احتجاجاً على موقف ألمانيا من التجاوزات التركية شرق المتوسط، استقال الرئيس الفخري لغرفة الصناعة والتجارة اليونانية-الألمانية ميخاليس ميليس، بعد ثلاثة عقود من العضوية، و12 عاماً من ترؤس المنظمة التي شارك في تأسيسها جدّه في برلين العام 1924.
وفي خطاب استقالته الذي نشرته صحيفة كاثيميريني اليونانية، يوم الأربعاء 9 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أعرب رجل الأعمال اليوناني عن خيبة أمله وغضبه من موقف برلين تجاه أنقرة، وانتهاكاتها في شرق البحر المتوسط وبحر إيجه، معتبراً ما تقوم به ألمانيا من تفضيل مصالحها المالية والتجارية على القيم الأوروبية، بل وتسليح تركيا، "خيانة".
وكتب، "منذ أن كنت في الـ 18 من عمري، كانت علاقاتي مع ألمانيا وثيقة وحاسمة خلال الجامعة وكمهندس في المصانع الألمانية، وبعد ذلك من خلال العلاقات التجارية المتواصلة والمستقرة، كنت عضواً في غرفة الصناعة والتجارة اليونانية الألمانية عشر سنوات خلال الثمانينيات، وأمضيت السنوات الـ 12 الماضية رئيساً لها. اسمحوا لي أيضاً أن أشير إلى أن جدي كان أحد الأعضاء المؤسسين للغرفة اليونانية-الألمانية في برلين العام 1924".
خيانة وغضب
وتابع ميليس إن "جميع أعضاء الغرفة اليونانية-الألمانية يؤمنون بالرؤية الأوروبية والقيم الأوروبية، لكن اليوم أشعر بخيبة أمل عميقة، لكنني غاضب أيضاً، ولست وحدي. أشعر بالخيانة على المستوى الشخصي، وأشعر بالفزع لرؤية صديقتنا ألمانيا تضع مصالحها المالية والتجارية الضيقة فوق كل اعتبار".
وقال إنه من غير المعقول "في مواجهة انتهاكات تركيا الصارخة والمستمرة للحقوق السيادية لليونان، أن تتصرف دولة عضو وقائد في الاتحاد الأوروبي بطريقة منعزلة على عكس الدول الأوروبية الأخرى، وأن تفشل في اتخاذ موقف واضح، بل تقوم بتسليح المعتدي".
استقالة رجل الأعمال اليوناني تأتي كجزء من غضب عام داخل اليونان تجاه الموقف الألماني الذي يعتبرونه موالياً لتركيا. فالأسبوع الماضي وجّه وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس انتقادات لاذعة إلى برلين بسبب رفضها حظر تصدير الأسلحة لأنقرة، قائلاً في مقابلة مع صحيفة "بولتيكو" الأميركية، إن ألمانيا فشلت في اختبار قيادتها الاتحاد الأوروبي. وأضاف، "لا أفهم حقاً إحجام ألمانيا عن استخدام القوة الهائلة لاقتصادها لتقديم مثال واضح للدول التي يجب عليها الامتثال للقانون الدولي".
ودعت أثينا برلين إلى عدم السماح بتسليم ست غواصات ألمانية الصنع من طراز "214" لأنقرة. وتقول اليونان إن السفن ستخل بتوازن القوى في شرق البحر المتوسط. وغرد ديندياس عبر حسابه على "تويتر"، "أتفهم الجانب المالي، لكنني متأكد من أن ألمانيا تتفهم أيضاً التناقض الهائل المتمثل في توفير أسلحة هجومية لدولة تهدد السلام والاستقرار لدولتين من دول الاتحاد الأوروبي. هذا هو تعريف كلمة تناقض".
عقوبات محتملة
تأتي تلك التوترات داخل الاتحاد الأوروبي بينما يستعد لفرض عقوبات ضد أنقرة خلال قمة تنطلق الخميس، وذلك بسبب استمرار الانتهاكات التركية للمياه الواقعة ضمن سيادة اليونان وقبرص في البحر المتوسط. وهناك خلاف بين الدول الثلاث، حول حدود الجرف القاري لكل منها في شرق المتوسط، إذ تصاعدت حدة التوتر خلال العام الحالي مع إرسال أنقرة سفينة للتنقيب عن الغاز في هذه المناطق.
وبلغت التوترات حدتها في أغسطس (آب)، عندما أرسلت أنقرة سفينتها "عروج ريس" إلى منطقة بحرية تقول اليونان إن لها السيادة عليها. ووسط التهديدات الأوروبية بفرض عقوبات سحبت تركيا السفينة قبل قمة سابقة للاتحاد الأوروبي في أكتوبر (تشرين الأول)، قائلة إنها بحاجة إلى الصيانة، لكنها أعادتها بعد وقت قصير، مشيرة إلى عدم رضاها عن نتائج القمة، ومجدداً سحبت أنقرة السفينة الأسبوع الماضي.
لكن رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال حذر تركيا من ممارسة "لعبة القط والفأر" بسحب السفن قبل القمم ثم إعادتها بعد ذلك. كما صرح منسق الشؤون الخارجية في الاتحاد جوزيب بوريل للصحافة عقب اجتماعه مع وزراء خارجية الاتحاد في بروكسيل، الإثنين الماضي، قائلاً، "تدهور الوضع من جوانب عدة". وأضاف، "ليست اليونان وقبرص فقط، لكن جميع الدول الأعضاء مدركة تماماً الحاجة إلى تقويم دقيق للوضع مع تركيا، وللأسف لم نشهد تقدماً كبيراً".
تردد ألماني
وفي حين تقود فرنسا حملة الدعوة للعقوبات في الاتحاد الأوروبي، إذ دعت رسمياً إلى فرض العقوبات ضد تركيا في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فإن ألمانيا تتبع نهجاً أكثر تهدئة. وسعت المستشارة أنجيلا ميركل للتوصل إلى سلام مع أنقرة، وهو ما أكده وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في تعليقات صحافية الأسبوع الحالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعد ألمانيا، التي تتولى حالياً رئاسة الاتحاد الأوروبي، لاعباً رئيساً في تقرير ما إذا كان ينبغي المضي قدماً في العقوبات. ولم يتضح بعد ما إذا كانت برلين ستدعم فرض حظر على الأسلحة، الأمر الذي قد يعطّل مبيعاتها من الغواصات إلى تركيا، كما يؤدي أيضاً إلى تعطيل مبيعات إسبانيا لمكونات سفينة حربية تركية جديدة.
وقدمت برلين نفسها وسيطاً محايداً بين أثينا وأنقرة، وجنباً إلى جنب مع روما ومدريد، وترى ألمانيا أن تصرفات تركيا إشكالية، لكنها تفضّل نهجاً أكثر ليونة تجاهها. ويجادل المشككون في النهج الأكثر صرامة بأن العقوبات قد "لا تحقق الهدف المنشود" المتمثل في دفع تركيا إلى وقف استكشاف الطاقة بالقرب من اليونان وقبرص أو تغيير سياستها في ليبيا. وعلاوة على ذلك يمكن لأردوغان أن ينتقم من خلال تشجيع المهاجرين على دخول أوروبا، بما في ذلك المناطق الواقعة تحت نفوذها في ليبيا.
لكن يبدو أن المستشارة الألمانية تتأرجح بين التمسك بقيم الاتحاد الأوروبي أو إرضاء تركيا، وفي ظل تصاعد الممارسات الاستفزازية للرئيس التركي أردوغان إقليمياً، جنباً إلى جنب مع ما يتردد عن "القمع الداخلي" ضد الصحافيين والمعارضين الأتراك، لم يعد يمكن لبرلين الاستمرار في التردد، إذ بات عليها القبول الضمني بسلوك أردوغان، أو إرسال إشارة قوية بأن التجاوزات في شرق المتوسط وانتهاكاته لحقوق الإنسان غير مقبولة.
وتقول الباحثة لدى مجلس العلاقات الخارجية الأميركي سابينا فريزل، في مقالة نشرها المجلس، إن ألمانيا تحاول تحقيق توازن غير مستقر مع أردوغان، وعليها أن تتبنى موقفاً أكثر تماسكاً يدين الانتهاكات التي ترتكبها حكومته باستمرار وليس بشكل انتقائي.
ويبدو أن تمادي الرئيس التركي في السلوك الاستفزازي لدول شرق المتوسط جرّد ألمانيا من حجتها، ودفع بالأوروبيين نحو اتخاذ موقف أكثر صرامة. وقبل بدء اجتماع، الإثنين الماضي، قال وزير الخارجية الألماني إنه "كانت هناك استفزازات كثيرة للغاية، والتوترات بين تركيا وقبرص واليونان حالت من دون أي محادثات مباشرة".
إيطاليا لاعب رئيس
تشكل إيطاليا أيضاً لاعباً مهماً في فرض العقوبات على تركيا، وكذلك في توحيد موقف دول شمال المتوسط الأوروبية. ففي الوقت الذي تمثل فيه روما المنافس الأوروبي التقليدي لباريس في البحر المتوسط، التي كانت ضمن أقوى المدافعين عن توثيق العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، فإن هناك تقارباً كبيراً على صعيد المصالح المتعلقة بالطاقة في شرق المتوسط بين البلدين الأوروبيين.
وعلى الرغم من دعوة اليونان وقبرص وفرنسا لاتخاذ إجراءات قوية ضد تركيا، تتخذ إيطاليا ومالطا وإسبانيا موقفاً مغايراً. وبحسب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة نافارا بإسبانيا، وزميل المعهد النمساوي للدراسات الأوروبية والأمنية مايكل تانشوم، فإذا توحد موقف إيطاليا مع فرنسا، وهو احتمال وارد في ظل تقارب المصالح بينهما، فإن ذلك يعني اتفاق أكبر دولتين متوسطيتين في الاتحاد الأوروبي، ومن ثم من المحتمل أن يتأرجح جنوب الاتحاد الأوروبي بأكمله لمصلحة شكل من أشكال العقوبات، وعندئذ سيكون الزخم في الاتحاد الأوروبي ككل هو اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه أنقرة. ولهذه الغاية دعا ماكرون إلى "السلام المتوسطي" الذي تحكمه شراكة بين دول الاتحاد الأوروبي المتوسطية.
ويضيف تانشوم، بحسب مقالة في مجلة فورين بوليسي الأميركية، إنه من خلال لغته اللاتينية الرفيعة المستوى يقدم ماكرون لإيطاليا إعادة ضبط للسياسة الواقعية في لعبة البحر المتوسط الكبرى، عبر شراكة فرنسية-إيطالية شاملة للسيطرة على المنطقة. وهناك شراكة كبرى بين شركة توتال عملاق الطاقة الفرنسية، وشركة إيني الإيطالية المملوك جزء منها للدولة في إيطاليا، في مشاريع التنقيب عن الغاز شرق المتوسط، وهذا التعاون في مجال الطاقة بين البلدين يسهّل كثيراً تنفيذ خطة ماكرون للسلام المتوسطي.
وبغض النظر عن نتيجة تصويت المجلس، يعتقد تانشوم أن أوروبا وتركيا على طريق القطيعة الدائمة، فبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من المرجح أن يحل ثالوث ألمانيا وفرنسا وإيطاليا محل الثلاثي ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، باعتباره المحرك الرئيس للسياسة الأوروبية. ومع شراكة فرنسا وإيطاليا في البحر المتوسط، فمن المرجح أن يتشدد موقف أوروبا المستقبلي تجاه تركيا.