أحاط نظام الإنقاذ الحاكم السابق في السودان البلاد بعزلة دولية من خلال سياساته التي رسخ بها خلال 30 سنة السيطرة الكاملة على الداخل، بينما قطع أواصر العلاقات الدولية بشقيها السياسي والأمني، وأتى رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب الأميركية تتويجاً لسنوات من المحاولات قام به دبلوماسيون وطنيون، بذلوا جهداً خارقاً بسيرهم عكس تيار النظام السابق الذي راكم العداوات الدولية وأمعن في تحدي القرارات، من دون أن يكلّف نفسه الدفاع عن البلاد أو تحمّل المسؤولية عما اقترفه. ويمكن القول إن حصاد ذلك مع هبة الشعب بإشعال ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وضعت القضية على طريق الحل، وفي خطوة واسعة، في 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وقّعت الولايات المتحدة والسودان اتفاقاً لإعادة الحصانة السيادية للسودان، لمنع أي دعاوى قضائية مستقبلية ضده، ثم توجت برفع اسمه من قائمة الإرهاب.
ليس حلاً سحرياً
صاحب القرار ترحيب واسع، إلا أنه لم يمنع عدداً من الاقتصاديين من التنبيه إلى أن رفع اسم السودان من القائمة على ما تحقق من إنجاز، ليس حلاً سحرياً لمشاكل السودان المتراكمة، ويعتبر أستاذ الاقتصاد السياسي ومدير جامعة البحر الأحمر حسن بشير محمد نور أن "هذا القرار يعد أهم حدث في السودان منذ سقوط النظام السابق الذي كان يشكل عقبةً أمام الاقتصاد في الأسواق الخارجية، وأمام مشاريع التنمية والمشاريع الاقتصادية، وقد أثر على الجهاز المصرفي وحصر السودان في خيارات محدودة في التعامل الخارجي في فرص ضيقة. كذلك أثر سلباً على الكفاءة التشغيلية والحصول على قطع غيار لصناعة البترول وخدمات النقل بأنواعها كلها من نقل نهري وجوي وبحري والسكك الحديدية. إضافة إلى تأثيره السلبي على الاستثمار الأجنبي، لأن المستثمرين كانوا يحجمون عن التعامل مع السودان لكيلا يقعوا في عقوبات حال تعاملهم في أسواق المال العالمية. وهناك أثر مباشر على تحويلات المغتربين والسودانيين في دول المهجر إلى السودان".
من جانب آخر، يضيف نور، "لوجود السودان في القائمة تداعيات سياسية كبيرة جعلته منبوذاً عالمياً، وأثر ذلك على السودانيين في المهجر. ومن أهم الجوانب حرمان السودان من التعامل مع الشركات الغربية والأميركية وحرمانه من الدخول في مبادرة (الهيبك) إذ كان بالإمكان إعفاؤه من الديون التي تراكمت حتى وصلت إلى 60 مليار دولار".
اندماج اقتصادي
ويرى نور أن "خروج السودان من القائمة سيجعله يندمج في النظام الاقتصادي العالمي والمالي ويجعله مؤهلاً للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية بعد أن يستوفي الشروط. وسيؤثر على سعر صرف الجنيه السوداني على المدى المتوسط والطويل. ما يشكل أملاً للشعب السوداني في التخلص من الأزمة ويعطي أملاً للشباب في المستقبل. كما أن له آثاراً معنوية على الحكومة الانتقالية لأنه سيحررها من الضغوط الكبيرة التي تمارس عليه من المكون العسكري، الذي يستحوذ على جزء كبير من كعكة الاقتصاد السوداني".
ويلفت إلى أن "للقرار أثراً على التعليم العالي والبحث العلمي، وذلك بإمكانية انفتاح الجامعات السودانية على الجامعات الغربية، وفتح المجال للبعثات وتبادل الخبرات وتطوير المناهج والبنية التحتية للبحث العلمي. وسيؤثر بشكل إيجابي على منظمات المجتمع المدني، ويوفر فرصاً واسعة أمام المنح والهبات للسودان وتمويل منظمات المجتمع المدني، وسيساعد كثيراً في تنشيط ما يمكن أن تقوم به مجموعة شركاء السودان التي كانت مقيدة بوجود السودان في القائمة".
ضوء أخضر
ويتوقع نور أن "يفتح القرار الأبواب أمام الاقتصاد السوداني، ولكن كل ما يمكن أن يحدث يعتمد على الحكومة المدنية ومدى فعاليتها بالاستفادة من هذا القرار بالشكل الأمثل، وذلك بخطوات عدة هي إجراء الإصلاح المؤسسي واستكمال هياكل الحكم بشكل مهني، خصوصاً المجلس التشريعي، والمفوضيات، إضافة إلى أنه يعني أن السودان قد أصبح ضمن المنظومة الدولية. ما ييسر إمكانية الوصول إلى اتفاقيات السلام مع عبد الواحد محمد نور رئيس حركة وجيش تحرير السودان، وعبد العزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان. أما على الصعيد الداخلي، فإن الطريقة التي حسمت بها هذه القضية تشير إلى اتجاه التطور المستقبلي، فقد عززت من أنه يمكن تحقيق مقولة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في (العبور)، والمقصود منها نجاح الفترة الانتقالية بسلام، والوصول إلى الانتخابات وإرساء دعائم نظام ديمقراطي مدني مستدام. وسيعمل على إنقاذ شعبية الحكومة الانتقالية، بالتخفيف من حدة تذمر المواطنين مؤقتاً".
وضع جديد
ويشير السفير علي يوسف إلى أن "العقوبات على السودان جراء وضع السودان على القائمة أثرت بشكل جدي على معاش السودانيين وحياتهم، وخلقت أزمات اقتصادية كبيرة تفاقمت خلال تلك الفترة أزمة دارفور. ووضع عزل السودان دولياً الشعب السوداني تحت ضغط عال، إضافة إلى الضغوط السياسية التي مارستها الولايات المتحدة والدول الغربية"، وأفاد بأنه "بعد قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 بتعاون الجيش والقوات النظامية مع الشعب لإنجاح الثورة والوصول إلى هذه الفترة الانتقالية، جعل ذلك الإدارة الأميركية تناقش الوضع الجديد في السودان وتدعم الثورة السودانية. وهذه العملية نتيجة لمناقشات أدت لاتفاقين بين السودان وأميركا، الأول هو توصل الحكومة الانتقالية إلى تعويض ضحايا السفارتين الأميركيتين في دار السلام ونيروبي وضحايا المدمرة كول، والثاني، يتعلق بالحصانة السيادية للسودان من المساءلة، وأن السودان يحتاج إلى حماية من أن تتم مساءلته مرة أخرى عن أي جرائم إرهابية أخرى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد يوسف أنه "ليس هناك ضامن بأن الكونغرس لن يقوم بمساءلة السودان عن أي جرائم إرهابية أخرى، وهذه معضلة، ولكن يمكن للحكومة السودانية أن تستعين بمحامين أكفاء، إذ إنه عملياً لم يثبت على السودان شيء بخصوص أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وليس هناك مساءلة رسمية ضد السودان كدولة أو كشعب، وليس هناك ما يدعم هذه الوجهة. على الحكومة أن تكون واعية لأي مساءلات مقبلة، هذا في حال لم يمرر القانون ليعطي السودان الحصانة السيادية".
آخر العقبات
ويشير يوسف إلى أن "الأهم في هذا الاتفاق هو أنه أزال آخر العقبات أمام السودان لتظهر إزالة السودان من قائمة الإرهاب بعد 27 سنة من العقوبات والعزلة الدولية، فإن السودان سيعود لعضويته في المجتمع الدولي، وسيعود إلى موقعه في المنظمات الاقتصادية والمالية الدولية خصوصاً الغربية، مثل البنك الدولي والبنوك الأميركية والأوروبية. وسيساعد ذلك السودان على أن يعود فاعلاً وسيدخل في إجراءات تخفيض الديون ويستفيد من مبادرة "الهيبك". هذه نتائج إزالة السودان من القائمة وعلى الحكومة الانتقالية أن تخطو خطوات عملية نحو إصلاح الأزمات الاقتصادية، وسيكون بإمكان السودانيين في الخارج تحويل أموالهم إلى السودان بالتعامل المباشر مع البنوك الأميركية والأوروبية وغيرها، ويساعد على تهيئة المناخ الاستثماري في السودان".
آفاق السلام
وعن آفاق السلام التي يمكن أن تتحقق تبعاً لهذا القرار، يقول فائز جامع المدير السابق لكرسي اليونيسكو للسلام في السودان، ومدير مركز دراسات السلام والتنمية في جامعة بحري، إنه "بالنسبة إلى السلام كانت المعضلة هي كيفية دعم عمليات السلام التي وقعت في جوبا في ظل عقوبات ومشكلات في النظام المصرفي العالمي ضد السودان. وبرز ذلك في إعلان بريطانيا أنها لا تستطيع تقديم عون للسودان في عمليات السلام، مبررةً موقفها بأن السلام ليس كاملاً في ظل امتناع عبد الواحد محمد نور وعبد العزيز عن التوقيع عليه، غير أن السبب الحقيقي في ظني هو خشية الموقف الأميركي"، ويوضح جامع أن "رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب سيغري المتخلفين للحاق به وإلا سيتعرضون لعزلة دولية، هذا بالنسبة إلى القائدين المتخلفين عن اتفاقيات جوبا".
غطاء أممي
ويلفت جامع إلى أن "ما هو غير معروف تماماً هو أن الوضع الاقتصادي الداخلي في السودان على حافة الانهيار وإنقاذه وإنقاذ عمليات السلام يتوقف على المدى الزمني الذي سيستغرقه رفع اسم السودان من أن يصير فاعلاً لإنقاذ الموقف الداخلي"، ويتوقع جامع "وصول بعثة أممية ربما في يناير (كانون الثاني) المقبل وهي ستوفر غطاءً أممياً لعمليات السلام وغيرها، كونها ستتكامل مع الديناميات الأخرى الفاعلة في السودان وفي المنطقة".
ويختتم قوله بأن "هناك من المراقبين من يرى أن للوبي الإسرائيلي في دوائر القرار الأميركي دوراً كبيراً في رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، وكأنما يكافئ السودان على موضوع التطبيع، ولكن التناقض ينشأ من أن من هم وراء التطبيع الشق العسكري في الحكومة، بينما تبدو الولايات المتحدة أكثر حماسة للشق المدني برئاسة رئيس الوزراء حمدوك، وهذان المعسكران يبدو بينهما توتر، ربما يؤثر على عمليات السلام".
إن النظرة السودانية اليوم إلى مستقبل البلاد أصبحت متوائمة مع العلاقات الأميركية والدولية، بإنهاء جميع أنواع الاحتقان والانفتاح الدولي، فبعد إيفاء السودان بالتزاماته، يواجهه التزام من قبل الإدارة الأميركية بتنفيذ القرار الذي بموجبه ستُرفع قيود وعقوبات كثيرة، وهذا يعني أن الأمور ستذهب في مسارها الطبيعي بين أميركا والسودان، وهذه هي الصورة المشرقة، وفي جانب آخر تبرز الحاجة إلى تسليط الضوء على دور الحكومة الانتقالية وسط أجواء مفتوحة على كثير من الخيارات.