"حمل الاستعمار عصاه على كاهله ورحل"... لطالما ردد "الوطنيون" العرب هذه الجملة وتباهوا بها، لكنها جملة ناقصة في مبناها والمعنى، إذ كان يجب أن تستكمل بلاحقة تقول بأن الاستعمار الذي زرع في البلاد التي سيطر عليها ذكريات أليمة، خلّف وراءه أيضا معالم مضيئة، تتمثل في أنماط إدارية، وبنى تحتية، وشوارع، وميادين، تتميز بجماليات مما تزخر به المدن والشوارع الأوروبية ما زالت صامدة حتى الآن، على الرغم مما شهدته من إهمال، وتخريب، وحروب، جرت في العقود التي تلت "الاستقلالات" الوطنية...
في هذا التحقيق، إطلالة على تلك المعالم اللافتة التي تركتها يد المستعمر الغليظة في الجزائر وتونس ولبنان والعراق والأردن.
الجزائر: ثروة ثقافية وتاريخ دموي
خلال فترة احتلالها الجزائر، ظلت فرنسا تعتبر أراضي هذا البلد المغاربي مقاطعة فرنسية ومنطقة عسكرية، تُدار من العاصمة باريس. فانتهج ساساتها وجنرالاتها طيلة 132 سنة من الاحتلال (1830-1962) استراتيجيات وخططاً عدة، شملت الميدان المعماري لإطالة وجودهم والدفاع عن مصالحهم السياسية والاقتصادية ضد كل أشكال المقاومة الشرسة التي قادها الثوار لتحرير بلادهم.
ويظهر التراث الاستعماري المتبقي في الجزائر، بصورة البنايات التي لا تزال تُشكل واجهة المدن الكبرى على غرار العاصمة ووهران وقسنطينة وعنابة، وإن تضرر الكثير منها، وهي تخضع حالياً لعمليات ترميم واسعة من قبل السلطات الجزائرية، إذ يعود بعضها إلى أكثر من 150 سنة. إضافة إلى المقابر وبعض المتاحف والكنائس والتي حوّلت غالبيتها إلى دور للثقافة، فيما أتى الزمان على كثير منها.
تخطيط على الطراز الفرنسي
وفي السياق، يقول الباحث والمؤرخ الجزائري محمد قورصو، إن وجود التراث الاستعماري في الجزائر دليل على الأنظمة المختلفة التي احتلت البلاد في فترة معينة، ويشير على وجه الخصوص إلى الاستعمار الفرنسي، الذي بمجرد دخوله إلى الجزائر ناقض الاتفاقيات ودمر عديد المعالم الثقافية الإسلامية، المتمثلة في المساجد والكتاتيب القرآنية وكل ما يرمز إلى معالم الدين الإسلامي.
ويذكر قورصو أن "كل المدن الكبرى خُططت على نظام استعماري شبيه بما هو موجود في فرنسا، إذ تتوسط المدينة الكنيسة وحولها البلدية أو المصالح الإدارية في ساحة فسيحة، وبنايات مضبوطة لتسهيل الحياة". ويتابع "الإدارة الاستعمارية تقول إنها تركت أثاراً للجزائريين وعليهم الاعتراف بالجميل، ونحن نقول صحيح أنها شيّدت بنايات وعمراناً، لكن لم يكن ذلك في مصلحة الجزائريين ولا الشعوب المستعمرة، وإنما لخدمة وصالح المحتل الفرنسي".
ويتأسف المؤرخ الجزائري لاختفاء العديد من المعالم بعد الاستقلال عام 1962. ويشير في السياق "الجزائر المستقلة ورثت آثاراً كثيرة تدل على كفاحها وإبادة الشعب الجزائري من قبل الجيش الفرنسي، منها السجون والمعتقلات وأماكن التعذيب، والتي كانت تحمل في جدرانها على دماء الآلاف من المواطنين الذين أعدموا، لكن تم طلاؤها في حين كان يجب المحافظة عليها حتى نذكّر فرنسا الحالية بما اقترفته في حق شعبنا، ويكون دليلاً مادياً لتجريم الاستعمار".
ويقدم المتحدث مثالاً على "سركاجي"، في أعالي العاصمة، وهو واحد من أسوأ سجون الجزائر سُمعة، بناه الفرنسيون عام 1856 على أنقاض حصن تركي شيّده القائد البحري العثماني خير الدين بربروس عام 1565، ومن خلاله مارس جنرالات فرنسا أساليب تعذيب لاستنطاق المقاومين بهدف الحصول على معلومات حول ثورة التحرير الجزائرية، والذي جرى تحويله إلى متحف وطني من قبل السلطات الجزائرية.
ملف الآثار
وفي معرض حديثه يلفت المؤرخ والباحث إلى القيمة التراثية والحضارية للاستعمار، بحيث يشير إلى عملية القرصنة التي قامت بها فرنسا لكل ما هو أثر مادي، سواء ما تعلق بالمخطوطات وغيرها، التي تعود إلى العهد الروماني والإسلامي وما قبل التاريخ وزينت بها متاحفها، وجُلّها يوجد في متحف "اللوفر" بباريس وبعض المتاحف الأخرى، في حين زينت ساحاتها بآثار فرعونية، وهو ما تعتبره فرنسا مفخرة تجلب لها الاعتراف الثقافي الحضاري وأموال طائلة من العملة الصعبة.
وضمن هذا السياق، قال عبد المجيد شيخي، المستشار في الرئاسة الجزائرية لشؤون الذاكرة المرتبطة بماضي فرنسا الاستعماري، إنه يخشى من تصرفات "طائشة" تؤدي إلى إتلاف التراث الجزائري المحتجز بباريس، ويضم آلاف القطع الأثرية والوثائق وقطع السلاح مثل مدفع "بابا مرزوق" الشهير، من دون أن يستبعد فرضية الاحتكام إلى القضاء الدولي في ما يتعلق بذاكرة الاستعمار الفرنسي ببلاده.
وذكر المسؤول في الرئاسة الجزائرية في تصريحات إذاعية، أن "عدداً من الملفات ستكون محل مفاوضات بين البلدين مثل ملف الآثار والتحف المنهوبة من قبل جيش الاستعمار". واستمر هذا النهب طيلة 132 عاماً من الاحتلال وإلى غاية الأسابيع الأخيرة التي سبقت استقلال الجزائر في الخامس من يوليو (تموز) 1962.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معالم عثمانية وإنجليزية تحكي تاريخ العراق
تمثل بغداد القديمة التي تمتد على ساحل نهر دجلة، أحد المعالم التي تشير بشكل واضح إلى فترة الإدارة العثمانية والإنجليزية للعراق، إذ دامت الأولى قروناً عدة، بينما الثانية سنوات طوال. وعلى الرغم من ضياع واندثار كثير من الشواهد عليهما بسبب الإهمال، فإن عدداً منها ما زال شاخصاً يحكي التاريخ.
وإضافة إلى ما تحتويه المنطقة من سلسلة مواقع وبنايات تعود إلى العصر العباسي، مثل المدرسة المستنصرية والقصر العباسي، فإن بها معالم للحقبتين العثمانية والبريطانية، مثل القشلة ومحيطها وشارع المتنبي وسوق السراي وجامع الحيدرخانة والأوزبكية وجامع المرادية ومقر وزارة الدفاع العراقية القديم، الذي مثّل المقر الرئيس لإدارة البلاد خلال الفترة من 1958 إلى 1963.
كما توجد عشرات المباني المهملة والآيلة للسقوط في المنطقة الممتدة على طول شارع الرشيد الذي أنشئ خلال الحكم العثماني، وجسّد معلماً بارزاً لفترة الوجود البريطاني، وما جرى بعدها من أحداث سياسية واقتصادية وتحولات اجتماعية كبيرة.
وربما تعدّ المقابر التي تعود إلى مواطنين وجنود أتراك وإنجليز، وأهمها قبر المس بيل، مستشارة المندوب السامي البريطاني آنذاك وأحد مؤسسي العراق الحديث، الموجود في مقبرة الأجانب خلف كنيسة الأرمن في ساحة الطيران وسط بغداد، وقائد القوات البريطانية التي احتلت بغداد عام 1917 ستانلي مود، الذي دفن في ما يطلق عليه مقبرة الإنجليز في باب المعظم ببغداد، تمثّل نتاجاً مهماً للحرب العالمية الأولى التي دار قسم من معاركها على أرض العراق بين القوات البريطانية والعثمانية.
أموال غير كافية
وعلى الرغم من أهمية تلك المعالم التراثية، فإن الاهتمام بها لم يكن في المستوى المطلوب، وتبرر المؤسسات الرسمية العراقية الأمر بعدم توفّر الأموال الكافية لترميم تلك المواقع التي تتطلب مبالغ كبيرة. في هذا السياق، يقول مدير دائرة التراث إياد كاظم إن غياب مخصصات كافية للدائرة منذ عام 2014 عرقل إجراء ترميمات لعشرات المواقع التراثية لحقب زمنية مختلفة، فيما يشير إلى ترميم معالم عثمانية وإنجليزية بمساعدة منظمات ومؤسسات عراقية.
وبشأن المواقع التراثية في بغداد التي تحاكي الحقبة العثمانية، يوضح كاظم أن السفارة التركية، خصوصاً منظمة "تيكا" اهتمت بترميم بعض المعالم في العراق، منها قيصرية كركوك وقشلة بغداد، مبيّناً أن سفارة تركيا طلبت من الهيئة حصر جميع المعالم العثمانية من أجل إدخالها في خطط الصيانة.
لندن غير مهتمة
ويضيف أن هناك عدداً من المعالم التي يرتبط بناؤها بفترة الوجود الإنجليزي في العراق، مثل المحطة العالمية لسكك الحديد والسفارة الإنجليزية القديمة في بغداد وبعض السجون، فضلاً عن مقابر الإنجليز الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى، مبيّناً أن هناك بعض القصور مثل القصر الأبيض.
وتوجد ثلاث مقابر للإنجليز في العراق في مدن البصرة والكوت وبغداد التي دفن فيها عدد كبير من الجنود البريطانيين خلال المعارك بينهم والقوات العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
ويتحدث كاظم عن أعمال ترميم جرت لبعض هذه المعالم، مثل المحطة العالمية في بغداد، وهناك خطط لترميم معالم أخرى مثل القصر الأبيض، لكنها بحاجة إلى أموال لتنفيذها، مشيراً إلى أن السفارة البريطانية في العراق لم تُبدِ اهتماماً بإعمار بعض معالم المملكة المتحدة في البلاد، مثل مقبرة الإنجليز والسفارة القديمة.
إحياء الحقبة العثمانية
يقول إسماعيل طه الجابري، الباحث والمحقق في التاريخ إن ما تبقّى من المعالم العثمانية، التي جرى الاهتمام بها هي مراكز الحكم والجوامع، مثل بناية القشلة وسراي الحكومة والمدرسة الرشدية العسكرية وبيت الحكمة، وبعض الجوامع التي أنشئت في تلك الفترة، التي حافظت على معالمها.
ويضيف أن الاهتمام بمبنى القشلة جاء كونه أصبح مزاراً للسياح، وكذلك المدرسة الرشدية وبيت الحكمة، حيث أقيمت بعض النشاطات الثقافية والفكرية، لافتاً إلى وجود قلاع في الموصل والبصرة دشنت للدفاع، فضلاً عن جوامع عثمانية ما زالت شاخصة حتى الآن مثل جامع الأوزبك وأحد الجوامع داخل مبنى القشلة.
تركة بريطانية محدودة
وبحسب الجابري، فإن التركة البريطانية في العراق محدودة مقارنة بالحكم العثماني، الذي امتدّ قروناً عدة. ويقول إن "البريطانيين لا يوجد لديهم تراث كبير مثل العثمانيين، الذين امتدت فترتهم إلى نحو 400 عام بعكس الإنجليز الذين نعتبر فترة نفوذهم إلى عام 1958".
ويتابع، "يوجد تراث مهم يجب الاهتمام به من قبل الحكومة العراقية، وهو مقبرة الإنجليز، التي تضم رفات الجنود البريطانيين وكبار قادتهم خلال الحرب العالمية الأولى. لم يجرِ الاهتمام بها إلى الآن، علماً أنه من الممكن تحويلها إلى معلم سياحي كبير، فضلاً عن بعض الجسور التي بنيت في فترة النفوذ البريطاني، وكانت مساهمتهم فيها كبيرة".
ووفق مصدر مسؤول في وكالة التنسيق والتعاون التركية ("تيكا") في بغداد، فإن المنظمة دشنت مشاريع مهمة لحماية تراثها في العراق، إذ رممت ونظمت مقبرة الأتراك، وافتتحت للزوار في 2021. ويجري العمل حالياً من قبلها على تنفيذ مشروع ترميم مقبرة الشهداء العثمانية في كركوك وترميم "غوك كومبيت"، القبة الزرقاء في قلعة كركوك وجامعَي المرادية والحيدرخانة في بغداد.
بيوت بيروت القديمة لم تعد قادرة على الصمود
مرت على لبنان دول وثقافات عدة ما زالت بصماتها موجودة في الشوارع والأبنية والأديرة. وهذا ما دفع بمنظمة اليونيسكو أن تطلق صرخة عقب تفجير المرفأ في الرابع من أغسطس (آب)، الذي أخفى معالم بيروت، من أجل المحافظة على تراث المدينة الثقافي الذي تكبد أضراراً جسيمة، لحقت بما لا يقل عن 640 مبنى تاريخياً، يقع كثير منها في الأحياء القديمة في منطقتي الجميزة ومار مخايل (شرق بيروت)، من بينها 60 مبنى يحدق بها خطر الانهيار، إضافة إلى أن تأثير الانفجار وصل إلى المتاحف الكبرى، مثل المتحف الوطني في بيروت، ومتحف سرسق، والمتحف الأثري بالجامعة الأميركية في بيروت، ناهيك بالمنابر الثقافية وصالات العروض الفنية، والمواقع الدينية.
الخوف من زوال وجه العاصمة التاريخي
قبل التفجير كان أهالي بيروت يخشون على مدينتهم ومنازلها العتيقة وأبنيتها الأثرية من الزوال أمام الأبنية الشاهقة الحديثة، فالبيوت التي تعود إلى الفترة العثمانية (1516ـ1917)، والانتداب الفرنسي (1920-1943) لم تعد قادرة على الصمود أمام ورش البناء وطمع بعض المالكين بالمال، أو لعدم قدرتهم على تحمل تكلفة الصيانة، مما يشير إلى أن بيروت القديمة قد تختفي. وكانت قضية "البيوت التراثية المهددة" قد احتلت مساحات واسعة في وسائل الإعلام المحلية، وشغلت هيئات المجتمع المدني.
وفي مقالة للباحث حسان حلاق بعنوان "بيروت المحروسة في العهد العثماني أَوقاف المسلمين والمسيحيين عناصر نهوض بالمجتمع اللبناني"، رأى أن "انتشار المسيحية والإسلام في بيروت رافقه انتشار ثقافة الخير والعطاء الدائم في ما عرف بالوقف. وكان لهذه الأوقاف دور مهم في تنمية المجتمعين المسيحي والإِسلامي، بل النهوض بلبنان".
أما الباحث وسام اللحَّام، فقام بجولة على المنشورات الترويجية السياحية منذ العهد العثماني، مروراً بمطلع القرن العشرين، ففترة الانتداب، وصولاً إلى مرحلة الاستقلال حيث تطور الترويج السياحي من المنشورات المطبوعة إِلى القطاع السينمائي.
أحياء وأسواق بيروت
في بيروت القديمة، ازداد عدد الوافدين من الولايات الشامية من حرفيين وما شابه، كما أن المدينة القديمة كانت محاطة بالأبراج والأبواب، واشتهرت بالجوامع والكنائس والمعالم الدينية، والحمامات والخانات والساحات والمدارس والمعاصر والموانئ والمقاهي.
هذه المعالم العمرانية اتخذت لها تسميات محلية في غالبيتها، ولم تدخل التسميات الأجنبية إلا إبان فترة الانتداب الفرنسي. ويعد "المسجد العمري الكبير" أقدم أثر عمراني في بيروت، الذي كان بحسب بعض الروايات التاريخية كنيسة بيزنطية، ومن ثمَّ تحول إلى جامع مع الفتح الإسلامي الأول، ثم في الفترة الصليبية أعيد استخدامه كنيسة، ثم حوّله المماليك مجدداً إلى جامع.
يضاف إلى ذلك منطقة "الأشرفية" التي سميت كذلك نسبة إلى السلطان العثماني الأشرف خليل بن المنصور الذي حررها من الصليبيين. لكن في قلب الأشرفية تحوّل كثير من الأبنية التراثية إلى مساكن مهدمة من الإهمال أو محال تجارية مُحيت ملامحها العمرانية المميزة بشكل كبير.
وتأسست أول ساحة في المدينة، وهي التي تعرف اليوم باسم "ساحة الشهداء"، وكانت هي "الساحة الحميدية" التي تتوسطها حديقة منظمة انتشرت حولها الأبنية الإدارية الأولى كالسراي الحكومي والمستشفى العسكري ومباني البريد والتلغراف ومصلحة المياه وإدارة المرفأ.
ويذكر في هذا المجال القيمة العمرانية والتاريخية لأسواق بيروت، التي تعود إلى القرن التاسع عشر، وكانت تحمل أَسماء عائلات بيروتية أو الحرفة والسلع التي تعرض فيها، سوق السيّد، سوق أَياس، سوق الجميل، سوق الزجاج (بيهم وعيتاني)، السوق الطويلة (ساعات، مجوهرات)، سوق سيور (ساعات معلَّقة على سترة الصدرية)، سوق الصاغة (رعد وهاني)، سوق العطارين، سوق سرسق وتويني (أَو سوق النزهة)... إلخ.
وكانت الزواريب تسمى بأسماء ساكنيها من العائلات والطوائف، أو باسم القادة والأمراء، ومنها على سبيل المثال: حارة البربير، حارة درويش، حارة عبد القادر قرنفل، حارة اليهود، حي الباشورة، حي كرم الزيتون، شارع فخر الدين.
وأعاد الفرنسيون تخطيط وسط بيروت، فأعطوه طابعاً موحداً ما زالت آثاره ظاهرة في شارع اللمبي وفوش، وأطلق على الشوارع الحديثة أسماء المندوبين السامين الفرنسيين الذين حكموا لبنان بعد انهيار السلطنة العثمانية.
الإرث الثقافي
شهدت بيروت في ظل الانتداب الفرنسي حركة عمرانية كبيرة، شكّلت امتداداً ثقافياً للعهود التي سبقت. وقبل أن يكون الانتداب واقعاً عسكرياً، كانت الثقافة الفرنسية عاملاً مؤثراً في لبنان، منذ القرن التاسع عشر، مع المدارس الإرسالية الفرنسية التي كان لها دور مهم، ولا يزال، في صياغة نخبة من المتعلمين والمثقفين.
حتى اليوم، يعدّ المعهد الفرنسي مركزاً ثقافياً أساسياً في العاصمة اللبنانية، يتولى تسهيل معاملات الطلاب اللبنانيين الراغبين بمتابعة تعليمهم في فرنسا، وهم كثر. كما يحتضن المعهد أحداثاً ثقافية عدة، ويموّل أعمالاً فنية ومسرحيات، ويعد من أبرز الداعمين للنشاط الفني على الساحة المحلية.
وتدار معظم المدارس الفرنكوفونية في لبنان، من قبل رهبنيات تابعة للكنائس الكاثوليكية، وبعض أشهرها مدارس علمانية. ويتعلّم التلاميذ اللبنانيون اللغة الفرنسية كأنها لغتهم الأم الثانية، ويقدّم جزء كبير منهم الامتحانات الرسمية في مختلف المواد باللغة الفرنسية. وبعد حادثة تفجير المرفأ، خصصت الدولة الفرنسية خمسة ملايين يورو للمدارس الفرنكوفونية التي لديها توأمة مع مدارس فرنسية، وعددها 45 مدرسة في لبنان.
ماذا بقي من إرث الاستعمار في الأردن؟
بدأت بواكير الدولة الأردنية بتأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921، التي أعلن استقلالها في 25 مايو (أيار) 1923، بعد أن اعترفت بريطانيا بوجود حكومة دستورية مستقلة فيها.
لاحقاً، خضعت الأردن للانتداب البريطاني الذي كبل البلاد باستعمار جديد جردها من معظم السلطات والصلاحيات، بعدما حرصت المملكة المتحدة على أن يكون شرق البلاد من نصيبها عند تقسيم مناطق النفوذ في مؤتمر سان ريمو عام 1920.
نفوذ ما بعد الاستقلال
تكاد تغيب آثار الاستعمار البريطاني العمرانية في البلاد، لكن يمكن ملاحظة تأثيره في جوانب أخرى، إذ استمد الدستور الأردني في بداياته أحكامه من روح الانتداب البريطاني، ليكون تجسيداً للحكم الاستعماري الذي انتهى عام 1946. وقد استمر الوجود العسكري البريطاني طويلاً، حتى قام الملك الحسين بن طلال عام 1956 بتعريب قيادة الجيش الأردني، وإعفاء كلوب باشا من منصبه كقائد له وتسليمه إلى ضباط أردنيين. وكان جلاء آخر جندي بريطاني عن تراب الأردن في عام 1957 مع إنهاء المعاهدة الأردنية- البريطانية، التي مثلت نفوذاً استعمارياً لوقت طويل.
ويبرز المركز الثقافي البريطاني في الأردن، كواحد من شواهد مرحلة الاستعمار، حيث تحرص المملكة المتحدة حتى اليوم على نقل ثقافتها ولغتها للأردنيين. ويعمل المجلس الثقافي منذ عام 1948 في مقره الحالي في شارع الرينبو وسط العاصمة عمّان.
القانون والعسكر
ترك الاستعمار البريطاني أثره وتحولاته في القوانين الأردنية، وبعضها لا يزال معمولاً به حتى اليوم. كما تأثرت المؤسسة العسكرية الأردنية بنظيرتها البريطانية كثيراً، إذ كان لسلطات الانتداب الدور الأبرز في تكوين نواة جيش البلاد.
وهنا يبرز اسم كلوب باشا، القائد العسكري الإنجليزي، الذي سيطر على قيادة الجيش الأردني لسنوات طويلة (1939-1956)، وكان يحظى بمكانة وحصة في الثقافة الأردنية والموروث الشعبي، فكانت له أدوار عسكرية وسياسية واجتماعية.
وخلال أكثر من ربع قرنٍ مكثه في الأردن، حاول كلوب باشا رسم ثقافة إنجليزية في البلاد، وخلق طبقة اجتماعية من البرجوازيين لم تكن موجودة سابقاً في المجتمع.
ولعب الاستعمار البريطاني دوراً في تأسيس الدولة الأردنية وتشكيل هويتها ونسقها وملامحها لاحقاً، وهو ما يؤكده أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية مهند مبيضين، الذي يرى أنه أثر في كل المناحي، حاله حال كل البلاد العربية التي طالها الاستعمار.
لكن مبيضين يرى أن أبرز الآثار هي النخب السياسية التي لا يزال بعضها حاكماً من خلال توريث مقاليد الأمور لأحفادهم من زمن الإنتداب، وهؤلاء برأيه امتداد للاستعمار ونظرته.
الحكم العثماني
من جانب آخر، تبرز بعض الآثار العمرانية في الأردن كشاهد على ما تركه الحكم العثماني في البلاد، حيث سكة حديد الحجاز الممتدة من أقصى البلاد إلى جنوبها، إضافة إلى الجسور العشرة في العاصمة عمّان.
كما تبرز معالم تاريخية في مدينة السلط غرب عمّان، حيث كانت هذه المدينة بمثابة أول عاصمة أردنية إبان الحكم العثماني.
إضافة إلى قلعة الفدين في مدينة المفرق، تقع في محافظة الطفيلة جنوباً "ضانا".
الإرث المعماري في تونس بين الثراء والتجاهل
تمثل الأحياء "الفرنسية" في العاصمة تونس، القلب النابض للحركة التجارية والثقافية والسكانية، علي غرار حي "لافايات" و"نهج مرسيليا" و"بور دي فرونس" أي الميناء الفرنسي، وحي "سيسيليا" الوادي، وشارع مارسيليا، وغيرها من الأحياء القديمة التي تضم مركبات تجارية ومطاعم وعمارات سكنية ومدارس، وحتى مقار للسفارات الأوروبية، من بينها سفارة فرنسا في قلب شارع الحبيب بورقيبة.
لكن عدم اكتراث الدولة التونسية بهذا الإرث المعماري الفريد والمميز، ربما بسبب مشكلات قانونية، جعله أمام تهديد التلاشي من المشهد العام، وذلك بفقدان جزء كبير من رونق المدن التونسية. من جهة أخرى، يكشف الحرص الأوروبي على صيانة المباني والأحياء على تثبيت مرورها الاستعماري في تونس، إذ تبقى المباني أحسن شاهد على تلك الفترة التاريخية.
ويفيد مصدر من أملاك الدولة والشؤون العقارية في تصريح خاص، بأنه يوجد إشكال في التصرف في أملاك الأجانب بتونس، مبيناً أن هذه الأملاك تبلغ 12305 عقارات أجنبية، بينها 7645 عقاراً تحت تصرف الدولة التونسية والبقية تحت تصرف أجانب.
من جهته، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى حماية الرصيد المعماري الذي خلّفته حقبة الاحتلال من التلاشي، وذلك عبر مساعدات مالية قدمها للحكومة التونسية بقيمة 6 ملايين دولار، خصصت لتمويل برنامج إحياء المراكز العمرانية القديمة.
ووقّعت وزارة التنمية والاستثمار التونسية والبنك الأوروبي للتنمية، اتفاقاً في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، قالت الجهات الحكومية إنه سيمكنها من تدخّل مخصص لإعادة تأهيل المراكز الحيوية القديمة في تونس، كالبلدات والأحياء الأوروبية القديمة، وغيرها من المعالم التاريخية.
معهد التراث
ويأتي التدخل الأوروبي لصيانة رصيد معماري قديم يعود إلى فترة الحماية الفرنسية، بعد أن هدد السقوط عدداً من المباني التي أصبحت بدورها تهدد حياة السكان والمارة في الطرقات، نتيجة تساقط أجزاء من شرفاتها التي تعود ملكية غالبيتها إلى الأجانب أو الرصيد العقاري للدولة.
وفي السياق، تقول الأكاديمية المتخصصة في التراث شيراز مصباح، أنه وإن كان إرث الاحتلال يذكرنا بفترات الظلم والتنكيل بالتونسيين واغتصاب أرضهم، إلا انه من الضروري الاعتناء به، مضيفة أن "التراث الفرنسي من المباني موجود بصفة مكثفة في كل المدن والقرى والمزارع، وكأننا نخجل أو نريد طمس هذا التراث الذي يذكرنا بماض سيء".
وترى أن المعمار الفرنسي في تونس يتميز بأشكال مختلفة، لأنه بُني في فترات زمنية مختلفة، كما أنه تراث ثري، يعرف بمعمار الواجهة، لأن الفرنسيين يهتمون أكثر بواجهات المباني التي تتميز بالمنحوتات والنقوش الجميلة أكثر من الداخل، عكس منازلنا العربية التي نجد واجهتها عادية إلا أن دواخل المنازل غنية بالزخارف والألوان.
وتضيف، "لهذا صنّف معهد التراث بتونس واجهات المباني الفرنسية ضمن التراث، وبالتالي لا يمكن إدخال أية تغييرات عليها حتى لا تخسر ميزتها".
التراث الفرنسي في تونس، بخاصة وسط العاصمة والمدن الكبرى الزاخرة بالبنايات التي تركها المستعمر، يتم استغلالها إلى حد اليوم من طرف المواطنين الذين اضطروا إلى البقاء فيها بسبب رخص إيجارها، وأيضاً لعلهم يظفرون بالتفويض من طرف الدولة للتصرف فيها.
الكنائس المتروكة
تقول الأستاذة شيراز مصباح، إن "الإشكال الكبير هو أن هذا الإرث المعماري المهم ما زال الكثير منه ملكاً لفرنسيين أو يهود أو إيطاليين، وبالتالي فقانونياً لا يمكن صيانة هذا التراث، والدولة لا يمكن أن تتصرف فيه".
أما معظم المباني الفرنسية المملوكة للدولة التونسية فقد أصبحت مراكز ثقافية، منها الكنائس التي تحول بعضها إلى متاحف وأخرى بمنطقة العوينة المتاخمة للعاصمة تونس، تحولت إلى مركز شرطة، وثالثة تحولت إلى دار شباب أو بعض الكنائس الآيلة للسقوط على غرار كنيسة "بابا بحر" بمحافظة قابس بالجنوب، بعد أن كانت مكتبة للمطالعة.
أملاك الأجانب
المزارع الجميلة على حافة الطرقات أيضاً متروكة ومهجورة يختبئ فيها لصوص الليل، لأن الدولة التونسية مكبلة قانونياً ولا تستطيع التصرف فيها مادامت ملكية خاصة.
وتقول الباحثة شيراز مصباح، "إن المباني الفرنسية الموجودة في تونس تتميز بطابعها الفريد والمميز، الذي لا يمكن أن نجده في أية عاصمة أخرى، لكن للأسف بعضها آيلة للسقوط، وعلى الرغم من أن الدولة صنفت هذه المباني كتراث، وقامت بصيانة مبان في بعض المناطق على غرار الموجودة في شارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة، إلا أن هذا غير كاف، ويجب أن نجد الحلول القانونية لإنقاذ هذا التراث المنتشر بصفة واسعة، والذي لا يمكن تركه يندثر بالسقوط أو التشويه".
وشددت على أنه "حتى لو اعتبر هذا الإرث استعمارياً ويذكرنا بفترات تاريخية سيئة، إلا أنه لا يمكننا التفريط فيها، فمن يتخيل وسط العاصمة تونس من دون هذه المباني الجميلة التي تنتشر على طول شوارعها، فهذه المباني أصبحت هوية تونس العاصمة، ولا يمكن طمسها".
وتتوزع أملاك الأجانب في الأحياء الأوروبية بحسب الشركة العقارية للبلاد التونسية على كامل تراب الجمهورية. ويوجد معظمها في تونس الكبرى، التي تضم قرابة 5 آلاف عقار، تليها ولاية بنزرت بـ 1850 عقاراً، ثم جندوبة بـ 1600 عقار، والوسط التونسي بـ 400 عقار، والجنوب بـ 200 عقار.