تعد حدائق المنتزه الملكية في الإسكندرية واحدة من أهم معالم المدينة، سواء بالنسبة إلى سكانها أو زائريها، لما تتميز به من جمال الشواطئ وامتداد المساحات الخضراء والأشجار النادرة، إضافة إلى ما تحويه من قصور ومبان أثرية تعود لحقبة مهمة من تاريخ مصر الحديث.
الحدائق الواقعة شرق مدينة الإسكندرية تضم أربعة مبان مسجلة في عداد الآثار، وهي قصر السلاملك وقصر الحرملك وطاحونة الهواء وكشك الشاي، وعلى مدى عقود كانت هي المنتزه الأهم للراغبين في بعض الهدوء بعيداً من صخب المدينة.
وكان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أصدر أخيراً، خلال زيارة ميدانية إلى لإسكندرية، إشارة انطلاق مشروع تطوير حدائق المنتزه لتصبح مقصداً سياحياً عالمياً ومتنفساً للسكان، ويشمل المشروع ضمن المخطط الذي تم الإعلان عنه تطوير الحدائق الملكية والمباني الأثرية وإنشاء عجلة دوارة يطلق عليها (عين الإسكندرية) على غرار "London eye" بارتفاع 65 متراً، وإنشاء متحف "يخت فخر البحار" الخاص بالملك فاروق، وتطوير الفنادق الموجودة داخل المنتزه، وزيادة عدد غرفها، وإنشاء جزيرة شاي، وتطوير الصوبة الملكية، والاهتمام بالأشجار النادرة في الحدائق وزيادة الرقعة الخضراء باستخدام أنظمة ري حديثة. كما يتضمن المشروع إنشاء كورنيش مفتوح على البحر، وتغيير أسماء الشواطئ وإطلاق أسماء العائلة الملكية عليها.
ومن أهم ما يتضمنه مشروع تطوير حدائق المنتزه هو إنشاء مارينا عالمي لليخوت لربط المنطقة بحرياً مع باقي الموانئ الرئيسة بحوض البحر الأبيض المتوسط، كما سيتم تنظيم برنامج سنوي للفعاليات والأنشطة المختلفة على المستويات الثقافية والفنية والرياضية.
وتعتبر قصور المنتزه، ولا سيما قصر السلاملك والحرملك، من أجمل القصور الأثرية في مصر التي تعود إلى العهد الملكي، كونها كانت المقر الصيفي للملك وعائلته، حيث اعتاد الملك قضاء أشهر الصيف في الإسكندرية.
قصر يحاكي قصور أوروبا
وعن قصور المنتزه وتاريخها وبداية فكرة إنشائها، يقول نقيب المرشدين السـياحيين السـابق بالإسكندرية، إسلام عاصـم، "كان حكام مصر قديماً أثناء زياراتهم للإسكندرية يحرصون على زيارة ضواحي المدينة، وهو ما فعله الخديوي عباس حلمي الثاني الذي زار المنطقة الواقع بها قصر المنتزه حالياً، وكانت منطقة زراعية على أطراف المدينة آنذاك، وكانت مكاناً يستريح فيه التجار القادمون إلى الإسكندرية، ولهذا السبب كانت تعرف باسم (المندرة)، وكان يسيطر على هذه المنطقة عائلة تعرف باسم عائلة أبو كليلة تعود أصولها للمغرب، تعمل في الزراعة وتمتلك مجموعة من الطواحين لخدمة أهالي المنطقة، ووقف الخديوي على ربوه ترتفع 17 متراً عن سطح البحر ليرى أمامه البحر، إضافة إلى مشهد يشبه غابات أوروبا حيث الأشجار الكثيفة".
ويضيف عاصم، "قرر الخديوي إقامة قصر على غرار قصور النمسا التي تنتمي إليها زوجته الكونتيسة النمساوية التي أطلق عليها اسم (جاويدان هانم)، وأراد أن يبني لها قصراً على غرار قصور أوروبا، وبالفعل بدأ الخديوي في إنشاء القصر المعروف بقصر السلاملك في هذه المنطقة الواقعة على أطراف المدينة، وشيّده على طراز يجمع بين الإسلامي والبيزنطي ليشكل مزيجاً بين الحضارة الشرقية وحضارة أوروبا التي أراد الخديوي أن يبني قصراً يشبه قصورها، وأطلق عليه اسم المنتزه محمود شكري باشا رئيس الديوان التركي آنذاك، لتعرف المنطقة كلها بهذا الاسم حتى الآن".
تطور مع الزمن
بعد بناء قصر السلاملك لم تكن المنطقة قد أخذت شكلها الحالي، فكان قصراً يقع على أطراف الإسكندرية على الشاطئ وسط منطقة كثيفة الأشجار، ولم تكن باقي معالم المكان قد تم بناؤها، وحتى لم يكن لها هذا السور الشهير الذي يفصلها عن المدينة، وإنما أضيفت هذه الأشياء تباعاً مع مرور الزمن.
وعن تطور المنطقة والقصر يقول عاصم، "تطور القصر والمنطقة كلها مع الزمن، ففي عهد الملك فؤاد بدأ إنشاء قصر الحرملك الذي بناه كبير المهندسين الملكيين آنذاك (فيروتشي) في طراز يجمع بين الإسلامي وقصور إيطاليا، لأن الملك فؤاد تلقى تعليمه في إيطاليا، وكانت لديه نزعة إيطالية بحكم إقامته فيها لفترة، وقصر الحرملك يعتبر من أجمل القصور وأشهرها في مصر، وبني بجانبه كشك الشاي أو ما كان يعرف بكشك الموسيقي، كما أضاف الملك فؤاد برج الساعة الشهير في منطقة المنتزه والذي كانت تدق ساعته كدقات ساعة بيغ بن الشهيرة نفسها، كما أنشأ الصوبة الملكية التي تضم أشجاراً نادرة من جميع أنحاء العالم، وأنشأ الفنار حتى تتمكن اليخوت الملكية من الإبحار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جزيرة الأحلام
الزائر لحدائق المنتزه عادة ما تلفت نظره الجزيرة الواقعة أمام القصر، التي يربطها بالشاطئ الكوبري الشهير الذي تتميز به المنطقة، ويعد واحداً من أهم معالمها، فما هي قصة الجزيرة وأهميتها؟
يشير إسلام عاصم إلى أن "الجزيرة الواقعة أمام القصر والتي عرفت بجزيرة الشاي، ويطلق عليها جزيرة الأحلام، هي بالأساس منطقة أثرية كانت تسمي "تابوسيرس بارفا" في العصر اليوناني الروماني، ووجدت فيها آثار ومقابر تعود للقرن الأول قبل الميلاد، إضافة إلى كثير من الآثار الغارقة، كما وجدت ما تشبه أحواض الأسماك التي تعود إلى العصر الروماني، فهي منطقة غنية بالآثار. وتذكر مصادر تاريخية أن كليوباترا ومارك أنطونيو كانا يلتقيان في هذا المكان، ما أكسب هذه البقعة الواقعة على شاطئ البحر المتوسط إطاراً من الجمال والرومانسية، فأطلق عليها جزيرة الأحلام".
ويضيف، "كان يربط بين الجزيرة وبين شاطئ المنتزه كوبري بسيط، وفي عهد الملك فاروق، تمت إقامة الكوبري الحالي الذي يصل بين الجزيرة والشاطئ، ويقع فيها كشك الشاي الذي بدأ الملك فؤاد في بنائه، وأتمه فاروق، وهو مبني على الطراز اليوناني الروماني، ويلاحظ الاهتمام بالتراث وتوظيفه بصورة كبيرة في مباني المنتزه القصر الأول "السلاملك"، المبني في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، فهو مبني على طراز إسلامي بيزنطي ليضاهي قصور أوروبا، والقصر الثاني "الحرملك" المبني في عهد الملك فؤاد الأول على الطرز الإيطالية الإحيائية، مع لمسات إسلامية لنزعة الملك فؤاد لإيطاليا، وحرصه على الثقافة الإسلامية في الوقت ذاته. أما كشك الشاي فهو على الطراز اليوناني الروماني ليتماشى مع تاريخ وطبيعة المنطقة التي أقيم فيها، فالأعمدة والتماثيل والرخام والطراز كلها تعكس جزءاً من ثقافة المنطقة".
آخر لحظات الملكية
وشهدت القصور التاريخية في مصر على مرّ العصور أحداث ولحظات فارقة في التاريخ، فقد شهد قصر المنتزه إحدى أهم الأحداث في التاريخ المصري الحديث، فقد كان الملك فاروق (آخر ملوك مصر) مقيماً في قصر المنتزه وقت قيام أحداث ثورة يوليو (تموز) العام 1952، وعاش وأسرته آخر لحظات الملكية في هذا المكان إلى أن قام بالتوقيع على وثيقة تنازله عن العرش، لتنقضي حقبة مهمة من تاريخ مصر الحديث، وتبدأ مرحلة جديدة بإعلان الجمهورية.
وبخصوص هذا الأمر، يشير عاصم إلى أن "قصر رأس التين كان القصر الخاص بالأمور الرسمية والاستقبالات، وفيه قاعة العرش، أما قصر المتنزه، فكان مكاناً يتميز بالخصوصية، ويعتبر مقراً لإقامة العائلة المالكة بعيداً من أمور الدولة الرسمية، وفي لحظات قيام ثورة يوليو، كان الملك وأسرته في قصر المنتزه. وعاش وعائلته هذه اللحظات داخله، حيث تمت محاصرة القصر بقوات الجيش، مثله مثل باقي القصور الملكية في مصر، وتمت إجراءات التفاوض مع الملك للتنازل عن العرش حتى توقيعه على الوثيقة الشهيرة بالتنازل عن العرش لابنه الأمير أحمد فؤاد".
ويضيف، "بعد توقيع الوثيقة انتقل الملك فاروق إلى قصر رأس التين باعتباره القصر الخاص بالأمور الرسمية، لتتم مراسم توديعه بشكل رسمي، وعزفت الموسيقى العسكرية، وأطلقت المدافع ليغادر مصر إلى إيطاليا على متن يخت المحروسة في المشهد المهيب في 26 يوليو من العام 1952، وتغلق صفحة الملكية في مصر ويبدأ عهد جديد".
ما بعد ثورة يوليو
مع أفول عصر الملكية في مصر وبداية عهد جديد، كانت ممتلكات العائلة المالكة في مصر وقصورها هي واحدة من الأشياء التي اختلف التعامل معها، فبعض القصور ظل ينتمي للرئاسة ويستخدم كمقار للحكم والاستقبالات الرسمية واللقاءات المهمة، وبعضها تم تحويله إلى مؤسسات ذات توجهات مختلفة، وبعضها الآخر تم فتحه للجمهور.
وعن قصر المنتزه، يشير عاصم إلى أنه "بعد ثورة يوليو، فتحت حدائق المنتزه للعامة وتحول قصر السلاملك إلى فندق، واستمر قصر الحرملك كأحد القصور الرئاسية في الدولة، واستخدم في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، وأقيمت فيه إحدى دورات القمة العربية التي حضرها عدد من الحكام العرب آنذاك، وعلى رأسهم الملك فيصل ملك السعودية، والملك حسين ملك الأردن، والرئيس عبدالسلام محمد عارف رئيس جمهورية العراق، والرئيس جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، والرئيس الجزائري أحمد بن بلة، والرئيس اليمني عبدالله السلال".
ويضيف، "لاستقبال الوفود العربية القادمة لحضور القمة تم إنشاء فندق كبير داخل حدائق المنتزه، عرف من وقتها وحتى الآن بفندق فلسطين، والجدير بالذكر أنه أطلق عليه هذا الاسم لأن القضية الفلسطينية كانت أحد أهم المواضيع المدرجة لمناقشتها على جدول القمة العربية، فقصر المنتزه بدأ كقصر في منطقة نائية على أطراف المدينة ليتحول إلى واحد من أهم القصور الملكية في مصر، وبمرور السنوات أصبحت حدائق المنتزه تعتبر متنزهاً رئيساً لأهل الإسكندرية وزوارها، بما تحمله من جمال الشاطئ والمساحات الخضراء ولمسة التراث والتاريخ المصري".