طرحت أحداث العنف التي وقعت في إقليم دارفور أخيراً، وراح ضحيتها 163 قتيلاً و217 مصاباً في مدينة الجنينة وما حولها، بحسب لجنة أطباء ولاية غرب دارفور، تساؤلات عدة، حول مدى قدرة الدولة السودانية على الحسم ومنع تكرار النزاعات والتفلتات الأمنية في هذا الإقليم بشكل نهائي، أم أن الواقع الأمني يتطلب نشر قوات دولية مثل الـ"يوناميد"، كما كانت الحال في السابق.
وقال المحلل السياسي السوداني عبد الله آدم خاطر، إن "ما يحدث في دارفور من تفلتات أمنية وغيرها من وقت إلى آخر، لا ينفصل عما يجري في بقية مناطق البلاد، وهي نتيجة طبيعية للأوضاع التي كانت سائدة في أيام النظام السابق، الذي كان ينتهج سياسات تتبع محاور مختلفة لإخضاع المواطن السوداني عن طريق القهر الأمني والسياسي والإفقار الاقتصادي والتضليل الإعلامي، وهذا كله خلق حالة تبعية للسلطة التي استولت عليها في عام 1989 لثلاثة عقود، مجموعة أطلقت على نفسها اسم إنقاذ الوطن، لذلك بعد زوال ذلك النظام (نظام البشير)، فإن السياسات التي تركها لا يمكن أن تنتهي في سنة أو سنتين، إذ ظهرت الاختناقات التي هي من صنع النظام السابق في شرق السودان وغربه وشماله، وإقليم دارفور لم يكن استثناء، فالأحداث الأخيرة التي وقعت في مدينتَي الجنينة وتلس متشابهة في ظروفها وتكوينها ومخرجاتها".
ورأى خاطر أن "معالجة هذا الوضع تكون من خلال تغيير السياسات والعقلية التي كانت تسيطر على البلد، سواء الجهات العدلية أوالشرطية والقضائية والإدارية وغيرها، وهذه مرحلة لا يمكن تجاوزها بسهولة، لكن يجب أن نأتي بسياسات قومية تؤدي إلى دمج المجتمعات بالمبادئ الدستورية، وتحديداً سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، والشفافية، والديمقراطية، وأن تكون المواطنة أساس الحقوق والواجبات، وأن تتم عمليات التنمية بشكل كامل وكفاءة وجودة لكل أنحاء البلاد، وأن تنتهج الحكومة سياسة خارجية قائمة على الحياد تتيح لها إنشاء علاقات جيدة مع كل دول العالم بأن تكون على بعد مسافة واحدة، بالتالي يشعر كل مواطن سوداني أن انتمائه المحلي هو عضد للوطن".
حلول داخلية
واعتبر المحلل السياسي السوداني أنه "ما من ضرورة لأن تكون هناك تدخلات خارجية عبر جلب قوات دولية مرة ثانية لاستتباب الأمن في إقليم دارفور، لأن قوات بعثة الأمم المتحدة المشتركة مع الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام في دارفور (يوناميد)، التي قضت 13 سنة في هذا الإقليم بسبب اندلاع الحرب الأهلية في معظم ربوعه في عام 2003، وضعت عندما غادرت دارفور، كل الترتيبات الأمنية وغيرها، فحلت محلها بعثة الأمم المتحدة المتكاملة (يونيتامس)، التي تأتي في إطار دعم المرحلة الانتقالية في البلاد بموجب قرار مجلس الأمن الدولي 2524، وما يُسمى البند السادس. وقد تم هذا الانتقال بطريقة سلسة، لكن ما حدث من مشاكل ونزاع في دافور أخيراً يمكن أن يُحَل خارج نطاق أي اهتمام دولي، لأنه متعلق بسياسات النظام السابق الذي أطاحت به الثورة الشعبية في أبريل (نيسان) 2019، فلا بد أن تكون الحلول والمعالجات في إطار داخلي من خلال توفير المساعدة الفنية التي تسهم في حماية المدنيين في قراهم وبواديهم، فضلاً عن نزع السلاح من أيدي المواطنين حتى يعيشوا في وئام وسلام ويشعروا بالأمن والاستقرار".
ولفت خاطر إلى أنه "لا بد أن يستشعر كل شخص بأن الحرب فقدت السند الشعبي في دارفور، حيث أصبح المواطن العادي لا يريد إثارة حرب جديدة، وبات مستعداً الآن لاستيعاب العملية السياسية أياً كان المبادرون، بالتالي يجب على الحكومة الانتقالية حماية السلام الذي وقِّع أخيراً مع حاملي السلاح في عاصمة دولة الجنوب، جوبا".
حقائق مستترة
في المقابل، وصف الأمين العام لـ"هيئة محامي دارفور" الصادق علي حسن، الوضع الأمني في إقليم دارفور في أعقاب الأحداث الأخيرة، بأنه يتجه نحو الإنفلات الأمني الذي سيقود المنطقة إلى الفوضى إذا لم يتدارك، فالأحداث الأخيرة فقط كشفت الحقائق المستترة من وجود كثيف للسلاح بين أيدي القبائل والمجموعات والأفراد، وخطورة استخدام هذا السلاح في جر الإقليم إلى حروب قبلية طاحنة بين مكوناته الاجتماعية، وتأثير ذلك على الأمن والسلامة في السودان وجواره من مناطق متاخمة". وأرجع أسباب تكرار اندلاع هذه التفلتات من وقت لآخر، إلى "استمرار الوضع الذي كان سائداً في ظل النظام السابق، فالأشخاص الموجودون ذاتهم يستخدمون الآليات ذاتها والأدوات الصدئة ولم يطلهم التغيير، كذلك فإن سياسات النظام المعزول مطبقة، بالتالي لم يحدث أي تبديل، فضلاً عن استخدام رمزية القبيلة للحصول على المكاسب، إضافة إلى عدم وجود حاضنة سياسية رشيدة ترفد الحكومة بالخطط الإستراتجية، بجانب التنازع بين نخب مكونات قوى الحرية والتغيير، وأكدت الدلائل عدم قدرة هذه النخب على قيادة البلاد، لأنها لا تملك أفكاراً تقدمها، بل تتدافع نحو المناصب، ما سيعجل بدفع السودان نحو الفوضى".
وحول ما إذا كانت هناك جهات أو أياد خارجية تقف خلف هذه الأحداث، أجاب حسن "ليس بالضرورة وجود أياد خارجية وحتى إذا وجِدت يجب ألا تكون شماعة لتُعلَّق عليها أخطاء النخب، فالتقاطعات الدولية تظل في كل الأحوال واردة، ولكن وجود القيادة المدركة والواعية تضع الأمور في نصابها الصحيح، واعتقد أن مآلات الأمور الحالية ناجمة ما ضعف الحكومة المدنية وفقدانها لهيبتها، وترك إدارة الدولة للمكون العسكري داخل مجلس السيادة، حتى فقد المواطن العادي ثقته في قدرة حكومة الثورة التي يقودها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، إذ توالت الأزمات الاقتصادية ولم يعد يتطلع المواطن العادي سوى إلى الحصول على الخبز ولقمة العيش وهذه كارثة حقيقية".
وتابع الأمين العام لـ"هيئة محامي دارفور" أنه "يُعتقد أن هنالك عجزاً من الحكومة الحالية، وإغفالاً وتجاهلاً منها لخطورة الأوضاع ومآلاتها، فرئيس الوزراء يتحدث عن ضرورة التعجيل بتكوين الحكومة لحل المشكلات والتردي الأمني في دارفور، وفي تقديري فإن الوضع الأمني لا يحتاج إلى تشكيل حكومة جديدة، بل يُفترض أن تكون لدى الحكومة القائمة خطط وبرامج معدة سلفاً، فالبحث عن حلول للمشكلات والأزمات المستفحلة من خلال حكومة المحاصصات التي يُنتظر أن تُشكَل، هي تقديرات حسب رؤيتي المتواضعة غير موفقة من رئيس الوزراء، بل هي مكمن الأزمة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صراعات قبلية
ولدى سؤاله حول ما إذا كانت هذه الأحداث ستقود إلى عودة قوات دولية إلى دارفور، أجاب الأمين العام لـ"هيئة محامي دارفور"، بأن "الحكومة الحالية هي حكومة ثورة وتلقى مساندة من المجتمع الدولي، وقد لا يكون المجتمع الدولي على دراية تامة بالوسائل المناسبة لوضع الحلول الناجعة لقضايا السودان عامةً ودارفور خاصةً. فضرورة وجود القوات الدولية بحسب التفويض الدولي الممنوح في حالات حفظ السلم والأمن الدوليين قد تكون متوفرة في السودان، لكن قد لا تكون آلية مناسبة، فالحروبات والنزاعات الحالية في غالبها ذات أبعاد دخلت فيها صراعات قبلية. لذلك في حالة السودان، يتطلب الوضع خيارات وطنية من السودانيين أنفسهم، فضلاً عن ماهية الجهة أو الأفراد الذين يمتازون بالتأهيل الفهمي والأخلاقي للخروج بالبلاد إلى بر الأمان".
وتابع الحسن "المطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى، لتحقيق استقرار تام لسكان دارفور، هو تطبيق القانون على جميع مرتكبي الجرائم، وذلك بواسطة الأجهزة العدلية المختصة في الإقليم، فقد شاع التأمين القبلي على المجرمين، حيث يرتكب هؤلاء جرائم القتل والتدمير والتهجير، ومن ثم يستظلون بمظلة القبيلة والعشيرة، ومن خلال المصالحات القبلية تُطمس الحقائق ويتم التستر على الجناة ودفع الديات بواسطة القبائل، فالمصالحات ودفع الديات يمثلان التأمين القبلي، ويُعدان من أسباب انتشار الفوضى وممارسة القتل في دارفور، وإضعاف هيبة الدولة وتعليق أحكام القانون، فالقانون دخل في إجازة برعاية أجهزة الدولة ومباركتها".
وأكد أن "السلام في مثل حالة دارفور لن يتحقق من خلال الوثائق المكتوبة بل بتملك المواطنين الحقائق الكاملة بشفافية تامة، وإحساسهم أن ما تم الاتفاق عليه خاطب قضاياهم ومشكلاتهم ووجدانهم، في حين يُعتقَد أن المواطن العادي في دارفور لا يبدو مهتماً بما اتُفق عليه، وما لم يشعر هذا المواطن العادي بقيمة لهذا الاتفاق أو ذاك، في حال لم يأت المستند الموقَّع بجديد، فإن مضامينه لن تكون حجة المواطن العادي، وإذا صار كذلك فقد لا يتحقق من هذا الاتفاق أو ذاك الغاية المرجوة، وسيُضاف إلى الوثائق السابقة، ويظل الوضع على ما هو عليه وقد يتطور إلى الأسوأ".
متابعة الأوضاع
وكان مجلس الوزراء السوداني أرسل في منتصف يناير (كانون الثاني) الحالي، وفداً رفيعاً إلى مدينة الجنينة برئاسة النائب العام تاج السر الحبر، يضم ممثلين عن الأجهزة الأمنية والعسكرية والعدلية لمتابعة الأوضاع هناك، واتخاذ القرارات اللازمة لمعالجة الوضع واستعادة الهدوء والاستقرار عقب أحداث العنف التي شهدتها.
وأصدر والي غرب دارفور محمد عبد الله الدومة وقتها، الذي تعرض لمحاولة اغتيال بهجوم مسلح على منزله بالجنينة، قراراً فوّض بموجبه القوات النظامية باستعمال القوة لحسم المنفلتين بالولاية على خلفية تلك الأحداث.
وتأتي أعمال العنف في هذا الإقليم الذي شهد حرباً أهلية في عام 2003 أودت بحياة 300 ألف شخص وشردت أكثر من مليونَين، بعد أقل من ثلاثة أسابيع على تسلم الحكومة السودانية مهمات الأمن من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي العاملة في البلاد منذ عام 2007.