تشهد العلاقات السودانية الإثيوبية حالة من الترقب الحذر، بسبب تكثيف الخرطوم تعزيزاتها العسكرية على الحدود الشرقية المتاخمة لأديس أبابا، وبسط نفوذها على منطقة الفشقة التي كانت تسيطر عليها مجموعات من السكان الإثيوبيين بحماية ميليشيات إثيوبية تسمى "الشفتة" قرابة ثلاثة عقود.
لكن، كيف ينظر المراقبون السياسيون والعسكريون إلى هذا المشهد والتطورات التي تجري على أرض الواقع، وما ستسفر عنه جهود القيادتين في البلدين لتهدئة الوضع، ورأب الصدع من خلال استئناف لجنة ترسيم الحدود المشتركة أعمالها في العاصمة الخرطوم، للوصول إلى اتفاق يضع حداً لهذه المشكلة الحدودية بين الدولتين الجارتين؟
الناطق الرسمي باسم الجيش السوداني سابقاً الفريق أول ركن (معاش) محمد بشير سليمان أوضح أن "كل الحقائق تدعم الموقف السوداني، وموقف قواته المسلحة لأسباب عديدة، أهمها أن الميليشيات الإثيوبية على الحدود المشتركة التي يطلق عليها (الشفتة) اعتدت على الجيش السوداني ثلاث مرات هذا العام من دون أن يبادر الأخير بأي اعتداء أو رد مماثل". وأضاف أن "المؤسف هو أن الهجوم حدث داخل الأراضي السودانية التي تستوطن فيها مجموعات من قبائل الأمهرة المدعومة من الحكومة الإثيوبية، ومعروف أن الأراضي التي تسيطر عليها هذه المجموعات سودانية بموجب اتفاق ترسيم الحدود الموقع في 1902. وما يؤسف أيضاً أن تدور هذه الأحداث، في وقت تحتضن فيه أديس أبابا الاتحاد الأفريقي، ما يتناقض ويسيء إلى هذا الاتحاد، فضلاً عن تهديدها السلم والأمن القومي وأمن البحر الأحمر. لكن بشكل عام ما قام به الجيش السوداني ليس اعتداءً، بل هو استرداد لأراض، له عليها سيادة وطنية، وكذلك لها بعد غذائي كانت تستغله إثيوبيا لصالحها".
رسائل عدة
وتابع سليمان "ما يجري بين البلدين يجب أن يحل عبر التفاوض والحوار، بعيداً عن السلاح واستخدام القوة، لأن أي اندلاع حرب يؤثر في أمن وسلم هذه المنطقة، ويزيد من أعداد اللاجئين، وهو أمر غير محمود لا تؤيده المواثيق الدولية. لكن، أعتقد أنه بسيطرة الجيش السوداني على آخر نقطة حدودية يكون قد بدأ يعود إلى واجباته الأساسية المتمثلة في حماية الأمن، خصوصاً أن هذه الأراضي الحدودية احتُلت من الجانب الإثيوبي على مدى ثلاثة عقود".
وأشار إلى أن هذه الخطوة "تتضمن رسائل عدة، أبرزها يجب أن تضع عملية ترسيم الحدود بين الدولتين الأمور في نصابها الطبيعي وفقاً لاتفاقية 1902، كما أن ما حدث فرصة سانحة تيسرت للجيش السوداني الذي كان مستهدفاً من قوى داخلية، بأنه لا توجد دولة من غير جيش، وأنه يمثل قوة عسكرية واقتصادية وسياسية مؤثرة على كل الصعد، وعلى الذين يهاجمون هذا الجيش أن يعوا أن السودان بحدوده الممتدة مع سبع دول، فضلاً عن هشاشة مجتمعه، يحتاج إلى جيش قوي ورادع للحفاظ على أراضيه ووحدته".
وأكد الناطق الرسمي السابق باسم الجيش السوداني، أن "كل الاحتمالات واردة في الأيام المقبلة، إما الهدوء وإما التصعيد. لكن الواقع ومنطق العقل والجوار يقول إنه يجب أن يعاد الحق إلى أصله، وبعده يمكن أن يحدث تعاون اقتصادي واستثماري بين الدولتين. وعلى الجانب الإثيوبي أن ينظر إلى هذا الأمر في إطار الأمن القومي له، خصوصاً أن أديس أبابا ظلت على مدى سنوات تعمل على تسويف قضية ترسيم الحدود، وبالتالي على الجيش السوداني أن يستعد بأعلى درجة، لأنه ليس هناك ضمان بأن يكون التسويف الإثيوبي قد انتهى بعد إعادة الأراضي السودانية بمنطقة الفشقة الحدودية، ويجب على إثيوبيا أن تبرهن على مصداقيتها، مع العلم أن الحرب لا تعالج مشكلة، وأن الحوار هو النهج السليم الذي يقود إلى تبادل المنافع والمصالح".
عصابات الشفتة
من جانبه، أشار الرشيد محمد إبراهيم أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعات السودانية، إلى أن الخلاف بين البلدين على الحدود متوارث منذ خمسينيات القرن الـ20، والثابت أن (الفشقة) منطقة سودانية باعتراف اللجان الوزارية التي رسمت الحدود على الورق، وجرى التوقيع عليها. لكن ظل الجانب الإثيوبي يطلب تأجيل وضع العلامات الحدودية لأسباب داخلية ترتبط بمشكلات بين الحكومة ومجموعة الأمهرة التي تقطن منطقة الفشقة". وزاد "بيد أن عدم قدرة إثيوبيا على حسم تفلتات عصابات الشفتة بتعديها على المزارع داخل الأراضي السودانية، واستفادتها من هذه العصابات في بسط حدودها، كانا سبباً في تدخل الجيش السوداني لحماية أراضيه ومصالح مواطنيه وأمنه الغذائي، من خلال إعادة انتشاره في حدوده، وليس تعدياً على الأراضي الإثيوبية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبيّن أن الخرطوم استفادت من الخطأ الإستراتيجي الذي وقعت فيه الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا التي كانت تعتقد أن الحرب في إقليم التيغراي ستكون خاطفة وسريعة، لكنها فوجئت بأنها مستمرة، كونها حرب عصابات ومدن يصعب حسمها، لافتاً إلى أن السودان "يمتلك الحق والتعاطف الداخلي والإقليمي، بخلاف الجانب الإثيوبي الذي يواجه عدم وحدة الصف الداخلي، فضلاً عن عدم قدرته على إدارة حربين في وقت واحد. بالتالي ليس لدى أديس أبابا خيارات غير الاتجاه إلى بدء خطوات الاتفاق على ترسيم الحدود، لكنها لن تكون الخطوة الحاسمة".
ترسيم الحدود
في غضون ذلك، استأنف الجانبان في العاصمة السودانية الخرطوم، الثلاثاء (22 ديسمبر)، اجتماعات اللجنة السياسية العليا لمناقشة القضايا العالقة بشأن الحدود بين البلدين، حيث رأس الجانب السوداني وزير شؤون مجلس الوزراء عمر مانيس، بينما الطرف الإثيوبي نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية ديميكي مكونين.
وأكد مانيس، في افتتاح اجتماعات اللجنة، الإرادة السياسية القوية التي يتمتع بها الطرفان، لإعادة ترسيم الحدود بينهما، وامتلاكهما صورة واضحة ومعرفة متراكمة بالموضوع وثقة متبادلة، منوهاً إلى الروابط التاريخية والعلاقات الحميمية القوية بين السودان وإثيوبيا.
وبيَّن أن اللجنة ستناقش بنداً مهماً، وهو تحديد موعد بدء العمل الميداني لترسيم الحدود المشتركة بين الدولتين، الذي سيُسهم في تأسيس لبنة جديدة في خريطة العلاقات الثنائية وحسم المسائل العالقة فيما يتصل بمسألة الحدود.
حل دائم
في المقابل، قال نائب رئيس وزراء إثيوبيا خلال الاجتماعات، إن "ما شهدناه، أخيراً، لا يدل على علاقات ودية بين البلدين، ولهذا نريد إعادة تفعيل الآليات القائمة، كما لا بد من إيجاد حل دائم على الحدود، يتطلب تسوية ودية للمسائل المتعلقة بالسكن وزراعة الأراضي".
واتهم الوزير الإثيوبي القوات السودانية باستغلال النزاع في تيغراي للتقدم على الأرض التي تعتبرها إثيوبيا تابعة إليها، مبيناً أنه "منذ 9 نوفمبر (تشرين الثاني)، شهدنا نهب منتجات المزارعين الإثيوبيين، وتعرضت مخيماتهم ومحاصيلهم للتخريب. لذلك نحن قلقون للغاية".
وأكد مكونين التزام بلاده بدعم الخرطوم في هذه الفترة الانتقالية والعمل معها في القضايا الثنائية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك، مشدداً على أهمية ألا تعكر بعض التوترات على الحدود صفو العلاقات المتجذرة بين البلدين، حيث أن التصعيد من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الوضع وتعطيل الأنشطة اليومية للشعبين.
مطالب لوجستية
كذلك التقى نائب رئيس وزراء إثيوبيا، رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك. وبحسب بيان صادر عن مجلس وزراء السودان، فإن اللقاء أكد ضرورة خوض حوار شفاف بين قيادات البلدين العسكرية والسياسية، لإنهاء ترسيم الحدود.
كما تناول اللقاء أجندة مباحثات لجنة الحدود ومطلوبات العمل اللوجستية في معالجة كل النقاط التي تطرح عبر محاور عملها، وذلك للخروج بتوصيات تعين أعمال اللجنة في إنجاح مهمتها.
تعزيزات عسكرية
ويتمثل الخلاف الأبرز حول منطقة الفشقة بولاية القضارف، التي تبلغ مساحتها 250 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الزراعية التي يطمع بها المزارعون في كلا البلدين.
وكانت القوات المسلحة السودانية قد أعلنت في وقت سابق أن قوة تابعة لها تعرضت لكمين داخل الأراضي السودانية في منطقة أبو طوير شرق ولاية القضارف، ما أسفر عن مقتل أربعة جنود وإصابة عشرين آخرين، متهمة القوات والميليشيات الإثيوبية بتنفيذه.
وذكرت وكالة الأنباء السودانية الرسمية، السبت الماضي، أن الخرطوم أرسلت تعزيزات عسكرية كبيرة إلى الحدود بعد أيام من "كمين" للجيش الإثيوبي وميليشيات ضد جنود سودانيين.
وأكدت أن القوات المسلحة السودانية واصلت تقدمها في الخطوط الأمامية داخل الفشقة لإعادة الأراضي المغتصبة والتمركز في الخطوط الدولية وفقاً لاتفاقات 1902.