لم تكن زيارة الوفد الأمني والسياسي المصري لغرب ليبيا مفاجأة كما يتصور البعض، بخاصة أن مجمل الحركة المصرية في الفترة الأخيرة داخل ليبيا مثّل بالفعل قلقاً وهاجساً للجانب التركي، وهو ما دفعه إلى إعادة ترتيب أولوياته والانتقال من الإجراءات العامة لتدابير سياسية وأمنية مع الالتزام بما حددته مصر في ملف التعامل من قرب أو بعد عبر الالتزام بمسار خط الجفرة سرت منذ أن وضعته الأخيرة، وبما لا يخل بقاعدة التوازن السياسي والاستراتيجي الراهنة، التي تفهّم أبعادها الجميع. ويمكن اعتبار الزيارة المصرية إلى طرابلس بأنها لا تمثل تغييراً كبيراً في السياسة المصرية تجاه التطورات الليبية بقدر ما تمثل رسالة لإيضاح موقفها السياسي والاستراتيجي، وإلى أنها تستطيع التحدث إلى طرابلس، بل ولديها الإمكانيات لذلك وليس قبولاً بالوضع الراهن بصورة دائمة.
تحركات متعددة
سيؤدي التدخل المصري المباشر، وليس عبر وسطاء، في غرب ليبيا إلى إعادة التوازن بالمعادلة الليبية، في ظل رهانات بأن الخيار العسكري لن يحل الإشكالية الحقيقية الراهنة في البلاد، وفي ظل عدم قدرة قوات الجيش الليبي حسم الأمر عسكرياً وعجز حكومة الوفاق على تحقيق إنجاز عسكري حتى مع التدخل التركي وإعادة دعم ومساندة الوفاق، فالجانب التركي لا يريد المواجهة المباشرة، ولا يزال معتمداً على قوات المرتزقة، وسيظل وعلى الرغم من تجديد التصريح للقوات التركية بالبقاء والعمل في الساحة الليبية لمدة 18 شهراً، وهو ما يؤكد أن الجانب التركي لن يخرج أصلاً، وأنه ساع للتموضع الاستراتيجي.
تكشف تصريحات وتهديدات المشير حفتر بضرب الوجود التركي خروجاً عما هو مقدر ومتعارف عليه طوال الفترة الماضية بل وطرح فكرة حمل السلاح مجدداً لـ"طرد المحتل" التركي. وقال في كلمة بمناسبة ذكرى استقلال ليبيا الـ69، اليوم نذكّر العالم بموقفنا الثابت بأنه لا سلام في ظل المستعمر، ومع وجوده على أرض ليبيا. ومن ثم كان الرد التركي مباشراً، وجاءت زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي كار وقادة الجيش التركي لترد على المشير حفتر فعلياً، ومع ذلك يبقى الأمر في نطاقه، خصوصاً أن القاهرة الطرف الرئيس وللإمارات مواقف مباشرة في هذا السياق، وسبق أن طرحا وجهات نظر عسكرية وسياسية في مقاربة التعامل من قبل قوات الجيش الليبي، بخاصة أن المستهدف تغيير قواعد اللعبة الرئيسة والعمل على بناء قواعد جديدة في ظل استمرار محاولات الأمم المتحدة لعقد حوارات والتزامات بناء على هذا الهدوء لم تنجح. ربما باستثناء محادثات اللجنة العسكرية المشتركة لليبيا، والمعروفة باسم (5 + 5).
تملك القاهرة تصورات ورؤى واتصالات غير معلنة ليس على مستوى وزير الداخلية فتحي باشا أغا ودائرته الضيقة فقط، بل مع كل الأطراف في الخريطة الليبية في الغرب، وسبق أن تواصلت مع بعض العناصر قبل وبعد لقاءات الغردقة، وهو ما يؤكد أن مصر تملك رصيداً حقيقياً في التعامل مع الجانبين، خصوصاً أن القاهرة سبق ومارست دور الوسيط المباشر بين الجانبين في القاهرة، وهو أمر مرشح للتواصل، والمحاكاة بصرف النظر عن الحضور التركي الكبير في الداخل الليبي والساعي للتمركز عبر استراتيجية الوجود المقيم وتحقيق مصالحه، حيث تعتبر ليبيا بالنسبة له جزءاً من كل؛ حيث المفاوضات والاتصالات والمخططات في شرق المتوسط ومسعى تركيا لفكرة المقايضات الإقليمية الكبرى وعقد الصفقات والترتيبات، والسعي لدخول منتدى غاز المتوسط كطرف مؤثر على أن تعلو المصالح الاقتصادية على نظيرتها السياسية، وهو ما برز في الخطاب السياسي والإعلامي للسياسة التركية، أخيراً، كما برز في لغة الاستجداء للتفاوض مع مصر، وهو ما تعاملت معه مصر بحذر في إطار استراتيجية مخطط لها جيداً سياسياً وعسكرياً، وبرز في بعض التحفظات على هجوم قوات الجيش الليبي على الغرب الليبي، حيث كان من الواضح أنه كان للقاهرة موقف متحفظ وتشكك لنجاح العملية العسكرية التي كانت على بعد نحو ألف كيلو متر من قواعده وتحركاته ووجوده، حيث أعطى هذا الهجوم مبرراً للجانب التركي لدخول طرابلس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيرتب التواصل المصري مع غرب ليبيا سيناريوهات جديدة في إطار أن ما تم، أخيراً، كان ثمرة اتصالات ولقاءات تمت وبرزت إعلامياً في زيارة وزير المخابرات العامة اللواء عباس كامل ثم الزيارة المعلنة للوفد المصري، وفي إطار تواصل التعامل السياسي والاستراتيجي مع شرق ليبيا، بل ومع الجنوب الليبي، فالرسالة المصرية واضحة الانفتاح على كل الأطراف لبناء مسار سياسي واستراتيجي يخدم الخيار السياسي، وليس العسكري، خصوصاً أن مسارات المشكلة الليبية تعددت وتنوعت بصورة لافتة، وهو ما قد يلقي بتبعاته على كل الأطراف في ظل تحرك أممي وحضور روسي وفرنسي بصورة غير مباشرة، وترقب الجزائر وتونس لما يجري، بخاصة أن الخطوة المصرية ستنقل رسائل إقليمية لدول الجوار بالاقتراب مجدداً والانخراط المصري المباشر مع غرب ليبيا، وهو ما قد يعرقل أي طرح مقدم أو ينهي بعض المبادرات التي تعددت في الأشهر الأخيرة، وأثرت في الحضور المصري.
وفي ظل انغماس الجانب التركي في تبني سياسة عسكرية ومحاولة فرض وصاية عسكرية على الغرب الليبي، وفي ظل بعض التحفظات التي أبداها البعض من قيادات الغرب الليبي، بل ومن داخل القوى المحسوبة على الإخوان المسلمين وعلى يمينها ويسارها، وهو ما قد يغير من قواعد وضوابط ما يجري، وقد بدت شواهده في تبادل الأسرى والعناصر من الجانبين، وفي مراجعة اتفاق الهلال النفطي والوجود الأممي مجدداً.
يشار إلى أن القاهرة شهدت في سبتمبر (أيلول) الماضي، عودة الزيارات التي انقطعت لما يقرب من عامين لوفود المنطقة الغربية الليبية الذين يدعمون حكومة الوفاق.
تنظر القاهرة لكل ما يجري وتقيم سياستها الاستراتيجية بهدوء، وفي ظل حسابات دقيقة للتحركات التركية، التي تتواصل وتبحث عن أوراق ضاغطة ومخططها الجوهري التوصل مع القاهرة لنقطة حوار حقيقي لتقاسم ما يجري أو الأقل العمل على بناء وضع راهن يحفظ للجانب التركي مصالحه، خصوصاً أن الاتفاق التركي الليبي في ملف ترسيم الحدود البحرية وترسيم اتفاقيات الشراكة ووضع نقاط تمركز وانتشار استراتيجي في مواقع عسكرية ليس هدفه تأكيد الحضور، وإنما في الأساس البحث عن وجود عسكري دائم ليس شرطاً أن يكون قاعدة متمركزة، فهذا سيأخذ بعض الوقت، وهو ما كشفت عنه تطورات الأوضاع بعد مواجهة الوطية، وإدراك الجانب التركي أن حدود حركته مقيدة بالفعل وليست مفتوحة، بل ستواجه بإشكاليات حقيقية مؤثرة بسبب الحركة المصرية الرادعة، بدليل أن القاهرة كانت على استعداد للتدخل العسكري في ليبيا فعلاً، وأعطى مجلس النواب موافقته على نشر قوات مسلحة في الخارج، وذلك بالتزامن مع تفويض قبائل ليبية لهذا التدخل إذا استمر تقدم قوات الوفاق. وهو ما أكدته أيضاً التطورات الاستراتيجية على الأرض، حيث رسمت مصر للجانب التركي وبصورة غير مباشرة مساحات التماس التي يمكن أن تتحرك فيها تركيا بصرف النظر عما تريده تركيا فعلياً، بخاصة أن ردود الفعل التركية على استقبال الوفد المصري لم تكن جيدة، وقوبلت بالعديد من الاستفسارات وعلامات الاستفهام التي ستؤكد أن أنقرة ستراجع تقديراتها تخوفاً من اقتناص القاهرة المبادرة والاتجاه للتعامل الممتد بين طرفي المعادلة الليبية مجدداً، الأمر الذي سيؤدي لتبعات حقيقية على النفوذ التركي في ليبيا، ولهذا يرسل كبار المسؤولين الليبيين رسائل سياسية صريحة للجانب المصري بضرورة التفاهم والحوار والالتقاء على أرضية واحدة في ظل المصالح الراهنة للجانبين.
الخلاصات الأخيرة
طبيعياً ستتغير قواعد التعامل في الملف الليبي وسيرسم المصريون مسارات حقيقية للتعامل بعيداً عن المزايدات الإعلامية والخطاب الملون للجانب التركي، والحقيقة أن القاهرة ترتب خيارات متعددة ومباشرة من الآن فصاعداً بالغرب الليبي، وهو ما لن يتوقف عند إتمام زيارة أو عقد لقاءات سياسية وأمنية، ومن ثمّ فإن المخطط المصري سيكون شاملاً وكاملاً كما بدا أخيراً، وسيبدأ بإعادة فتح السفارة المصرية، وتأمين عودة العاملين فيها بمن فيهم السفير الذي نقل نشاطه إلى تونس، وسيلقي مجمل المشهد بكل تفاصيله على الشرق الليبي والتعاملات المصرية الراسخة مع المشير حفتر وقوات الجيش الليبي في ظل التزامات مصرية متواصلة دفاعاً عن وحدة التراب الليبي وعدم استمرار الانقسام الراهن بين ليبيا الشرقية وليبيا الغربية، وفي ظل حالة الصراع الراهن والتنازع الإقليمي والحسابات الأوروبية الروسية في ليبيا وشرق المتوسط.
والقادم هو الأصعب في المشهد الليبي، حيث لم تُنفذ الترتيبات التي تعمل على تثبيت وقف إطلاق النار حتى الآن، ولم تخرج القوات الأجنبية من ليبيا، ولم تفتح كافة الطرق الرئيسة، كما لا توجد إشارات على إعادة هيكلة الجيش الليبي من جديد. ولم تتم تسمية المجلس الرئاسي المرتقب، ورئيس الوزراء، وأعضاء الحكومة الانتقالية التي ستشرف على الانتخابات المقرر عقدها في ديسمبر (كانون الأول) 2021.