لم تكن الممثلة الأميركية ليليان غيش واحدة من نجمات هوليوود على النحو الذي جرت العادة أن تكون عليه. صحيح أنها كانت فاتنة وبارعة في التمثيل حتى مرحلة متقدمة من عمرها أي حتى ظهرت في أحد الأدوار الرئيسية القليلة لفيلم تشارلز لوتون "ليلة الصياد" وكانت تجاوزت الستين من عمرها، لكن حياتها كانت من الهدوء وتفوقها من التكتم بحيث غالباً ما تُنسى. والحقيقة إن ذلك كان باختيارها، على الأقل كما تفيدنا الكتب الثلاثة التي تركتها للأجيال المقبلة شهادة منها على حياة هوليوود وعلى دور أستاذها المخرج دافيد غرفيث في بداياتها أكثر مما في حياتها. ولعل كتابها الأشهر والمعنون "السينما، السيد غريفيث وأنا" يكشف سرّ لا نجوميتها ومنذ عنوانه. فهي إذ تضع نفسها في مكانة ثالثة بعد مكتشفها وأستاذها غريفيث كما بعد السينما، تموضع نفسها تحت ظلّ هذين الاثنين معلنة أن لا مكانة لها إلا انطلاقاً منهما. ولعل ما يمكن ملاحظته هنا هو أن ليليان غيش تظل أمينة في كل صفحة من صفحات الكتاب لتلك التراتبية التي تجعلها تتوقف عن السرد مع موت "الأستاذ". والجدير بالذكر أنها فعلت الشيء ذاته في كتابها الثاني "دوروثي وليليان غيش" حيث بدّت أختها على نفسها مع إنها كانت هي الأشهر. أما الكتاب الثالث فعنونته "حياتي كممثلة" مفضلة فيه أن تتابع سرد مسارها في الفن على مسيرتها في الحياة، مؤكدة ثانوية حياتها ونجوميتها بالمقارنة بما هو شخصيّ.
ممثلة كبيرة رغم ذلك
مع هذا لا شك في أن النقاد والمؤرخين ليسوا مخطئين حين ينظرون إلى ليليان غيش باعتبارها واحدة من كبيرات فن التمثيل في هوليوود لا سيما خلال المرحاة الصامتة، التي قامت فيها بأدوار عديدة غالباً إلى جانب أختها دوروثي وفي معظم الأحيان تحت إدارة دايفيد غريفيث إذ نجدها تلعب الأدوار الرئيسية في معظم أفلامه من "اليتيمتين" إلى "البراعم المحطمة" ومن "تعصب" إلى "مولد أمة". قد يكون من اللافت هنا أن ليليان غيش تأثرت طوال حياتها بالمواقف اليمينية المتطرفة التي "اتهم" بها غريفيت بالنسبة إلى فيلمه "مولد أمة" فظلت كذلك طوال حياتها وراحت تصوّت للجمهوريين، وآخرهم رونالد ريغان، وتقف ضد روزفلت حين قرر خوض الحرب العالمية الثانية ضد النازيين. بل إنها، كما تقول في ثنايا "السينما، السيد غريفيث وأنا"، لم تخالف أستاذها الكبير إلا مرة واحدة حين تراجع عن مواقفه اليمينية المتطرفة، بل العنصرية بعد الهجوم الكاسح الذي شُنّ ضده إثر عرض "مولد أمة". غير أن ما لا بد من الإشارة إليه هنا هو أن مواقف ليليان غيش "السياسية" تبدو في غاية السذاجة من خلال ما ترويه في كتاب مذكراتها هذا... إذ لن يصعب على القارئ أن يجد مواقف بالغة التقدم في ثنايا الكتاب تتعارض مع إعلانها يمينيتها! ومن هنا متعة إضافية في قراءة هذا الكتاب الذي يكاد يصور الذهنيات التأسيسية الهوليوودية بأفضل مما يفعل أي كتاب آخر.
مئة عام من السينما والحياة
حين رحلت ليليان غيش عن عالمنا أوائل عام 1993 كانت تدنو حثيثاً من عامها المئة، وبعيدة جداً عن الإخلاد إلى الصمت والهدوء. غير قادرة على أن تنسى أنها رافقت فن السينما منذ بداياته الصامتة، وتعتقد أن عليها أن ترافقه حتى الرمق الأخير، من هنا كان لا يصعب عليها أن تجد لنفسها أدواراً، ولو صغيرة أو عابرة، تثبت عبرها أن فن السينما خلق لها، تماماً كما أنها خلقت له. مهما يكن فإنها لم ترَ من قبيل المصادفة إنها ولدت بعد أسابيع من ولادة هذا الفن، وإن قدرها جعلها تعتلي خشبة المسرح للمرة الأولى، مع شقيقتها دوروثي وهي في العام الخامس من عمرها عند مطلع القرن العشرين. كانت ليليان ترى أن هذا كله مكتوب لها منذ الأزل، وهو ما عبرت عنه بشكل بارع في الكتاب "السينما، مستر غريقيث وأنا".
الحال أن ليليان غيش كانت محقة في إيلاء كل تلك الأهمية لغريفيث في حياتها. فإذا كانت قد عرفت مجداً حقيقياً في حياتها، فإنها يكاد يكون مقصوراً على الفترة التي عملت فيها تحت إدارة ذلك المخرج الفذ. ومن هنا يمكن تحديد مرحلة مجدها الهوليوودي العظيم بالفترة الواقعة بين 1915 و1921، خلالها مثلت بخاصة في سبعة أفلام حملت توقيع غريفيث، بدأت بـ “مولد أمة" (1915) وانتهت بـ “يتامى في العاصفة" وتخللها “تعصب" (1926) و”قلوب العالم" (1918) و”سوزي صاحبة القلق الصادق" (1919) و”الطريق إلى الشرق" (1920) و"البراعم المحطمة" في العام التالي... ساهمت في الشهرة العالمية التي تحققت لها، مجسدة البطلة الهوليوودية الحقيقية لعصر السينما الصامتة، خصوصاً أن ما أسنده غريفيث لها كانت أدوار الفتاة الأثيرية النقية الطاهرة، البتول كما كان يرغب الحلم الأميركي أن تكون. في معظم الأفلام كانت لطهارتها وبتولتها، تتعرض لهجمات الرجال الوحوش عليها. والحقيقة أن ذلك عزّز مكانتها وشهرتها، اللتين "قضت" عليهما بعد ذلك، حين تواكب ظهور السينما الناطقة مع بروز أخلاقيات أكثر انفتاحاً ورحابة في المجتمع الأميركي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بداوة في أوروبا
عند تلك المرحلة من حياتها انتظرت ليليان غيش من غريفيث، الذي كانت له اليد الفضلى في “صنعها" أن يطور أدوارها لكنه لم يفعل، وهكذا انتهى التعاون بينهما، وبعده تركت هوليوود إلى إيطاليا حيث مثلت في فيلمين من إخراج هنري كنغ، عادت بعدهما إلى عاصمة السينما الأميركية تحت عقد وقعته مع مترو غولدوين ماير أتاح لها أن تمثل في فيليمين كبيرين من إخراج السويدي فكتور سجوستروم، هما "الحرف القرمزي" و"الريح" كانا من أفضل ما مثلته طوال سيرتها السينمائية، غير أنهما لم ينالا حظوة الجمهور، الذي اكتشف فيهما ليليان غيش مختلفة جداً عن الصورة المعهودة لديه عنها. أما حين عملت في فيلم "البوهمية" من إخراج كينغ فيدور فإنها استعادت بعض علاقتها معه، لكن العمر تقدم بها بعض الشيء، وبدت مقبلة من عهود سحيقة.
هذا، لم يدفعها إلى الغياب أو اليأس، بل واصلت بحثها عن أدوار ذات أبعاد خاصة، مدركة استطاعتها أن تكون ممثلة كبيرة بتواصل حضورها كنجمة. بالفعل كسبت رهانها، مع قلة عدد الأفلام والمسرحيات التي عملت فيها. وهكذا مثلاً نراها تسمى لجائزة أوسكار أفضل ممثلة ثانوية عن دور لعبته في "صراع تحت الشمس"، ثم نراها بخاصة، بعد ذلك بسنوات، تؤدي الدور الغريب والرائع الذي مثلته في فيلم تشارلز لوتون الوحيد "ليلة الصياد"، حيث عرفت كيف تتصدى للشر الماثل في روبرت ميتشوم وهو يطارد ابنَي زوجته ليقتلهما.
أدوار كثيرة لعبتها ليليان غيش مصرة على أن لا يطويها النسيان. و اعتبرت نيلها جائزة أوسكار تكريمية شاملة لمجمل أعمالها، في العام 1970، اعترافاً بمكانتها، واستغلتها فرصة للتذكير بماضي هوليوود و"بالدور الخطير الذي لعبه غريفيث في تاريخ هوليوود"، فكانت في تعبيرها ذاك، مثال الوفاء والإخلاص للمعلم الذي ظلت تعتبره على الدوام أساس حياتها السينمائية كلها. وظلت حتى سنواتها الأخيرة تكتب وتمثل، وكان من بين آخر ما مثلته دوران قصيران في فيلم "عرس" لروبرت التمان، و"هامبون أند هيلي". وحين رحلت عن سبع وتسعين سنة رأى كثيرون أن جزءاً من عزّ هوليوود القديم انطوى حقاً.