طُرفة تتداولها الألسن في عدد من الأوساط المحلية والعالمية، تقول إن الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب، لجأ قبيل الانتخابات الأميركية إلى رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو يطلب النصيحة، وإعارته رئيسة اللجنة المركزية للانتخابات في بيلاروس، ليديا يرموشينا، لمساعدته في مواجهة خصمه جون بايدن، لكنه سرعان ما عاد ليطلب منه سحبها. وحين تساءل لوكاشينكو عما إذا كانت أدت مهمتها بنجاح، وانتخب الشعب الأميركي دونالد ترمب، فاجأه ترمب بقوله إن الشعب الأميركي انتخب لوكاشينكو!
وفي الدعابة دائماً بعض الحقيقة، كما تزعم الأقوال المأثورة والأمثال السائرة في روسيا. إنها الكوميديا السوداء في أبهى صورها، فها هي تظاهرات المعارضة في بيلاروس تتجه نحو الانحسار، ويخبو بريقها على الرغم من استمرارها بدرجات متفاوتة، للشهر الخامس على التوالي.
وها هو ألكسندر لوكاشينكو الذي كانت الأرض تميد تحت قدميه حين جأر بالشكوى وطلب مساعدة الشقيقة الكبرى، روسيا، تحت وطأة تصاعد المعارضة، وزحف مئات الألوف لمحاصرته نحو مقر إقامته، يعود إلى سابق صلفه وتشدده، متكئاً على دعم روسيا وقيادتها السياسية والعسكرية، وهو الذي كان كال لها كثيراً من الانتقادات الحادة قبيل الانتخابات، واستمرأ الخوض في سيرتها الذاتية خلال حديثه إلى الصحافي الأوكراني دميتري جوردون، الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع أجهزة الأمن في بلاده، والمُعادي بطبيعته لروسيا وقيادتها السياسية.
محاولات التخلص من الزعيم لم تثمر
تشير تطورات الأحداث في الآونة الراهنة، إلى توجه لوكاشينكو صوب العودة لسابق عهده من التشدد، غير آبه بتمسك المعارضة بمطالبها حول رحيله. وكانت القوى المعارضة لجأت إلى تنويع محاولاتها وتجديد أساليبها من المسيرات الحاشدة تارة، ومسيرات المتقاعدين تارة أخرى، فضلاً عن تظاهرات ومسيرات طلاب المدارس والجامعات تارة ثالثة، والنسوة تارة رابعة، لتلجأ خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى نشر الملابس الداخلية ذات اللونين الأحمر والأبيض على حبال الغسيل في شرفات ونوافذ المساكن، إشارة إلى لوني علم " بيلاروس الشعبية" الديمقراطية، التي لم تستمر سوى أقل من عام (مارس 1918 - يناير 1919) قبيل انضمامها إلى الاتحاد السوفياتي.
ورداً على محاولات قيادات المعارضة في بيلاروس استمالة الدوائر الغربية إلى دعمها، والوقوف إلى جانبها في مواجهة الرئيس لوكاشينكو بفرض مزيد من الضغوط والعقوبات، وتلقي مزيد من المساعدات المادية والمعنوية، أعلنت النيابة العامة في بيلاروس إقامة الدعوى ضد هذه القيادات، وضرورة تقديمها إلى القضاء بتهمة تشكيل تنظيم متطرف يستهدف الإطاحة بالنظام القائم، والاستيلاء على السلطة بطريقة غير شرعية، في إشارة إلى مجلس التنسيق الذي قامت المعارضة بتشكيله في ليتوانيا وبولندا خلال الأيام الأولى من اندلاع التظاهرات في أعقاب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية أغسطس (آب) الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من جنوح الأوضاع نحو التهدئة بدعم وإصرار مباشر من جانب روسيا على نصيحتها في شأن ضرورة تنفيذ لوكاشينكو ما سبق ووعد به حول الإصلاحات الدستورية، وما كشف عنه من احتمالات رحيله عن منصبه، فإن ما يصدر عن رئيس بيلاروس من تصريحات يقول ضمناً إنه لا يزال يتمسك بالبقاء.
وكان رئيس بيلاروس أكد خلال زيارة قام بها إلى إحدى وحدات الأمن الخاص في العاصمة مينسك، إنه "لن يترك منصبه حتى يطلب منه ذلك آخر عنصر من شرطة مكافحة الشغب"، مبرراً ذلك بقوله "إنني وأنتم لا نملك شيئاً سوى هذا الوطن". وحمل رئيس بيلاروس على من وصفهم بـ "محركي الدمى الأجانب وأعوانهم داخل بيلاروس ممن أصابهم الفشل لدى محاولات إثبات أن لهم وزناً سياسياً بأساليب أخرى"، فيما كال لهم الاتهامات وحملهم مسؤولية ما جرى من اضطرابات في بيلاروس.
السبيل الوحيد للرحيل
كان لوكاشينكو كشف في وقت سابق عن أن الانتخابات هي السبيل الوحيد الذي يمكن أن يرغمه على الرحيل، وترك الباب مفتوحاً أمام مختلف التأويلات بعد دعوته إلى عقد "المؤتمر الطارئ لعموم شعب بيلاروس" في فبراير (شباط) المقبل. ومن المقرر أن يبحث هذا المؤتمر الإصلاحات الدستورية المرتقبة، والإعلان عن انتخابات رئاسية مبكرة في غضون عام.
ومن هنا كان ما أعلنته موسكو مطلع العام الحالي حول تقديم 500 مليون دولار، هي نصف قيمة القرض الذي وعدت بتقديمه إلى بيلاروس في إطار دعمها المادي المعلن لرئيس بيلاروس من منظور ما سبق ووعد به من إصلاحات. وتقول مصادر روسية إن الكرملين يواصل جهوده الرامية إلى دعم ظهور حزب موال لموسكو في بيلاروس، ثمة من يقول إنه في سبيل الإعلان عنه تحت اسم " حق الشعب"، وهو ما أكده موقع "انسايدر" الأميركي التوجه والتمويل.
وهناك من يقول بوجود المعلومات التي تؤكد نجاح موسكو في استمالة حركة "المبادرة المدنية – الاتحاد أو التحالف" التي تقف وراء إعلانها قوى موالية لموسكو. وكان رئيس هذه الحركة السياسية، ألكسندر جروزديف، كشف في تصريحات نشرتها وكالة "سبوتنيك" الحكومية الروسية عن تقدمه بعدد من المقترحات حول التكامل بين روسيا وبيلاروس خلال الفترة القريبة المقبلة، وهو ما قال إنه سوف يطرحه على المؤتمر الشعبي المرتقب لعموم بيلاروس في فبراير المقبل.
غير أن هناك من يقول أيضاً إن الحديث عن هاتين الحركتين السياسيتين حزب "حق الشعب"، والمبادرة المدنية "الاتحاد"، ليس سوى محاولة لسبر أغوار الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، ومعرفة مدى استمرار موالاته لموسكو، وتمسكه بما سبق ووعد به الرئيس فلاديمير بوتين خلال أول لقاء لهما في سوتشى، في أعقاب اندلاع تظاهرات المعارضة احتجاجاً على نتائج الانتخابات الرئاسية. وذلك ما أكده فاليري كارابايفيتش الخبير في الشؤون السياسية في بيلاروس في حديثه إلى الخدمة الإخبارية الروسية لإذاعة "صوت أمريكا"، إذ قال "إن الحديث حول ظهور تيارات أو حركات وأحزاب سياسية، ومنها الموالية لروسيا في بيلاروس، سيظل رهناً لمدى إمكان ظهور الديمقراطية ووجود برلمان قوي، وإقرار انتخابات حقيقية على أساس تعدد الأحزاب".
وأضاف، "وجود أحزاب موالية لموسكو يمكن أن تتلقى دعماً مالياً وإعلامياً من جانب موسكو، يمكن أن يسهم بدرجة كبيرة في نجاحها في الانتخابات، لا بد من أن يثير حفيظة رئيس بيلاروس".
هل خدع لوكاشينكو بوتين؟
ومضى ليكشف عن أن تسجيل هذه الأحزاب لا بد من أن يصطدم بقيود وزارة العدل التي لن يفيد القضاء في تجاوزها، بما يعني الحيلولة من دون تسجيلها، وهو ما لا ينوي لوكاشينكو تغييره. وأعرب الخبير السياسي كارابايفيتش عن مخاوفه وشكوكه تجاه احتمالات أن يُقدم لوكاشينكو على خداع بوتين، وإن ظهر آخرون يقفون من مثل هذه الشكوك على طرفي نقيض.
وفي هذا الصدد، حذر ألكسندر سكورتشايف من بيلاروس في تصريحاته إلى موقع "أوراسيا ديلي" الناطق بالروسية، من مغبة تصعيد لوكاشينكو تشدده في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية، فيما أشار إلى احتمالات تكرار ما سبق وشهدته أوكرانيا في أعقاب ثورتها الملونة.
ولمزيد من التوازن، حمل سكورتشايف على كل من لوكاشينكو وزعيمة المعارضة سفيتلانا تيخانوفسكايا، مؤكداً أن كلاً منهما يسعى إلى تحقيق مآرب ذاتية، في وقت تتصادم فيه مصالح روسيا والبلدان الغربية في بيلاروس.
وأضاف أن تشدد لوكاشينكو اعتماداً على دعم موسكو وتأييدها له ضد ضغوط البلدان الغربية، يسهم بشكل لا إرادي في تغذية الميول المعادية لروسيا، وهو ما تحاول بلدان الاتحاد الأوروبي وفي مقدمها بلدان البلطيق، وتحديداً ليتوانيا وبولندا ومعها أوكرانيا المجاورة لبيلاروس، تأجيجه والاستفادة منه.
وانطلاقاً من هذا التصور، خلص المعلق السياسي إلى ضرورة التوجه صوب المفاوضات والحوار، كسبيل إلى التوصل للنتيجة المنشودة والحلول المناسبة لكل الأطراف المعنية، فيما خلص إلى تحذيره من مغبة الاعتماد على لوكاشينكو وحده، وهو ما تدركه روسيا ونخبها السياسية منذ اللحظات الأولى لاندلاع الأزمة.