الحركات الجماهيرية التي اندلعت في البلدان العربية في السنوات الأخيرة، طرحت على الفكر العربي أسئلة مربكة تفاعلت في الخطاب السياسي على نطاق واسع، إلا أنها ظلّت محكومة بتصورات إشكالية ملتبسة ومتناقضة بعيدة من المقاربة الفلسفية التي تذهب إلى جذور الإشكال وخلفياته لتبحث في أسبابه وأصوله ومآلاته وأسئلته القديمة المتجددة. لعل في مقدمة هذه الأسئلة المربكة، أسئلة الدولة والديمقراطية والحرية والمساواة والعدل السياسي والاجتماعي، والدين والإيديولوجية وموقعهما في الحراك التغييري، والدور المناط بالفلسفة للخروج من حالة الإرباك وبناء رؤية تأسيسية لفكر ومجتمع جديدين.
من هذا الموقف الإشكالي بالذات، انطلق ناصيف نصار في كتابه الجديد "التنبيهات والحقيقة، مقالات إضافية حول الفلسفة والديمقراطية " (مركز دراسات الوحدة العربية 2019) طارحاً من منظور فلسفي ثابر عليه في كل مؤلفاته وعلى مدى أكثر من نصف قرن، رؤيته العقلانية النقدية للقضايا والإشكاليات السائدة على ساحة الفكر السياسي والاجتماعي العربي. في هذا السياق تساءل نصار: الدولة، ما هي الطريق الواجب اختيارها بين تقليص سلطتها وبين توسيع هذه السلطة وتدعيمها؟ الشعب؟ كيف التوفيق بين هويته الجامعة وبين هوية الجماعات التي يتألف منها؟ المساواة؟ كيف السبيل إلى تطبيقها في بحر هائج من الفوارق بين المواطنين؟ الديمقراطية، ما هي حقيقتها وكيف يجب أن تتعامل مع الحقيقة؟
هنا في رأي نصار يبرز الدور الأبستمولوجيا للفلسفة، فتخضع الخطابات الدينية والعلمية والإيديولوجية والأسطورية والطوباوية للعقل النقدي، فالاستنارة بالفلسفة من المبادئ الرئيسة لسياسة الحقيقة في الديمقراطية. إلا أن المجتمع الديمقراطي لا يتدخل في الشؤون الدينية لأنه من جهة يحتضن حرية الفكر والاعتقاد، ومن جهة يريد الحؤول دون تسييس الدين أو تديين السياسة.
إن الفرد البشري قادر، كما تزعم الديمقراطية، على التفكير بحرية. هذا ما أكده "الكوجيتو" في كونه أعلن بصورة قاطعة أولوية الفكر في علاقة الإنسان بالحقيقة، محرراً إياه من كل أشكال الوصاية والقمع، مدشناً بذلك حركة التنوير العقلاني والتفكير النقدي الذي تعمق في جميع الاتجاهات وطاول كل المسلمات حتى أصبحت حرية التفكير حقاً معترفاً به ومستتباً. لكن ثمة حدوداً على حرية التفكير، قوامها احترام الكرامة المتأصلة في الإنسان، فليس مسموحاً تسويغ الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية أو الإساءة والإضرار بحقوق الآخرين. ما يعني أن حرية التفكير في مجتمع ديمقراطي هي مسألة أخلاقية، لأنه مهما يكن من قدسية الحق في حرية التفكير، فإنه لا يعلو على قدسية القيم الكونية التي تتعلق بها إنسانية الإنسان.
وإذ تناول نصار مسألة الصراع العقائدي في الديمقراطية، رأى أنه من الخطأ الاعتقاد أن عصر الإيديولوجيات قد ولى، فليس من الصحيح القول بـ "موت الإيديولوجية" كما ليس في الإمكان فهم الحركات السياسية في عالمنا المعاصر من دون توظيف قوي لمفهوم الإيديولوجية. فالنقد العقلاني للإيديولوجية يعترف بوجودها الفعلي، ولا يسلم بفكرة أفولها، لكنها في النظام الديمقراطي تأخذ منحى سلمياً خاضعاً لقواعد العقل التواصلي والقانون، مضبوطاً بالهوية الوطنية الجامعة.
يبقى السؤال الفلسفي السؤال الأبرز الذي يطرحه نصار في كتابه. فما الفلسفة؟ ولماذا الفلسفة؟ وأين نحن من الفلسفة؟ وما الدور الذي يمكن أن تؤديه دفاعاً عن الديمقراطية؟
أسئلة يجيب عنها منطلقاً من التمييز بين مفهوم الفلسفة ومفاهيم العلم والدين والإيديولوجية والطوبى والفن، فالفلسفة تنتمي إلى عائلة التفكير العقلاني، العقل مرتكزها وموضوعها الرئيس، والنقدية صفة ملازمة لها. الأمر الذي يجعل منها "أعلى الصناعات الإنسانية منزلة وأشرفها مرتبة" بحيث لا يمكن استبعادها بسبب التقدم الكاسح في العلوم أو في الاقتصاد، أو الاستغناء عنها لصالح الدين أو الإيديولوجيا. فما تبتغيه الفلسفة هو الكشف عن المبادئ القصوى في وجود الفرد، وفي وجود الجماعة، وفي وجود الإنسان والبشرية جمعاء، ما لا يتطابق مع مقاصد الدين ومقاصد الإيديولوجيا. الفلسفة تبحث عن ماهية الإنسان في كينونته الخاصة، وفي مكوناته الذاتية، قبل أن تتطلع إلى ما هو أبعد. وهي باعتبارها تفكيراً عقلانياً نقدياً في مبادئ المعرفة وأنماط التفكير يحتاج إليها سواء الدين أو الإيديولوجية، على الضد من تأكيد الدين أنه هو وحده المرجع الحاسم في جميع القضايا المعيارية، وأن لا محل للفلسفة إلا على أساس مرجعيته والتبعية له.
نقول أخيراً إن كتاب ناصيف نصار الجديد يشكل لبنة أخرى من لبنات مشروعه الفلسفي الذي أخذ بالتبلور منذ الستينات من القرن الماضي بدءاً من نقد الفكر الطائفي ونقد الفكر الإيديولوجي وصولاً إلى نقد الأصوليات العقائدية مروراً بنقد السلطة وإسقاط مشروعية الحكم الاستبدادي. كما أنه يشكل كذلك تأسيساً للديمقراطية على مبادئ فلسفية تحول دون ارتكاسها إلى التسلط والطغيان. أما أهم ما طرحه الكتاب في رأينا فيتمثل في إعادة الاعتبار إلى الفلسفة ودورها المركزي في الفكر والسياسة والاجتماع في زمن استشراء الأصوليات الدوغماوية ومحاولتها طمس الفكر الفلسفي في العالم العربي باستبعاد العقلانية النقدية من أجل الاستئثار بالساحة الثقافية والالتفاف على أي حراك تنويري إن في الفكر أو في السياسة أو في الاجتماع.