قليلة هي المدن الغارقة بالتاريخ كما هي حال طرابلس، ففي كل زاوية وحارة، تحضر روعة العمارة ودقة الهندسة، وروح العصر، وكذلك يحضر الإهمال وقلة الوعي بأهمية هذا المُتحف الحي الشاهد على تاريخ المشرق العربي ولبنان الكبير.
ومع الوقت، تحوّلت هذه الأبنية إلى خزان للمخيال الجماعي والتراث اللا مادي للطرابلسي، لذلك ليس مستغرباً أن يتصل كل منها بقصة راسخة في الذاكرة الشعبية التي تتعايش فيها الأزمات، وعلى الرغم من تفاوت هذه المواقع لناحية الضخامة والبهاء العمراني، فإن المشترك بينها هو القيمة الحضارية، والثقافية، والروحانية.
قصور الذاكرة
بين ساكني القصور والمتنعمين بها هوة كبيرة، هذه هي قصة قصور التراثية الشاهدة على الحقبة البرجوازية الطرابلسية التي تهاوت الواحدة تلو الأخرى، قصور لم يبقَ منها إلا الاسم، وأخرى فقدت أجزاءً أساسية منها، من دون أن ننسى قصوراً يتهددها الزمن، وكثرة الورثة الشركاء بالملكية.
يعتبر قصرا "شاهين" و"المغربي" نموذجين للقصور الطرابلسية التي انهارت أجزاء كبيرة منها، فعلى مقربة من قلعة طرابلس، وفي محلة باب الحديد يُنازع قصر شاهين أعشاباً غطت أجزاء كبيرة منه، وجدراناً متصدّعة تنتظر أقرب عاصفة لتسقط على أعتاب الذاكرة. ولم تمنع الحالة الصعبة للقصر بعض العوائل الفقيرة من أن تسكنه، على غرار ما يفعل كثيرون في المدينة القديمة، وهذه هي حال عدد كبير من العائلات الطرابلسية التي تسكن بقايا القصور، ويجهل السكان الأهمية التاريخية لهذا القصر، ويعتبرونه "المأوى الأخير"، فهم لم يستأجروه من أصحابه، إنما جاؤوا إليه، وسكنوا الجزء الصالح منه.
تصحب ربة المنزل "اندبندنت عربية" في جولة بأرجاء المنزل، وتشرح أنها وضعت بوابة حديدية لفصل الغرفة التي يسكنونها عن "الأجزاء التي سقطت من القصر".
ولا تختلف قصة قصر المغربي في ساحة النجمة عن سابقاتها، فنحن أمام تحفة عمرانية، تتساقط أجزاؤها وأقسامها على الأرض، ويقع القصر خلف موقف للسيارات في قلب المدينة التجاري، ويحذر المشرف على المرآب من الدخول إلى القصر، اتقاء تعريض حياة الزائر للخطر، ويشترط أن يجري التقاط الصور عن بعد.
وكما تلفت هذه القصور الأنظار إلى ما تمتاز به من دقة شديدة في تصميمها وبنيانها، كذلك يصدم الزائر ببعض التعابير الواقعية من قبيل "الحجر مش أغلى من البشر"، "شو منعملو، إذا بني آدم عم يموت وما حدا عم يلتفت عليه".
قصر الشانشي
وعلى مقربة من ساحة النور، تقع فيلا أسرة الشانشي الإيطالية، يجهل أكثرية الطرابلسيين مكانة هذا المبنى العريق، تسكن إيلفا الشانشي وحيدة في قصرها إلى جانب أيقوناتها والشموع وصور العائلة البرجوازية، تنتظر إيلفا الفرج، لذلك لا تلتفت إلى العروض البخسة، وهي تبحث عمن يشتريه منها بالثمن المناسب، وتؤكد لـ"اندبندنت عربية" أنها عادت منذ عشر سنوات إلى طرابلس، للحفاظ على إرث العائلة الكونتية، كما تكشف أنها تفكّر جدياً بإقفال المنزل والسفر إلى زيارة عائلتها في المكسيك، وتتفاخر بأن القصر مبنيّ من أفضل مواد البناء والرخام الإيطالي، وأساساته عمقها أربع طبقات، كما يوجد في القصر تمثال "قلب يسوع" الذي يبلغ عمره 1500 سنة، ولوحات فنية نفيسة.
وترفض إيلفا الشانشي أن توضع إشارة آثار على قصرها، لأن ذلك من شأنه حرمانها من حقها بالتصرّف به أو الانتفاع به، وتبرز خشيتها بأن يكون مصير منزل آل شانشي شبيهاً بتلك القصور التي كانت تمتلكها الأسر الغنية والمندثرة.
"منزول السندروسي" والإرث الهاشمي
وعلى خلاف الصورة القاتمة، شكلت تجربة "منزول السندروسي الحسيني" بارقة أمل في ترميم المباني التراثية في طرابلس، وتمكّن عارف السندروسي من تحويل منزل العائلة في سوق الذهب إلى متحف للأسرة الهاشمية في طرابلس، ويجزم لـ"اندبندنت عربية" أن عملية الترميم كانت بمبادرة شخصية، ومن ماله الخاص، وكانت أوّل خطوة قام بها لاستعادة المفاتيح القديمة لأبواب المنزل.
ومنذ نحو عقد من الزمن، عاد السندروسي من الولايات المتحدة الأميركية، للحفاظ على إرث العائلة العريقة، وكذلك المخطوطات والفرمانات السلطانية المكتوبة باللغة التركية، التي تقرّ السلطة الزمنية والإفتاء للأخوة "محمد، وأحمد، ومصطفى الحسيني السندروسي".
وتزدحم داخل المنزول الذي يحمل الرقم "1" الوثائق التاريخية، والكتب القديمة، والصور التي تؤرخ الحقبات العثمانية، والعربية، ومن ثمّ مرحلة الاستقلال وجرّ مياه نبع رشعين إلى طرابلس، ويفتخر عارف السندروسي باحتفاظه بمقتنيات تؤرّخ مجد هذا المكان، وامتلاكه "شجرة العائلة الهاشمية التي ينتمي إليها، وتؤكد نسبهم إلى آل بيت الرسول".
واستخدم السندروسي مواد بناء شبيهة بتلك التي بُني بها منزول السندروسي على ثلاث مراحل زمنية، يصل عمرها إلى ثلاثة قرون، ويجزم أن الحفاظ على التراث ضروري، لأنه جزء من هُوية المدينة وتاريخ أهلها، واستحدث درجاً حديدياً إلى السطح الذي حوّله إلى واحة خضراء وحديقة، لكنه في الوقت نفسه حافظ على الطابع التراثي للمنزول، سواء في الأثاث، أو أدوات الزينة والصناديق، وكذلك النوافذ، كما أعاد ترميم القبو والعقود الحجرية التي توجد عند المدخل الرئيسي، واحتفظ بلوحات فنية قديمة وصور قبة الصخرة.
ويقدّم عارف السندروسي خدمة كبيرة للذاكرة الجماعية لطرابلس، وهو لم ينتظر مبادرة من الدولة أو أي جهة سياسية، لأنهم "لا يجيدون إلا الكلام"، وهو قام بالترميم، بنفسه، بسبب تمسكه بهُويته، ويعتقد أن أبناءه الذين يعيشون في الولايات المتحدة لن يعودوا ليستقروا هنا، لأنهم يعيشون في دولة تعمل وفق دستور وقوانين.
قائمة الجرد ضاغطة
وفي مدينة مليئة بالأبنية التراثية، يُعتبر من العسير تقديم إحصائية لها، فهي تنتمي إلى حقبات زمنية تمتد على خمسة قرون، وحقبات تاريخية أربع: المدينة المملوكية في منطقة القلعة ونهر أبو علي، امتداد القرون الوسطى والحقبة العثمانية، وصولاً إلى الحقبة البرجوازية، ومن ثمّ العمارة الكولونيالية، وتلتها مرحلة الحداثة.
ويؤكد الأستاذ في كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية وسيم ناغي لـ"اندبندنت عربية" أنه لا توجد قائمة إحصاء رسمية للأبنية التراثية في طرابلس، والأمر يقتصر على جهود بحثية وأعمال لبعض الجمعيات المهتمة، إلا أنها لم ترتقِ إلى مرتبة التصنيف، وجلّ ما حدث هو منع هدمها، ويشير إلى أن السنوات الـ20 الأخيرة شهدت محاولات هدم عدد كبير من الأبنية التراثية من أجل إقامة أبنية بمعدل استثماري أعلى، وينتقد عدم وجود إطار قانوني ومعايير وضوابط واضحة لحماية التراث وتأمين مصلحة المالك، معتبراً أنه "لا بدّ من تقديم قروض للتأهيل وتقديم تعويضات استثمارية، وإعفاءات ضريبية".
ويتحدث ناغي عن "تهريب للأبنية" يقوم به المالكون من أجل عدم التزام التصنيف الأثري، فمع بدء الألفية الثالثة، جرى تصنيف نحو 2600 مبنى أثري في بيروت، إلا أن "المالك تهرّب من عبء التصنيف، بسبب عدم وجود الخطط التحفيزية"، وجرى هدم أكثرها، وارتفعت مكانها مبان شاهقة، ولم يبقَ أكثر من 400 مبنى أثري، الأمر الذي دفع الدولة إلى التراجع عن التصنيف في باقي المناطق، ويدعو ناغي إلى اتباع النموذج الأوروبي الذي حافظ على المبنى، ووضع خططاً ترفع قيمة الأبنية التراثية، وتحوّلها إلى مراكز لكبرى الشركات والمؤسسات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مصادر مطلعة داخل وزارة الثقافة تحدّثت عن صعوبة وضع قائمة إحصاء عامة للمباني التراثية، ففي مدينة مثل طرابلس يوجد عدد هائل من المباني التي تعود ملكيتها إلى الأفراد، وتتحفظ مصادر مطلعة في المديرية العامة للآثار عن تقديم أرقام رسمية، لأنه لا يوجد مسح كامل للمباني، كما أن عدم اكتمال لائحة الجرد يحول دون تقديم عدد ثابت للأبنية، لأن هناك شوارع تراثية الطابع بالكامل، وتبرر المصادر التأخير في عملية الإحصاء بأنه يحتاج إلى 200 مهندس متفرع مدة خمس سنوات، يوجد منهم اثنان فقط لدى المديرية، وعليهم يقع عبء مراقبة الأعمال في أنحاء البلاد.
وتشير المصادر نفسها إلى ضرورة وضع إطار تشريعي عام لتوحيد المعايير للتعامل مع المباني التراثية والمصنفة أثرية، لافتة إلى وجود مشروع قانون وضع في أثناء فترة الوزير السابق للثقافة غطاس خوري، جرت دراسته في اللجان النيابية، ولم يصل إلى الهيئة العامة لإقراره.
لجنة للآثار في البلدية
وخلال الأعوام الأخيرة تحرّكت البلدية على خط ترميم الآثار والتعريف بالمدينة التاريخية، ويؤكد خالد تدمري، رئيس لجنة التراث والآثار والسياحة في بلدية طرابلس، أن التعاون مع الجهات المانحة أدّى إلى ترميم عدد من الأسواق، لا سيما سوق حراج، وحمام عز الدين، والتكية المولوية، وبرج التل ومتحف الأثر النبوي الشريف داخل الجامع المنصوري الكبير، كما جرى استحداث متحفين داخل قلعة طرابلس، هما متحف تاريخ طرابلس، والمتحف الأركيولوجي، وكذلك استملكت البلدية الطابق العلوي من خان الصابون التاريخي.
ويتحفّظ تدمري عبر "اندبندنت عربية" على النتيجة التي آل إليها مشروع إحياء الإرث الثقافي، ويقول إن النقطة المضيئة فيه كانت في ترميم خان العسكر وإخراج المهجّرين منه، في وقت لم يتم بعد "ترميم حمام النوري".
معركة البقاء مستمرة
ويطالب ناغي بالحفاظ على المباني التي جرى تحديثها أخيراً بدءاً بمعرض رشيد كرامي الذي صممه المعماري البرازيلي أوسكار دي ماير، الذي تأسست مؤسسة على اسمه، ويذكر ناغي بقرار هدم سينما الـ"روكسي"، وهو المبنى الوحيد الذي جرى تخطيطه ليكون سينما في طرابلس، ونفذه المهندس أميل خلاط ليكون نموذجاً حداثياً في حقبة الخمسينيات.
تجميل غير مدروس
وانصبت مجموعة من المشروعات على تجميل الواجهات الخارجية و"تدخل بسيط داخل الشقق" في منطقة العوينات وطلعة الرفاعية.
ويعتقد ناغي أن أي مشروع لا يراعي البعدين الاجتماعي والاقتصادي سيبقى بمثابة "تخدير موضعي"، لأنه "لا يمكن وضع شباك من خشب الأرز ثمنه ألف دولار، لمطبخ عائلة غير قادرة على شراء ربطة خبز". ويلفت إلى أن الخطط لدينا تفتقر إلى الأساسيات، لأن ترميم المدن القديمة، يبدأ بمرحلة المسح الشامل وتكوين قاعدة البيانات للمنازل وقاطنيها وظروفهم الصحية والاجتماعية وسلوكياتهم، وصولاً إلى تحليل هذه البيانات والمعلومات، وختاماً تأتي عملية وضع الخطط للترميم والتجميل.
وفي المحصلة، لا يمكن فصل وضع الأبنية التراثية في طرابلس عن واقع الوضع العام في لبنان الذاهب نحو الاضمحلال، خلال السنوات الأخيرة، وفقدت الخريطة الثقافية مجموعة من المواقع تحت وطأة "جشع تجار البناء"، أو عدم قدرة المالكين على الترميم، وقبل كل ذلك غياب وحدة المعايير والضوابط القانونية الواضحة.