لا تزال العاصفة التي أثارها كسر القضاء اللبناني المحرمات والأعراف باستدعاء رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ووزراء آخرين تابعين لجهات سياسية نافذة، للاستماع إلى أقوالهم في قضية انفجار مرفأ بيروت تتفاعل، إذ تسلمها المجلس العدلي الذي ينظر في الجرائم الكبرى المرتكبة في لبنان. وتتجه الأنظار لمعرفة الخطوات التالية للمحقق العدلي فادي صوان، بعد رفض دياب والوزراء السابقين غازي زعيتر، وعلي حسن خليل ويوسف فنيانوس، المثول أمامه انطلاقاً من اعتبارهم أن الادعاء مخالف للدستور الذي يتحدث عن ملاحقة الرؤساء والوزراء أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بعد تصويت ثلثي أعضاء مجلس النواب.
في المقابل، يرفض القاضي صوان هذه الذرائع رفضاً قاطعاً ويضعها في خانة التهرب من المسؤولية والخوف من المحاسبة. وتقول مصادر مقربة من المحقق العدلي إن "تمرد المدعى عليهم الأربعة تحت أعذار متعددة يُعد إدانة معنوية لهؤلاء، واشارة واضحة إلى أن السياسيين في لبنان اعتادوا القفز فوق القوانين وعدم احترامها". وتساءلت المصادر "إذا كانوا متأكدين من براءتهم لماذا يتهربون من مواجهة القاضي ويتسترون خلف التحريض المذهبي والطائفي؟".
وكان الوزيران السابقان علي حسن خليل وغازي زعيتر، المدعى عليهما في القضية، أعلنا أن عدم مثولهما أمام القاضي صوان هو بسبب عدم تبلغهما وفق الأصول القانونية، مؤكدين أنهما طلبا عبر وكلائهما القانونيين، بطلب لنقل الدعوى من صوان إلى قاضٍ آخر لوجود "ارتياب مشروع"، وعدم حيادية المحقق العدلي. الأمر الذي اعتبرته مصادر القاضي صوان أمراً غير منطقي كون المحقق العدلي يُعين بموجب مرسوم من مجلس الوزراء.
أما وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس، فقال إنه سيواجه الادعاء على طريقته وبتوقيته، باعتباره محامياً لا حصانة برلمانية له، بعكس المدعى عليهما حسن خليل وزعيتر اللذين يشغلان مقعدين نيابيين في البرلمان اللبناني حالياً، وينتميان إلى كتلة "التنمية والتحرير" التي يتزعمها رئيس البرلمان نبيه بري.
تعليق التحقيقات
وأثار الإدعاء على المسؤولين الأربعة اعتراض جهات سياسية عدة بينها رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري وحزب الله. ويعتبر المعارضون لقرار صوان أن إدعاءه يُشكل خرقاً للدستور، خصوصاً من ناحية الحصانة الدستورية كون ملاحقة الوزراء تتم عبر مجلس النواب.
والشهر الماضي، طلب صوان من البرلمان التحقيق مع وزراء حاليين وسابقين للاشتباه بتقصيرهم الوظيفي حيال معالجة وجود مادة نترات الأمونيوم في المرفأ. إلا أن البرلمان رفض طلبه، فبادر إلى الإدعاء على المسؤولين الأربعة بتهم "الاهمال والتقصير والتسبب بوفاة" وجرح مئات الأشخاص.
وبحسب المفكرة القانونية، وهي منظمة غير حكومية متخصصة في شؤون قانونية وتُعنى بشرح القوانين وتفسيرها، فإن "الحصانة الدستورية تشمل الإخلال بالوظيفة الوزارية ولا تشمل استغلال هذه الوظيفة وتالياً لا القتل ولا الفساد".
وحذرت المفكرة القانونية من أن "يبقى كل هذا محاولة لتهدئة الرأي العام ما لم يترافق مع تحقيقات جدية حول مسؤولية هؤلاء وسواهم من وزراء لم يتم استدعاؤهم بعد".
وتقدمت نقابة محامي بيروت قبل أكثر من شهر بمئات الشكاوى الجزائية أمام النيابية العامة التمييزية باسم المتضررين.
في الأثناء، نقلت "وكالة الصحافة الفرنسية" عن مصدر قضائي أن القاضي صوان علّق التحقيقات لعشرة أيام بعدما تقدم كل من زعيتر وخليل المقربين من رئيس مجلس النواب نبيه بري، بمذكرة أمام النيابة العامة التمييزية طلبا فيها نقل الدعوى إلى قاض آخر، بعدما اتهما صوان بخرق الدستور بادعائه على وزيرين سابقين ونائبين في البرلمان.
وأوضح المصدر القضائي أن "الطلب أحيل إلى محكمة التمييز الجزائية"، مشيراً إلى أن "كل أطراف الدعوى، بدءاً من النيابة العامة التمييزية إلى المحقق العدلي ونقابة المحامين بوكالتها عن المدعين المتضررين جراء الانفجار، لديهم مهلة عشرة أيام للإجابة عن هذه المذكرة".
وبالنتيجة، أفاد المصدر بأن صوان "أوقف إجراءات التحقيق إلى أن تبت محكمة التمييز بطلب نقل الدعوى".
التسلح بالحصانة
وفي آخر تطورات التحقيقات في قضية انفجار مرفأ بيروت، علمت "اندبندنت عربية" أن المدير العام لجهاز أمن الدولة اللواء أنطوان صليبا حضر اليوم الخميس الى قصر العدل في الوقت الذي حدده المحقق العدلي مصطحباً معه مواكبة أمنية ضخمة، وبعد دقائق على مثوله أمام صوان، طلب المغادرة لأنه على مع رئيس الجمهورية ميشال عون! ويأتي هذا التطور مترافقاً مع معلومات عن إمكان تنحي المحقق العدلي عن هذه القضية بعد الإشكالات القانونية والأبعاد السياسية التي صاحبت استدعاءه لبعض النواب الوزراء السابقين وإمكان أن تشمل لائحة الاستدعاءات نحو 11 شخصية رسمية أو سياسية. وفي وقت لاحق أكد جهاز أمن الدولة حضور مديره أمام المحقق صوان بعد تسريبات صباحية بأنه لن يحضر.
وأمس الأربعاء، رفض البرلمان اللبناني الإدعاء على النائبين حسن خليل وزعيتر، طالباً الحصول على تفاصيل إضافية عن الاتهامات الموجهة إليهما. ويأتي موقف هيئة مكتب البرلمان اللبناني التي تضم عادةً ممثلين عن مختلف الكتل النيابية، بعد اجتماع عقدته برئاسة بري.
وقال نائب رئيس البرلمان إيلي الفرزلي بعد الاجتماع، "وصلتنا رسالة من القاضي صوان، واتُّخذ القرار بعدم نشرها من باب احترام القضاء اللبناني وحرصاً منا على قيامه بعمله على أكمل وجه. ونأمل الوصول إلى الحقائق المنشودة بشأن جريمة المرفأ وأسبابها". وأضاف أن "هيئة مجلس النواب أرسلت إلى القاضي صوان طلب الحصول على الملف الذي يحمل الاتهامات"، معرباً عن أسفه "لمخاطبة المجلس النيابي وكأنه أهمل ممارسة صلاحياته الدستورية".
وصرح الفرزلي "نحن لم نجد أي شبهة جدية أو غير جدية على كل مَن ذُكرت أسماؤهم... والمجلس النيابي ملتزم تطبيق القانون وفق قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى بحسب الملف المُرسَل من قبل القاضي المختص".
في المقابل، عمد المحقق العدلي القاضي فادي صوان إلى ترحيل موعد استجواب النواب المدعى عليهم إلى تاريخ 4 يناير (كانون الثاني) 2021، لمنح البرلمان فرصة اتخاذ القرارات المناسبة بما يتعلق بالحصانة النيابية، في حين حدد موعداً ثانياً للاستماع إلى دياب بعد ما رفض استقباله في مقره بالسراي الحكومي، الإثنين الماضي، وفق معلومات تشير إلى أن موقف رئيس حكومة تصريف الأعمال لن يتغير، لا سيما وأنه يلقى دعماً واسعاً انطلاقاً من مبدأ "رفض المس بموقع رئاسة الوزراء"، العائد بحسب العرف الدستوري اللبناني إلى الطائفة السنية.
الاستماع إلى الرئيس
وفي السياق، تشير المعلومات إلى أن المحقق العدلي يمكن أن يستمع إلى إفادة رئيس الجمهورية ميشال عون الذي تلقى ودياب رسالةً من جهاز أمن الدولة حول "الخطر" الذي يشكله تخزين هذه الكميات في المرفأ في 20 يوليو (تموز)، أي قبل أسبوعين على الانفجار الكارثي في 4 أغسطس (آب) الماضي. وقال عون حينها، إنه أحال المذكرة التي تلقاها إلى مجلس الدفاع الأعلى لاتخاذ التدابير اللازمة.
وكانت كل الأجهزة الأمنية والجمارك وإدارة المرفأ والقضاء ومسؤولون سابقون وحاليون يعلمون بوجود كميات هائلة خطرة من نيترات الأمونيوم مخزنة في المرفأ، حتى أن جهازاً أمنياً حذر السلطات من أن اشتعال هذه المواد قد يؤدي إلى انفجار مدمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مذكرات جلب
ويأتي ذلك في وقت تختلف الاجتهادات الدستورية في لبنان حول هذه الأزمة، وتتجه الأنظار إلى ما ستكون عليه الخطوة المقبلة التي سيقوم بها صوان. وفي السياق، ذكرت المحامية السابقة في المحكمة الجنائية الدولية، ديالا شحادة، أن "هناك جدلاً قانونياً حول هذا النوع من الصلاحيات، إلا أن الدستور يميز في مسألة محاكمة الرؤساء والوزراء، وفقاً لطبيعة الجرم، إذ تقتصر محاسبتهم عن طريق المجلس النيابي بجريمة الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات الوظيفية فقط".
ولفتت شحادة إلى أن "الاتهامات الموجهة للمدعى عليهم تتضمن جريمة التسبب بالوفاة، وهي من نوع الجناية وتحديداً القتل غير العمد، وبالتالي يستحيل وضعها تحت خانة الإخلال بالواجبات الوظيفية، وسحب الصلاحية من القضاء العدلي"، مشددةً على أن "خطوة القاضي صوان صحيحة من الناحية القانونية، إذ إن الجرائم المرتبطة بالإخلال بالمهمات الوظيفية محددة في قانون العقوبات تحت فصل الجرائم ضد السلطة، ومنها عرقلة تنفيذ أمر قضائي، جلب منفعة عبر الوظيفة وغيرها".
واعتبرت المحامية شحادة أن "لقاضي التحقيق إذا امتلك الجرأة والاستقلالية، الحق بإصدار مذكرة جلب في حال لم يحضر المطلوبون أمامه، كما بإمكانه إصدار مذكرات توقيف وجاهية أو حتى غيابية، متى كان الشك متوافراً بحقهم"، الأمر الذي رأت مصادر قضائية أنه مستبعد حتى الساعة لأسباب سياسية وأمنية.
وكان وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي أعلن في تصريح صادم، أنه لن ينفذ أي مذكرات اعتقال بحق دياب أو مسؤولين آخرين إذا رفضوا استجوابهم، الأمر الذي رأت فيه مصادر قضائية تمادياً بضرب هيبة الدولة واستقلالية القضاء.
ملاحقة وزير الداخلية
ورداً على كلام فهمي، أكد مدعي عام التمييز السابق القاضي حاتم ماضي أن "الضابطة العدلية هي تحت إمرة النائب العام، وللدرك أو الشرطة الحق في تنفيذ القرار حتى لو رفض وزير الداخلية، الذي سيتحمل عندها مسؤولية قراره وتمكن ملاحقته".
وأوضح ماضي أنه "في حال لم يحضر المدعى عليه أمام القاضي في المرة الأولى، يمكن للأخير أن يدعوه مرة ثانية أو ثالثة بالطريقة ذاتها، وإذا لم يحضر فهذا يدل على وجود نية بعدم الحضور، إلا في حال اعتذر المدعى عليه بعد تبليغه وقبل القاضي عذره، عندها لا يمكن اعتبار أنه تخلف عن
الحضور". ولفت إلى أنه من بين الخطوات التي يمكن أن يلجأ إليها القاضي صوان، "إصدار مذكرة إحضار تُبلغ إلى الضابطة العدلية، وتُنفذ بواسطة الشرطة، التي عليها أن تجلب المدعى عليه قبل 24 ساعة من موعد الجلسة".
تأييد شعبي
وفي خطوة أظهرت حجم التأييد الشعبي للجرأة القضائية غير المعهودة بملاحقة رؤوس كبيرة في الدولة اللبنانية، نظم أهالي ضحايا انفجار المرفأ وعدد من ثوار 17 أكتوبر (تشرين الأول) مسيرةً إلى منزل القاضي صوان في منطقة الأشرفية (شرق بيروت) طالبوه فيها أن "يكمل على الكل" (أي أن يتابع لمحاسبة كل المسؤولين) رافعين صور قادة أمنيين وعسكريين حاليين وسابقين وصور سياسيين وحزبيين، داعين إلى محاسبتهم جميعاً من دون تمييز. وحيا المشاركون وقفة المحقق العدلي وطلبوا منه عدم الرضوخ لأي مرجعية سياسية كانت أو دينية، والضرب بيد من حديد، والاستمرار في مهمته واستدعاء كل المسؤولين على السواء أو التنحي، وعدم التساهل بدماء الذين سقطوا ودماء الجرحى.