لا تزال الشركات النفطية "مترددة" في قرارات الاستثمار الاستكشافية والتنقيب الجديدة، إذ أثرت جائحة كورونا سلباً في القطاع بشكل واضح، وهو ما تجلى في تذبذب المؤسسات لناحية استمرار المشاريع القائمة والمستقبلية، إلا أن الارتفاعات الأخيرة في الأسعار قد تحوّل هذا التراجع إلى "ضخ مزيد من الأموال".
وفي الوقت ذاته، تواجه صناعة النفط ضغوطاً دولية لتسريع الخُطى نحو برامج تحول الطاقة بزيادة المخصصات في موازنات الشركات الموجهة إلى الاستثمار في موارد أخرى غير النفط والغاز، بزيادة الإنفاق على الطاقة الشمسية والرياح والوقود الحيوي وجمع الكربون في ضوء اتساع المخاوف الخاصة بتغير المناخ.
نحو إعادة تشكيل صناعة النفط
ويتخوّف متخصصون في شؤون النفط أن تصبح الاستثمارات الجديدة "مهددة" بضغط انخفاض الطلب العالمي وهبوط الأسعار، إضافة إلى التوجه الدولي نحو مصادر الطاقة المتجددة.
غير أن التوقعات تشير إلى أن الإنفاق الرأسمالي العالمي من قبل شركات الاستكشاف والإنتاج في العام الحالي "بات في صعود"، بعد أن سجّل تراجعاً في 2020 هو الأدنى منذ أكثر من عقد، نتيجة اضطرار عدد من شركات الطاقة الحكومية في المنطقة إلى تقليص نفقاتها وتأجيل كثير من مشاريعها الاستثمارية.
وذكر متخصصون أن أسواق النفط "ما زالت تتعافى" من أكبر أزماتها على مر التاريخ، التي أثرت بالتبعية في الاستثمارات بالقطاع، وترتب على ذلك إعلان كبرى الشركات النفطية "تخفيض النفقات الرأسمالية"، خصوصاً في مجال استكشاف وتطوير الحقول الجديدة، إذ قدّروا أن ذلك ستجري ترجمته إلى أسعار نفط أعلى مستقبلاً، مع توقف الاستثمارات في الحفر والتنقيب والإنتاج الجديدة.
وبحسب دراسة استقصائية نشرتها "دي إن في جي أل" النرويجية، وهي الشركة الاستشارية المستقلة في القطاع البحري وقطاع الطاقة والمتخصصة في مجال ضمان الجودة وإدارة المخاطر، فإن صناعة النفط "تتوقع زيادة الاستثمار" بأنظمة الطاقة في المستقبل هذا العام، إذ تسعى الشركات إلى "التحوّل على المدى الطويل".
ووفق الشركة، التي مقرها أوسلو، أفاد خمسة من كبار المتخصصين في مجال النفط والغاز (21 في المئة) بأنهم "سيزيدون الاستثمار في المشاريع النفطية خلال 2021"، إذ يتعامل القطاع بشكل أكبر مع فكرة أن الطلب العالمي على النفط قد بلغ ذروته، أو أنه سيبلغ تلك الذروة "على المدى القصير إلى المتوسط". ولا تزال توقعات زيادة الاستثمار في الغاز الطبيعي "ثابتة عند 37 في المئة".
ويتوقع غالبية كبار المتخصصين في النفط والغاز أن هذه التحوّلات ستؤدي إلى "إعادة تشكيل أوسع للصناعة"، التي تتحرك في ثالث انكماش كبير خلال 12 عاماً. لكن، تقديرات 2021 تتأثر باحتمالية أن يكون هذا الانكماش مختلفاً عن السابق. وربما يكون الاختلاف الأكثر أهمية هو "التحول في رأس المال بعيداً من الوقود الأحفوري".
وجدير بالذكر أن صناعة النفط والغاز "لم تضغط" على مكابح الإنفاق بالقوة ذاتها التي كانت عليها بعد الانكماش في 2014. في حين انخفضت نسبة المستطلعين الذين يتوقعون الحفاظ على النفقات الرأسمالية أو زيادتها في العام المقبل إلى 62 في المئة، انخفاضاً من 72 في المئة حتى 2020، وهذا أعلى بكثير من 43 في المئة المسجلة بعد الانكماش الأخير.
ومن المعروف أن أحد التأثيرات الأساسية لأزمة عرض النفط اليوم هو إعلان الشركات الكبرى في المجال "تخفيض النفقات الرأسمالية"، خصوصاً في مجال استكشاف وتطوير الحقول الجديدة، فأسعار النفط المنخفضة ستترجم إلى أعلى في المستقبل، إذا توقفت الاستثمارات في الحفر والتنقيب والإنتاج.
وفي 2019، انتعشت الاستثمارات النفطية بشكل ملحوظ، وتمكّنت شركات النفط والغاز من استكشاف 12.2 مليار برميل جديد، وهو ما يمثّل أعلى مستوى في أربعة أعوام، ومعظم هذه الاكتشافات الجديدة في حقول بحرية وفي المياه العميقة.
هل ستعدّل الشركات إنفاقها الاستثماري؟
تقول صحيفة نيكي الاقتصادية في تقرير حديث إن مجموعة سوميتومو اليابانية للتجارة "ستتوقف عن الاستثمار في مشاريع نفطية جديدة"، في إطار تحوّل عن أعمال الوقود الأحفوري وسط مساعٍ عالمية للحد من انبعاث الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري.
وتأتي الخطوة في وقت تقلّص شركات التعدين العالمية ودور التجارة اليابانية انكشافها على مشاريع الفحم، شاملة أعمال التعدين وتوليد الكهرباء منه، بهدف احتواء انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وكبح تغير المناخ.
في هذا الصدد، قال أنس الحجي، المتخصص في شؤون النفط والطاقة، "مع تحسّن أسعار النفط والرؤية المستقبلية للطلب، ستعدّل الشركات إنفاقها الاستثماري وترفعه بشكل ملحوظ"، مضيفاً "علينا أن نتذكر أنه ليس هناك تنافس مباشر بين الطاقة المتجددة والنفط في الدول الصناعية والصين والهند".
وأوضح، "أي زيادة في حصة الطاقة المتجددة ستكون على حساب المصادر الأخرى، خصوصاً الفحم، لكن لا تنافس حول النفط، لأنه نادراً ما يُستخدم في توليد الكهرباء في هذه الدول، التي تمثّل غالبية مستهلكي الخام في العالم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبه، قال محمد الشطي، المتخصص في الشؤون النفطية إن "عام 2014 سجّل أعلى متوسط للإنفاق على مشاريع المنبع بالنسبة إلى النفط والغاز، بينما 2020 أقل متوسط للإنفاق"، عازياً تراجع الاستثمارات خلال العام الماضي إلى "جائحة كورونا وانكماش الاقتصاد العالمي والانخفاض الكبير في أسعار النفط".
وأضاف، "كل ذلك أدى إلى تفاقم الأمور بالنسبة إلى إمدادات النفط، وترتب عنه إغلاق المنتجين الآبار، وتأخير المشاريع وتخفيض الاستثمار أكثر وإعلان عدد من الشركات النفطية الأميركية الإفلاس، وهو ما يعني إعادة هيكلتها، لتتأقلم مع متغيرات أسواق النفط ودمجها مع شركات أخرى، بالتالي تأثر متوسط إنتاج الخام، وهو ما حدث فعلياً خلال 2020".
وتابع، "انخفاض الاستثمار قد يكون له تأثير أكبر في المعروض النفطي بالمستقبل"، موضحاً "بلا شك عام 2020 شهد تعافياً في أساسيات السوق وبأسعار النفط، وارتفع معه متوسط الإنفاق عن السنوات السابقة، لكنه لا يصل إلى أعلى مستوى تحقق في 2014، وتكون له تأثيراته في الإمدادات على العموم".
وتحدث الشطي عن أنه يجب التنبه إلى أمور بالنسبة إلى المعروض، خصوصاً داخل مجموعة "أوبك +" التي خفّضت إنتاجها بمقدار عشرة ملايين برميل يومياً، وبدأت تعاود إنتاجها تدريجاً بما يتناسب مع الخطة الموضوعة لتأمين توازن السوق النفطية، كذلك هناك دول تأثر إنتاجها بسبب عوامل فنيه وسياسية، منها ليبيا وإيران وفنزويلا، بالتالي هناك أيضاً آفاق لزيادة المعروض مستقبلاً.
ويرجّح المتخصص النفطي أن تشهد أوضاع السوق خلال 2021 "تعافياً في المجالات كافة"، كما هو متفق عليه بين البيوت الاستشارية ومؤسسات التمويل الدولية، إذ تشير التوقعات إلى ارتفاع الأسعار إلى مستوى 60 - 65 دولاراً للبرميل.
توقعات سلبية
وبحسب تقرير حديث لوكالة "فيتش" للتصنيفات الائتمانية، فإن نحو ثلث تصنيفاتها في قطاع النفط والغاز "سلبية"، لا سيما في أميركا الشمالية. وعلى الرغم من أن افتراضات أسعار الخام "لم تتغير"، فإن الانتعاش الأخير في الأسعار "يخفف الضغط على القطاع"، مما قد يقلل من معدل تحويل التوقعات السلبية إلى إيجابية.
وذكرت الوكالة، "على الرغم من أن الطلب لا يزال ضعيفاً بسبب الجائحة، فقد ارتفعت أسعار النفط بشكل ملموس منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2020، نظراً إلى تخفيضات إنتاج "أوبك +" وهبوط مخزونات النفط وزيادة تفاؤل المستثمرين، بدعم من طرح اللقاح في بلدان عدة".
وأضافت، "أسعار النفط لا تزال تتعرض للضغط، لا سيما في النصف الأول من 2021، قبل أن يجري تنفيذ برامج التطعيم الفعالة بشكل كامل".
أنماط جديدة للاستثمار
من جهته، قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان آل سعود "إن المملكة ستستحدث أنماطاً جديدة لاستثمار النفط والغاز"، مشيراً إلى سعيها لـ "إحلال الطاقة الشمسية محل سوائل البترول" ومؤكداً خلال حفل إطلاق الهوية الجديدة لوزارة الطاقة أن بلاده "لا تخشى التحديات، إنما تُقدم عليها".
وأوضح، "سنعمل عبر برنامج استدامة الطلب على المواد الهيدروكربونية، إضافة إلى استحداث أنماط جديدة لاستغلال البترول والغاز".
وفي وقت سابق خلال العام الماضي، توقعت الشركة العربية للاستثمارات البترولية (إبيكورب)، وهي مؤسسة مالية تنموية متعددة الأطراف، أن يصل مجموع استثمارات الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال السنوات الخمس المقبلة (2020 - 2024) إلى أكثر من 792 مليار دولار أميركي.
وبالمقارنة مع تقرير توقعات استثمارات الطاقة للعام الماضي 2019 الذي قدّر مجموع الاستثمارات في المنطقة بما يزيد على 965 مليار دولار للأعوام 2019 - 2023، فقد سجلت الاستثمارات للأعوام 2020 - 2024 انخفاضاً يقدّر بنحو 173 مليار دولار.
انخفاض النفقات
وبحسب توقعات سابقة لوكالة الطاقة الدولية، قدّرت انخفاض النفقات الرأسمالية لقطاع الطاقة العالمية بـ 18 في المئة إلى 1.5 تريليون دولار خلال 2020، يستحوذ قطاع النفط والغاز على النسبة الأكبر من التراجع.
وأشارت الوكالة في تقريرها إلى استمرار الضغوط على الإنفاق، بسبب ضعف الموازنات العامة للشركات مع تزايد حالة عدم اليقين وضعف الطلب، بينما لا يزال الاستثمار في إمدادات الوقود هو الأكثر تضرراً، إذ من المتوقع أن ينخفض الإنفاق على النفط والغاز 35 في المئة خلال 2020.
ووفق التقرير، تراجعت استثمارات شركات النفط والغاز الكبرى بنحو الربع، على الرغم من تكاليف الاقتراض التي يمكن التحكم فيها، إلا أن الضربات الإضافية للإيرادات من انخفاض الأسعار والطلب، إلى جانب ضغط المستثمرين، تفرض التركيز على المشاريع العالية القيمة ذات التدفقات النقدية السريعة نسبياً، إذ خفّضت شركات النفط الوطنية التي تشكل 55 في المئة من الإنتاج عالمياً، "الاستثمار بشكل حاد".
ومن المرجح أن يكون للركود في الاستثمار بالطاقة تداعيات كبيرة على أسواق الطاقة خلال السنوات المقبلة، على الرغم من أن الانكماش الاقتصادي يضع ضغوطاً هبوطية على الطلب. كما سيتطلب نظام الطاقة المستقبلي رأسمالاً أكبر بكثير لضمان هذا العرض.
وكذلك سيستدعي تحقيق أهداف الاستدامة تحوّلاً جذرياً في تخصيص رأس المال عبر القطاعات. ويجب أن ترتفع حصة الطاقة النظيفة من إجمالي الاستثمار إلى نحو الثلثين بحلول 2030، مصحوبة بتوسيع كبير في الطاقة النظيفة وشبكات الكهرباء وقطاعات جانب الطلب.