في المقال السابق، حاولت تفسير الظاهرة غير التقليدية المسماة "الرئاسة الترمبية"، وطرح الأبعاد التي أدت إلى وصوله للبيت الأبيض. وقد شاهد العالم ترتيبات غير تقليدية أخرى في أثناء مغادرته، فبعد أن تسبب تحريضه في واقعة السادس من يناير (كانون الثاني) الماضي، واقتحام الكونغرس، وحُجب في كثير من مواقع التواصل الاجتماعي، على رأسها "تويتر"، خرج في النهاية رافضاً الاعتراف بهزيمته، ولم يشارك في تنصيب الرئيس الجديد، مخالفاً تقاليد مستقرة في النظام الأميركي.
وفي الحقيقة، لا يخلو موقع إعلامي من مناقشة إرث الرئيس السابق دونالد ترمب، وماذا سيحدث في الولايات المتحدة، وكيف ستتصرف الإدارة الجديدة. لكن، سأركز على منظور محدد، وهو وضع الولايات المتحدة في العالم، وذلك من عدة أوجه.
ملفات سياسية خارجية ملتبسة
من غير الموضوعي التركيز على وجه أو ناتج واحد من سياسات ترمب، ولأنني من الذين يحاولون التذكير بالسياق التاريخي لتطورات السياسة الدولية عموماً والأميركية خصوصاً، فأشير مرة أخرى إلى أنه من الضروري النظر إلى كل سياق السياسة الخارجية الأميركية منذ جورج بوش الابن على أنها اجتهادات ورؤى متنوعة من تداعيات ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001 من ناحية، وبدء صعود تدريجي لقوى عظمى جديدة تحاول أن تشارك في إدارة المجتمع الدولي، سواء الاتحاد الروسي أو الصين أو قوى أوروبية أو حتى بازغة من ناحية أخرى.
وكانت رؤية إدارة بوش الجمهورية هي اللجوء إلى الأداة التقليدية العسكرية في السياسة الخارجية الأميركية لإعادة ترتيب العالم، فكان تدخلها الأول في أفغانستان، والثاني بالعراق تحت دعاوى ومبررات مختلفة، وكان الهدف من استعراض القوة أن تفهم القوى الصاعدة حدودها، والأهم مواصلة السيطرة على إمدادات العالم من النفط.
في حالة العراق، كانت هناك أفكار مسطحة حول السيطرة على ثرواته الطبيعية عموماً، والتمدد إقليمياً إذا أمكن هذا، لكن خرج بوش بناتج هزيل، فقد احتل أفغانستان، ولم يتمكن من فرض سيطرته على جبالها المنيعة، لتنطلق منها عمليات طالبان مجدداً، وليتواصل استنزاف الولايات المتحدة هناك الذي سنعود إليه مجدداً. وحطم بوش كيان الدولة ومؤسساتها، فأنتج انقسامات دينية وطائفية بحدة لم يعرفها العراق الحديث، وربما في أي مرحلة تاريخية سابقة.
وجاء أوباما بأفكار وتوجهات أكثر مثالية ليصطدم مع معطيات بالغة التعقيد، فواصلت ملفات العراق وأفغانستان تعقدها، وكانت تدخلاته في مجتمعات ما سمي "الربيع العربي" ملتبسة ومحملة بمنطق مزدوج ومليء بالثغرات، كما أنه لم يكن لديه تصور واضح، لكيفية التعامل مع نمو الصين، ولا مع القوى الأخرى الصاعدة، فانتهى به الأمر بحصيلة إنجازات خارجية محدودة لم تعد التماسك لدور بلاده، فضلاً عن أن جاذبية النموذج الأميركي التي مثلها اصطدمت بعدم قدرته على الوفاء بوعوده ـ القضية الفلسطينية مثلاً ـ وفي النهاية غادر البيت الأبيض، وهناك إحساس أميركي عميق بضرورة طرح حلول أخرى، لاستعادة التصدر والهيمنة.
مصير التجربة الترمبية: خلل الرؤية
فسر البعض أن الظاهرة الترمبية هي في النهاية محاولة لوقف التراجع الأميركي، وبالتحديد محاولة احتواء صعود الصين إلى موقع المنافسة الفعلي مع الولايات المتحدة، وبالفعل جاء الخطاب السياسي للرجل مركزاً على الصين، وحاول طوال الوقت عدم الالتفاف إلى محاولة المؤسسات الأميركية التركيز على اللاعب الروسي، الذي لا يزال وحده خصماً يملك الردع النووي للولايات المتحدة، فضلاً عن أن أصابعه بدأت تعود إلى التحرك والتمدد الخارجي، خصوصاً في الشرق الأوسط، تحديداً سوريا بدرجة كبيرة وليبيا إلى حد ما، فضلاً عن الجمهوريات الإسلامية الآسيوية.
لكن، رؤية ترمب لم تكن تريد سوى التركيز على الصين، وأدى هذا إلى لبس طوال سنوات إدارته الأربع، خصوصاً مع تأكيد المخابرات الأميركية أن موسكو حاولت التأثير في الانتخابات التي أوصلت ترمب إلى الحكم لصالحه ضد هيلاري كلينتون، وهنا كان محور هذا الخلل الاستراتيجي في رؤية إدارة ترمب وتحركها السياسي، فقد كان من الواضح أنه ليس هناك اتفاق استراتيجي بين الرجل ومؤسسات الدولة حول الخصوم الذين يهددون وضعية ومكانة واشنطن في الساحة الدولية.
وقد أسفر هذا الارتباك في الرؤية الاستراتيجية عن تخبط في السياسات المتبعة، وتردد وعدم وضوح في التعامل مع روسيا، تجلى في التراجع عن سحب القوات الأميركية بالكامل من سوريا، واضطراره لسحب جزئي، ثم إطاحة حلفائه الأكراد، تمشياً مع الدور التركي الذي خصم من انتصار موسكو في الساحة السورية، والانتهاء بموقف التخلي عن الأكراد، وتمكين تركيا من بناء حاضنة لداعش والقاعدة في مناطق سيطرتها في الأراضي السورية. وهو ما يعني فيتو أميركياً للانتصار على روسيا مقابل ضياع سوريا وحلفاء واشنطن وتكريس استمرار داعش الذي تدخلت واشنطن في عهد أوباما، بحجة القضاء عليه لتكتمل أبعاد مشهد هزلي، فيه واشنطن تقبل بدور لا يليق بالدولة العظمى، ولا بأي قيم تدّعي الدفاع عنها.
لكن، ترمب كان عالي الصوت تجاه الصين، وفرض عليها عقوبات. كانت أولى نتائجها أنها وسعت من اعتمادها على سوقها الداخلية، ورفع مستوى معيشة شعبها، بما سيمنحها مزيداً من القوة مستقبلاً. ولم يتوقف نمو الاقتصاد الصيني، صحيح أنه تباطأ بعض الشيء، خصوصاً بعد أزمة كورونا، لكنه يواصل النمو بمعدلات أعلى من نظيره الأميركي، وبعد أن كانت التوقعات أنها ستلحق بالولايات المتحدة عام 2050، يتحدث البعض الآن عن نهاية العقد الحالي.
عموماً، المسألة الصينية معقدة، وتحتاج إلى معالجة مستقلة بسبب التداخل الاقتصادي مع أميركا. وفي النهاية، يغادر ترمب ولم يحقق رؤيته الاستراتيجية أو حتى يمهد الطريق لها.
اهتزاز هيبة الولايات المتحدة
تكشف مراجعة كيفية معالجة ترمب عدداً من ملفات أزمات السياسة الخارجية لبلاده عن نتيجة صادمة، وربما يجب أن نبدأ من كوريا الشمالية، فقد قام ترمب بأكبر عملية تصعيد سياسي ودبلوماسي وإعلامي وكذا اقتصادي ضد هذه الدولة، واقترب الأمر من تهديدات الحرب وانفلات المواجهة، وعندما بدأ التفاوض بين البلدين اعتبر البعض هذا التصعيد بمثابة ضغوط لإجبار بيونغ يانغ على التفاوض بشكل مفيد، فيما يتعلق بتنازلاتها النووية، وفى بعض القضايا الخلافية الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتحولت المواجهة إلى حوار وغزل بين ترمب والرئيس الكوري، وأطلق البعض سيناريوهات وهمية حول ناتج هذه المفاوضات، التي تعثرت بعدة جولات، ولم تتزحزح كوريا الشمالية التي تعتبر ببساطة أن تخليها عن قوتها العسكرية، خصوصاً النووية، بمثابة بداية النهاية لنظامها السياسي الشمولي، بما ليس له نظير في عالم اليوم. وفي جميع الأحوال انتهى الأمر بفشل هذه الاستراتيجية الأميركية الجديدة، من تصعيد أهوج ثم تقارب هزلي بين القيادتين. وبالنهاية، لم تتحقق أهداف السياسة الأميركية ولم تتراجع كوريا الشمالية.
وفي الملف النووي الإيراني أيضاً، لم يؤد التصعيد إلى تراجع طهران، بل ربما أدى إلى مزيد من تغلغلها الإقليمي وكذا مزيد من خطوات انتهاك التزاماتها النووية، وعمليات الاغتيال للجنرال قاسم سليماني وعلماء إيران النوويين أسفرت عن تكريس العداوة والتشدد الإيراني بصرف النظر عن كيفية معالجة هذا الملف مستقبلاً.
ولو أضفنا إلى كل هذا اهتزاز الهيبة مع حلفاء الناتو ودول أميركا اللاتينية بسبب التجاوزات والتصرفات غير المناسبة من جانب ترمب، التي أهدرت حتى مواقف وإنجازات حققها بدفع الحلفاء إلى تحمل قسط مناسب من تكاليف الدفاع الأطلنطي، وهو موقف له استحقاقاته لكن طريقة إخراجه كانت تحتاج إلى قدر كبير من الكياسة. إضافة إلى كل هذا يأتي مظهر إهدار الديمقراطية الأميركية وقيم العلم لتكمل صورة اهتزاز الولايات المتحدة.
إهدار قيم الديمقراطية والعلم
في مقال سابق، أشرت إلى أن خطورة طريقة معالجة اتفاقية التغير المناخي من جانب ترمب كانت في إهدار قيم العلم والاستهانة بها بشكل يذكر بالعصور الوسطى، وكان الأحرى به أن يعلن أن قراره هذا مبني على مصالح بلاده الاقتصادية، من دون أن يغالط ويقول إنه لا يصدق اللجنة العلمية التي كلفها هو نفسه دراسة الأمر.
وفي مجمل سلوكه، كان يهدر ويبرز عدم احترامه مفاهيم الديمقراطية، ليختتم رئاسته بالمشهد المؤسف في السادس من يناير، ليكون خروجه هو الأسوأ في تاريخ بلاده، وليكمل هذا البعد وبشكل خطير من اهتزاز صورة ومكانة بلاده الدولية.
الحصيلة النهائية
كما ذكرنا في مقالنا السابق، مفتاح شخصية الرجل هو افتتانه بنفسه، وهو من البشر الذين يتوهمون أنهم سيتركون إرثاً تاريخياً بارزاً يخلدهم. وفي الحقيقة أن ما تركه سيجعل المؤرخين يتساءلون في المستقبل كيف وصل هذا الرجل إلى البيت الأبيض؟ وهل كان هذا إحدى أكبر مقدمات تراجع المكانة الأميركية؟ وهل ستفلح جهود من خلفوه في إبطاء هذه التحولات أو عكس اتجاهها؟ أسئلة تحتاج إجاباتها بعض الوقت.