيناً يتسلل في جسد سائق تاكسي "أبهيجان"، أو طبيب في زمن المجاعة "رعد بعيد"، أو تشرلوك هولمز النسخة البنغالية "سونار كيللا". تنوع الشخصيات التي قدمها جعل الناقدة الأميركية الكبيرة بولين كايل تكتب عنه بأنه "فريق كامل من الممثلين لوحده".
بفضل راي، ارتقى تشاترجي إلى ذروة فنه فوصل صداه إلى الغرب. 4 من أفلام راي شاركت في مهرجان كان السينمائي، فأُتيحت له فرصة التواجد في المدينة الساحلية الفرنسية. كانت المرة الأولى في العام 1960 والأخيرة في 1990، فترة قصيرة قبل رحيل المعلم. مهرجانات أخرى من مثل برلين والبندقية فرشت له السجادة الحمراء غير مرة تقديراً لعطائه. ولأن لا نبي في بلاده، فراح صيته يذيع في الأوساط السينمائية الأوروبية أكثر منه في بوليوود، علماً أنه على رغم هذا بقي ثروة وطنية في الهند. ولكن، كما هو معلوم الهند بلد معقد جداً، ينطوي على ثقافات ولغات متداخلة. تشاترجي كان البنغالي الذي لم يكن يتقن اللهجة الهندية الضرورية لاقتحام بومباي وسينماها البوليوودية.
شخصية فيلودا
في أفلام راي، تسنى له الوقوف أمام الممثلة شارميلا طاغور، وأيضاً أمام أوتام كومار الذي شاركه التمثيل ثماني مرات، وكثيراً ما قورن به. يقال أيضاً إن راي كان يفكر فيه وهو يكتب عديداً من الأدوار. لعل أشهر دور أسند له هو فيلودا، الشخصية التي ابتكرها راي في هيئة محقق خاص من كالكوتا.
من أفلامه المهمة مع راي، "البعثة" 1962، و"شارولاتا" 1964، و"نهارات وليال في الغابة" 1969، و"رعد بعيد" 1973، والقلعة" 1974، و"الفيل الإله" 1978، و"البيت والعالم" 1984، و"عدو الشعب" 1989،. كان تشاترجي غزير الإنتاج، إذ وصل عدد الأفلام التي مثل فيها في بعض السنوات إلى أربعة. العلاقة مع راي، يلخصها تشاترجي بهذه الكلمات، "كان يعرف ما يمكن توقعه مني وكنت أعرف ما كان يتوقعه مني. ربطتني به علاقة رائعة، كان مرشدي. لقد شكل ليس فقط حياتي المهنية ولكن أيضاً عقليتي إلى حد كبير. حتى أننا نتشارك نوعاً من الإرث، لكنه كان عبقرياً مطلقاً، لقد كان سيداً ولا ينبغي مقارنتي معه البتة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صحيح أن أهم ما أنجزه كان تحت إدارة راي، لكن بعيداً من هذا التعاون فقد شاهدناه في أفلام بنغالية مهمة لكل من تابان سينها ومرينال سين وجهيندر باندي وأجوي كار وتارون مازومدار وغيرهم من السينمائيين الذين أجادوا التقاط الروح البنغالية في داخله. له كذلك إسهامات كبيرة في المسرح، فقد اضطلع بدور الملك لير، ولا يمكن التغاضي عن تجربته الإخراجية التي جاءت تحت عنوان "ستري كي باترا" في العام 1986 التي نالت استحساناً نقدياً. نال تشاترجي عدداً من الجوائز والتكريمات، وهو أول شخصية سينمائية هندية تُسند إليها جائزة وسام الفنون والآداب الفرنسي 1999 قبل أن يُعاد ويكرم بأعلى جائزة فرنسية، وهي وسام جوقة الشرف 2004. أما في العام 2012، فنال جائزة دادا ساهيب فالكي عن مجمل أعماله، وهي أرفع جائزة سينمائية تمنحها الدولة الهندية.
كثر يجمعون على أن تشاترجي كان من حراس الثقافة البنغالية الأصيلين، ويتعدى دوره الشاشة إلى الثقافة والاجتماع. كان من الفاعلين على أرض الواقع. إنه خسارة لا تعوض في زمن شح الأعمال الهندية الكبيرة. كان صاحب مناقبية عالية يؤمن بالبساطة المطلقة. هيمن على مجالات فنية كثيرة طوال سنوات. عرف بإتقان كل عمل التزمه، فأحد السينمائيين الذين عمل وإياهم، يروي أنه كان يصر أن يعيد اللقطة حتى بعد تأكيد المخرج أن كل شيء على ما يرام.
في سبتمبر (أيلول) الماضي، أجرت معه "تايمز أوف إنديا" مقابلة سألته فيها عن كيف استطاع طوال حياته المهنية إجراء توازن بين الأفلام الاستفزازية الكبيرة التي شارك فيها، وبعض الأعمال التجارية الخفيفة، فكان جوابه، "لم أشعر يوماً أنه يمكن تصنيف الأفلام. الشخص الذي علمني التمثيل، ساتياجيت راي، لم يميز بين السينما الموازية والأفلام التجارية. لطالما رفض هذا التمييز. اعتاد أن يقول، "يمكن أن يكون هناك فيلم جيد، أو فيلم رديء، أو فيلم غير مبال، أو فيلم متوسط المستوى". لكنه لم ينحز قط إلى فكرة الأفلام الفنية والأفلام التجارية. ورأيه يتماشى مع رأيي. يمكن أن يكون هناك مليون نوع من الروايات، وبالمثل يمكن أن يكون هناك مليون نوع من الأفلام. من بين كل هذه الأفلام، أحاول أن ألتقط الجيد، ذاك الذي يعكس الجهد المبذول. هذا هو العمل الجيد في نظري. أنا أؤمن بالتقييم لا بالتصنيف".