عرضنا في الحلقة الأولى آراء بروتاغوراس وجورجياس السفسطائية أو المغالطية في المعرفة، وكذلك أفكار أقطاب العقلانية اليونانية سقراط وأفلاطون وأرسطو المغايرة عن مفهوم السفسطائيين، علاوة على مخالفة أرسطو أستاذه أفلاطون في مفاصل معرفية مهمة.
الفارابي وابن سينا
يقر أبو نصر محمد الفارابي (257- 339 هـ/870- 950 م) بأن المعرفة تقوم على ثلاث ركائز، هي "حسية، وعقلية، وإشراقية"، ولكل واحدة منها حيزها المادي والتجريدي والإلهي، منها مشتركة بين الإنسان والحيوان، ومنها ما يتميز بها عن الحيوان، ومنها ما يعلو بها إنسان عن آخر، بحسب القدرات في تحصيل العلوم والمعارف. وهذه النظرية مزيج من أفكار أرسطو ومنطقه، والتصوف ومكاشفاته، والدين ووحيه.
وفي كتابه "الجمع بين رأيي الحكيمين" (أفلاطون وأرسطو)، يرى الفارابي أن المعرفة الأولى التي تحصل عليها النفس البشرية تكون عن طريق الحس، إذ إن "إدراك الحواس إنما يكون للجزئيات، وعن الجزئيات تحصل الكليات، والكليات هي التجارب على الحقيقة". بمعنى، أن الإنسان يدرك الجزئيات وفق صورها وأشكالها المادية، كالفعل والانفعال مثلاً. وبعد المعرفة الإدراكية تأتي المعرفة الظاهرية بواسطة الحواس الخمس، مثل الحرارة والبرودة، وجميع ما تدركه الحواس الخمس هو الإحساس بالحقيقة.
بيد أن هذه المعرفة، بحسب الفارابي، لا تحصل هكذا في الإنسان من خلال إدراك مباشر للحس بالمحسوسات، وإنما هناك قوى نفسية متعددة تتدخل بغية إتمامها وإكمالها، ولكن هذه القوى على الرغم من تعددها، تتفاوت في وظيفتها بحسب الكائن، فإن إدراك الجزئيات بصورها المادية تكون مشتركة بين الإنسان والحيوان، إلا أن الإنسان يمتاز فيها بالنزوع نحو التفكير. ولهذه القوى جانبان: ظاهري وباطني، الأول يخص الحواس الخمس، والثاني يخص الحس المشترك كالخيال والوهم والذاكرة.
إن قوى الإدراك هي أدوات المعرفة، فالمتخيلة تحفظ صور المحسوسات التي يؤديها الحس المشترك، على الرغم من غياب الحس عنها، إذ تعمل المخيلة في فصل بعض الصور المحفوظة عندها، أو تقوم بجمع صور إلى بعضها، ولذلك يكون في المنام أحلام، لأن الإحساس يحاكي قوة الخيال، فإذا أحس جسم النائم بالرطوبة مثلاً، فإن الحلم يكون عن المياه أو السباحة أو وفق ما يتعلق بذلك. وكلما كانت هذه العوارض في المخيلة ذات قوة وسيطرة على الواقع، فإن الأشياء المتخيلة تكون أكثر واقعية. "وهذه القوة تقوم في الحيوان مقام القوة الناطقة في الإنسان" (السياسية المدنية).
وكذلك القول عن الوهم، الذي يدرك فيه الكائن الحي ما لا يُحس، كما في إدراك النعجة مثلاً، إذ تحس بأن الذئب عدوها فتهرب منه من غير أن يكون لها تجربة أولية تعي فيه هذا الخطر، ولكنها تُحس ما لا يُحس بمعناه. أما الذاكرة فهي خازنة الوهم وحافظة صور الأشياء. وعليه، فإن المعرفة الحسية لا يمكن لها أن تتم إلا عبر "وسائط"، إذ تبدأ الحواس بالمحسوسات فتنتزع صورها. وتحصل في هذه العملية تعاقبات متوالية تقوم بها القوة المتخيلة، إذ تجري على الصور تهذيباً لكي تنقيها من علائقها الشائبة فيها بغية وصولها إلى مرتبة العقل، الذي هو "هيئة ما في مادة معدة لأن تقبل رسوم المعقولات" (آراء أهل المدينة الفاضلة).
وهذه المعرفة تخص الإنسان دون سواه، إذ يدرك بالعقل التجريدات الخالصة أو المعاني الكلية مثل: الله، الملائكة، الروح، الرياضيات، الهندسة وغيرها. ويمتلك هذا العقل ثلاث درجات هي:
أ- العقل بالقوة، وهو العقل المنفعل أو العقل الهيولاني (المادي)، فإذا ما أدرك صور الأجسام في الخارج صار عقلاً بالفعل، إذ يكون فارغاً من المعلومات، إلا أنه يتقبل المعلومات كلها. ويحتفظ بصور الموجودات وفقاً لماهياتها وليس لمادياتها، إذ يجرد الموجودات وينزع عنها آليتها محتفظاً بمعانيها المجردة فحسب.
ب- العقل بالفعل، وهو يكون بعد حصول صور الموجودات، إذ يدرك المعقولات بعد انتقاله من وضع الفعل، وذلك بواسطة المعرفة المكتسبة، المعقولات التي كانت بالقوة تصبح بعد انتزاعها معقولات بالفعل. وهذه الصور أو المعقولات ليست كالأشياء خاضعة للأين والمتى والوضع والكيف والكم والفعل والانفعال، بل هي مجردة عن المادة. وهذا لا يعني أن العقل هو غير المعقولات بل هما شيء واحد تماماً، كالشمعة المشتعلة يُنقش فيها النقش على السطح وفي أعماقها في آن، والسطح والعمق منصهران تماماً كالعقل والمعقولات، ولكن عملية هذا الانتقال من القوة إلى الفعل لا تكون بفعل الإنسان، وفق تصور الفارابي، وإنما بتأثير عقل آخر هو دائماً بالفعل ويكون أعلى من مرتبة العقل الإنساني، ألا وهو العقل الفعال، عقل فلك القمر، الذي هو بمثابة الضوء الذي تعطيه الشمس إلى البصر.
ت- العقل المستفاد، وهو العقل الذي أصبح بالفعل يدرك المعقولات كلها، وقد اكتسبها في نفسه من حيث صورها المجردة لا مادياتها، وأن الإنسان الذي استكمل عقله المنفعل بالمعقولات كلها، صار عقلاً بالفعل، ومعقولاً بالفعل، وصار المعقول منه هو الذي يُعقل، عندها يحصل له عقل هو فوق رتبة العقل المنفعل. وهذا العقل هو أرقى من العقل المنفعل وأكثر كمالاً، وأكثر اقتراباً من العقل الفعال وابتعاداً عن المادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعندما يصبح عقل الإنسان عقلاً مستفاداً، ولا يعود بينه وبين العقل الفعال مسافة تفصل بينهما، فإن الحقائق التي تتجلى من العقل الفعال، كونه واهب الصور، إذ تفيض منه كإشراقات تتنزل على من استطاع أن يتحرر من قيود المادة ويرتفع إلى مرتبة الكائنات السماوية. وإذا حصل ذلك لإنسان ما، كان الذي يوحى إليه بواسطة العقل الفعال هو الله، تعالى، لأن الله الذي يفيض منه إلى العقل الفعال، فإن الأخير يعود ويفيضه إلى العقل المنفعل لهذا الإنسان، وبذلك يصبح هذا الإنسان فيلسوفاً، أما ما يفيضه العقل المستفاد إلى مخيلته، فإنه يصبح "نبياً منذراً بما سيكون ومخبراً بما هو الآن من الجزئيات. وهذا الإنسان هو في أكمل مراتب الإنسانية وفي أعلى درجات السعادة" (المدينة الفاضلة). والنبي يدرك المعقولات أو الكائنات العلوية المتجردة من الأجسام وفق حالتها الراقية والشريفة إذ يراها من دون حجاب.
هذه نظرية المعرفة عند الفارابي بأعمدتها الثلاثة "الحسية، والعقلية، والإشراقية"، التي رتبها وفق درجات متفاوتة ومختلفة بحسب قدرات البشر عند قربهم أو بُعدهم من العقل الفعال والاستغراق فيه. فهناك الناس العاديون ثم الحكماء والعلماء ثم أعلاهم شأناً الأنبياء. وتأثير أرسطو واضح في الجانب الحسي، والفارابي نفسه كرر أقوال أرسطو في أهمية الحس.
وعلى نهج الفارابي سار أبو علي الحسين ابن سينا (370- 428 هـ/980- 1037 م)، فمصدر المعرفة الإنسانية هو العقل الفعال، الذي تفيض منه صور الماهيات من مبدع الكل، وما الجسم والحواس إلا وسائل تهيئ العقل الإنساني لقبول ذلك الفيض ليس إلا. وإذا كان أرسطو يركز على أن المعقولات تُستمد من المحسوسات، فإن ابن سينا يخالفه ويعد المحسوسات ثانوية، ويتفق مع الفارابي بجعل المعرفة العقلية مطابقة للماهيات الأزلية الثابتة، وبذلك فإن الكلي يوجد مستقلاً عن وجود الأشخاص المتكثرة، فتفيض هذه الكليات عن الله وتتصل بالأشخاص وبالعقل الإنساني في آن.
ويذهب ابن سينا في تقسيم المعرفة إلى ثلاثة أنواع "الفطرة، والفكرة، والحدس". فالمعرفة بالفطرة هي معرفة المبادئ الأولية، مثل "الكل أكبر من الجزء" و"إن الواحد نصف الاثنين" وغيرها. أما المعرفة بالفكرة، فهي معرفة مكتسبة بإدراك المجردات المعقدة والكليات العامة والانتقاش بها، ولا يمكن إدراكها إلا بمجهود أكبر ليصل إلى مرتبة العقل المستفاد. والمعرفة بالحدس، تخص من لا يحتاج إلى مجهود في أن يتصل بالعقل الفعال، "كأنه يعرف كل شيء بنفسه حدساً، بلا قياس ولا معلم، وكأن فيه روحاً قدسية لا يشغلها شأن عن شأن ولا يستغرق الحس الظاهر حسها الباطن" (الإشارات، القسم الثاني).
وهذا الحس متفاوت الدرجات بين الناس، ويقبل الزيادة والنقصان دائماً، فيمكن أن يكون شخص من الناس مؤيد النفس بشدة الصفاء والاتصال بالمبادئ العقلية إلى أن يشتعل حدساً في قبوله "إلهام العقل الفعال في كل شيء، فترتسم فيه الصور التي في العقل الفعال من كل شيء، أما دفعة وأما قريباً من دفعة، وهذا ضرب من النبوة بل أعلى قوى النبوة، وينبغي تسمية هذه القوة قوة قدسية، وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية" (النجاة).
وفي شأن عملية الإدراك المعرفي، يرى ابن سينا أن التجريد، هو أول المعرفات، وذلك عن طريق اكتساب المعقولات بتجريد الصورة عن المادة، ويقسم التجريد إلى أربعة أنواع، "حسي، وخيالي، ووهمي، وعقلي". الإدراك الحسي هو الحس المشترك الذي يأخذ الصورة عن المادة بكل ما فيها من الكم والأين والكيف والوضعية، لكنه لا ينتزع الصورة تماماً، بل يحتاج إلى المادة ليكوّن صورة.
أما الإدراك الخيالي، فعلى الرغم من أنه ينزع الصورة من المادة بدرجة أقوى من الإدراك الحسي، وتبقى الصورة ثابتة الوجود في الخيال، لكن لا تزال لواحق المادة عالقة بها.
والإدراك الوهمي هو أرفع من الخيال في التجريد، ويكتسب المعاني غير المادية بذاتها، إلا أنه لا يجرد الصورة نهائياً عن لواحق المادة، لأنه لا يزال على صعيد الجزئيات، ويصنف الصورة بحسب المادة.
والإدراك العقلي هو أن يأخذ العقل الصور مجردة عن المادة وكل ما يتعلق بها، مثل صورة الإنسان، يفرزها عن الكم والكيف والأين والوضعية، فتقال الكلمة على جميع الناس، والعقل وحده يقوى على إدراك المجردات، الله، الروح، الملائكة أوعقول الأفلاك، وهذا الإدراك إشراق من العقل الفعال، ولكن وفق نسبة منه إلى نفوسنا التي هي بالقوة عقل، كنسبة ما يكسبها المعقولات حتى تصير عقلًا بالفعل.
وعلى الرغم من أن نظرية المعرفة عند ابن سينا تسير في خطها العام على نهج الفارابي، لكن فيها معرفة إشراقية تخص رؤيته في القوة القدسية، وكذلك يمتاز بمعرفته الطبية التي جعلته يهتم بالتفاصيل المعرفية ودقة التشخيص النظري فيها، إذ سردها بأسلوبه الفلسفي السلس.